قضايا وآراء

الثورة التي نريد (3)

أحمد عبد العزيز
1300x600
1300x600
بداية.. أعتذر للقارئ الكريم، عن انقطاعي عن الكتابة خلال الأسابيع الماضية؛ لإصابتي بـ"كورونا" للمرة الثانية، وها أنا أستكمل ما بدأته، بعد أن مَنَّ الله عليَّ بالشفاء، والحمد لله رب العالمين..

يصدر هذا المقال (وهو الثالث في هذه السلسة) على وقع دعوات للخروج يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، يأمل أصحابها في إزاحة ياسر جلال من المشهد؛ كونه هو السبب الرئيس، إن لم يكن الوحيد، في وصول مصر إلى حافة هذا الانهيار المدوّي الذي تشهده اليوم، على كل الصُّعُد، وفي مختلف المجالات، وتنكره بشدة سلطة الانقلاب، على لسان رئيسها، وأبواقها الإعلامية، ولجانها الإلكترونية!

ولأن هذه الدعوات تتحدث عن "ثورة تشيل ما تخلِّي"، و"يوم الخلاص"، و"تحرير مصر".. فنحن لسنا بعيدين عن موضوع هذه السلسة التي اخترت عنوانها بعناية منذ البداية.. "الثورة التي نريد".. غير أني سأعتبر هذا المقال بمثابة "جملة اعتراضية" في هذا الموضوع الكبير.

أول من دعا للخروج يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري هو المقاول محمد علي الذي دعا (من قبل) للخروج يوم 20 أيلول/ سبتمبر 2019، وقد استجاب لتلك الدعوة عدد لا بأس به من المصريين، غير أن ياسر جلال (الذي كان مدعوما من ترامب في حينه) توصل مع الجهة التي تحرك محمد علي لتسوية مكَّنته من الاستمرار في موقعه؛ لاستكمال المهمة التي "زُرِع" للقيام بها، ألا وهي "تخريب مصر وتجريفها وتفكيكها، وسحق شعبها"، وقد باتت الشواهد على ذلك أكثر من أن تُحصى!
كون العسكر هم الذين يملكون القوة المميتة، واقتصاد البلاد، ويمكنهم السيطرة على كل المؤسسات السيادية والمواقع الحيوية خلال ساعات، فلا يمكن تغيير رأس السلطة إلا برضاهم، أو بمشاركتهم، أو بتخطيط منفرد منهم

بعد أن لاقت هذه الدعوة رواجا إعلاميا، وتبناها نشطاء بارزون على مواقع التواصل الاجتماعي، ووصل صداها إلى الصحف العالمية، بل وحذرت حكومات غربية رعاياها في مصر من قرب وقوع اضطرابات على أرضها، أعلنت جهات مجهولة تبنيها هذه الدعوة، بصورة أوحت للمتلقي أنهم أصحابها، وهنا يطل سؤال برأسه: هل الجهة التي تحرك محمد علي هي التي أصدرت هذه البيانات؟ أم أن هناك جهة أو جهات أخرى تنازع هذه الجهة الأمر؟ أم أن هناك جهات أخرى تحاول حجز موقع لنفسها في المشهد المقبل، حال نجاح هذه الدعوة في إزاحة ياسر جلال؟ لا أحد يعرف على وجه اليقين!

ليست ثورة!

كون العسكر هم الذين يملكون القوة المميتة، واقتصاد البلاد، ويمكنهم السيطرة على كل المؤسسات السيادية والمواقع الحيوية خلال ساعات، فلا يمكن تغيير رأس السلطة إلا برضاهم، أو بمشاركتهم، أو بتخطيط منفرد منهم.. هذه حقيقة يجب التسليم بها، في الوضع الحالي على الأقل!

والحال كذلك، فإننا لسنا بصدد ثورة، وإنما نحن بصدد استنساخ لدعوة الخروج يوم 25 كانون الثاني/ يناير 2011 التي استجاب لها الشعب، ووظفها العسكر (إن لم يكن هم أصحابها الحقيقيون) لإزاحة مبارك، وإفشال سيناريو توريث نجله جمال؛ ليؤول إليهم حكم مصر بصورة مباشرة. وقد بدا ذلك واضحا (كل الوضوح) في البيان المقتضب الذي ألقاه اللواء عمر سليمان، ونصَّ على "تكليف المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإدارة شؤون البلاد والله الموفق والمستعان". ولولا المليونيات المتكررة، والحضور الطاغي للإخوان المسلمين الذي لم يكن من الممكن تجاهله وقتئذ، اضطر المجلس العسكري إلى الذهاب لانتخابات رئاسية، أفضت إلى فوز مرشح الإخوان الدكتور محمد مرسي (رحمه الله)، وكانت تلك مخاطرة كبيرة، أو مراهنة بمصالح العسكر ونفوذهم، دون شك..

غير أن العسكر سلكوا أحقر السبل، وأشدها دناءة؛ لتحويل هذه المخاطرة إلى مكسب كبير! وذلك بأن خططوا لاستغلال وصول الإخوان إلى السلطة (دون استعداد كافٍ) للخلاص منهم! فحاكوا ضدهم المؤامرات، ووظفوا أذرعهم الإعلامية، ولجانهم الإلكترونية لإطلاق الشائعات، وحطوا من شأن الرئيس، وأظهروه بمظهر الضعيف التابع لمكتب الإرشاد، وشكلوا مليشيات "بلاك بلوك" و"تمرد" وغيرهما؛ لإثارة القلاقل والفوضى، واستعانوا بعناصر الدولة العميقة لاختلاق الأزمات، مثل أزمتي الوقود والكهرباء، مستغلين حالة السيولة التي "صنعوها" وصبغوا بها الواقع، ومستغلين (أيضا) حالة التسامح التي أشاعها الرئيس مرسي؛ للمّ الشمل ورأب الصدع السياسي والمجتمعي!
لسنا بصدد ثورة، وإنما نحن بصدد استنساخ لدعوة الخروج يوم 25 كانون الثاني/ يناير 2011 التي استجاب لها الشعب، ووظفها العسكر (إن لم يكن هم أصحابها الحقيقيون) لإزاحة مبارك، وإفشال سيناريو توريث نجله جمال؛ ليؤول إليهم حكم مصر بصورة مباشرة

إخضاع السلطة الجديدة!

لا يهمني مَن يكون خلف دعوة الخروج يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، حتى لو كان ياسر جلال نفسه! فالخروج بأعداد كبيرة، وانتشارها على مساحات واسعة، سيشتت قوات الأمن، وسيصيبها بالعجز.. وبقاء هذه الحشود في الشوارع (وليس الميادين)، كفيل بقلب المعادلة لصالحها، وفرض إرادتها، ويجب ألا تنفض هذه الحشود إلا بعد تأكدها من ذلك!

كما لا يهمني مَن يتصدر المشهد بعد ذلك، سواء عن جدارة واستحقاق، أو طمعا في الشهرة والاسترزاق.. فهذه طبيعة الأحداث الجسام، في غياب قيادة رشيدة تملك رؤية وخطة للهدم والبناء.. أرجو أن يكون لدى المتطلعين للسلطة، حال الإطاحة بأركان سلطة الانقلاب الحالية "خطة إنقاذ شاملة" تبدأ لحظة استحواذهم على السلطة.

من الأهمية بمكان، أن تحل تشكيلات شعبية محل قوات الشرطة النظامية مؤقتا، إلى أن تبرهن السلطة الجديدة (عمليا) على مصداقيتها.. تكوين هذه التشكيلات متروك للفاعلين والعقلاء في كل حي ومركز وقرية ونجع! فالناس كفيلة بحفظ أمنها.. تكمن أهمية هذا الإجراء، في أنه ينزع أنياب السلطة الجديدة، ويشل يدها الباطشة، ويعلمها أن الشعب أصبح هو السيد.. ففي غياب قوات الشرطة النظامية، وقيام تشكيلات شعبية بوظيفتها، سيجعل السلطة الجديدة عاجزة عن ممارسة الإرهاب بحق الشعب أو استعباده أو تهميشه! وهذا إنجاز نوعي هائل إذا تحقق!

أما إذا لم تسفر هذه الدعوة عن إزاحة أركان سلطة الانقلاب، فإن ذلك سيسبب إحباطا ولا شك، غير أن أسباب الإطاحة بها ستظل باقية؛ لأن هذه السلطة لم تنقلب على إرادة الشعب، وتختطف الرئيس المنتخب، وتسجنه ست سنوات وتحاكمه بتهم ملفقة، ثم تقتله، ولم تعتقل وتقتل وتشرد كل هذه الآلاف من خيرة شباب مصر، بهدف الإصلاح والتطوير، وإنما انقلبت للتخريب والتجريف والتدمير والإفقار والتجهيل، وهذا ما يراه الناس بأم عينهم اليوم! ولن تتوقف الدعوات للتغيير، ما بقي في الشعب المصري شرفاء، وهم كثر ولله الحمد.

لا تغيير حقيقيا في غياب الوعي!

إذا كان الشعب واعيا، فسيعجز الحاكم عن ممارسة الاستبداد، حتى لو امتلك مؤهلاته وأدواته.. وغياب الوعي لدى الشعب، يشجع الحاكم على الاستبداد، حتى وإن لم تكن لدية مؤهلاته وأدواته! والحقيقة المُرَّة تقول: إن الشعب لم يصل إلى الدرجة المرجوة من الوعي التي تجعله مدركا لماهية الثورة، ومن ثم القيام بها!
إذا لم تسفر هذه الدعوة عن إزاحة أركان سلطة الانقلاب، فإن ذلك سيسبب إحباطا ولا شك، غير أن أسباب الإطاحة بها ستظل باقية؛ لأن هذه السلطة لم تنقلب على إرادة الشعب، وتختطف الرئيس المنتخب، وتسجنه ست سنوات وتحاكمه بتهم ملفقة، ثم تقتله، ولم تعتقل وتقتل وتشرد كل هذه الآلاف من خيرة شباب مصر، بهدف الإصلاح والتطوير، وإنما انقلبت للتخريب والتجريف والتدمير والإفقار والتجهيل

من مصلحة الحاكم المستبد أو غير الرشيد، غياب الوعي لدى الشعب، فالوعي هو العدو الأول للاستبداد.. لذا، فإن هذا الحاكم يحرص على تغييب وعي الشعب؛ لسلب قدرته على محاسبته أو عزله، من خلال تعليم لا يخلق وعيا، وإعلام يحارب القيم، وينشر الدين المغشوش، وأجهزة أمنية تثير الخوف، بدلا من إشاعة الأمن!

إذا ثار الشعب عديم الوعي على الحاكم المستبد، فلن يأتي بحاكم أفضل منه.. وإذا حدثت طفرة، وجاء حاكم رشيد، فلن يدرك هذا الشعب المغيَّب قيمة هذه المنحة المفاجئة، وسيتجرأ عليه، وسيسقطه! وقد أثبتت تجربتنا باهظة الكلفة ذلك.

علينا أن ندرك أننا مجتمعات مسلمة أولا، وأن ما يصلح لغيرنا ليس بالضرورة أن يصلح لنا.. على كل ذي منبر وقلم إشاعة الوعي، من منظور إسلامي أصولي غير مُحرَّف ولا ملوَّن، وليس من منظور سياسي أو قُطري أو حزبي..

إشاعة الوعي بين الناس، هو أقصر الطرق نحو حكم رشيد وحياة كريمة، وإن بدا هذا الطريق طويلا وشاقا.. فأعمار الأمم لا تقاس بأعمار أجيالها، فالصحابة الذين استشهدوا في بدر وأحد والخندق لم يروا دولة الإسلام التي حازت ثلث العالم..

أتفهم استعجال الناس للخروج من هذا البئر السحيق، ولكن الله لا يعجل لعجلة الناس، لا سيما إذا كانوا لا يكترثون بأوامره ونواهيه، بل ويزيدون في عصيانه، فيستحلون ما حرَّمه عليهم، بأي ذريعة..

أيها السادة.. نشر الوعي بالدين "الصحيح النقي" كفيل بتغيير الواقع 180 درجة! فمجتمعاتنا ليست كافرة ولا ملحدة، والبحث عن تغيير "إيجابي" بعيدا عن هذا الدين لن يسفر إلا عن سراب، أو بالأحرى "شقاء".

لذا، يتواصل حديثنا عن "الثورة التي نريد"..

(يُتبع)..

twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
التعليقات (0)