هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
في الفجْر، حين بَهَّقَ الضّوءُ جلدَ الليلِ البهيم، وبدا الشفق بلون الجحيم، نهض الغريب الغارق في علقم منفاه من بؤس خيمة الهم في مخيم الغم الذي احتواه، وخرج إلى فضاء الله الواسع ليتنفس الهواء وينظر إلى قبة السماء، فرأى نَجْمَةَ الصبح ذابلة وآيلة إلى الغياب والفجر في اكتئاب.
إنه لم يهجع في الليل فالكرب شديد، والفَقدُ صعبٌ، والألم مُمِضٌّ، والفرج بعيد.. جال ببصره فامتدت أمامه أكوام الأنام بين باهرٍ ومَبهور، وثابرٍ ومَثبور، وقاهر ومقهور، وداع إلى سيادة وإبادة، وإلى انتصار يغرقه في دمه ودم سواه.. فارتعد وغيِّب نفسه في عتمة الخيمة، وأصاخ المسع وأصغى لعلَّه يسمع زفرة حيٍّ في "كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أُكُلَها بإذن ربها في كل حين".. فتحيي ولا تميت.. فلم يسمع نأمَة حياة، فلا حياة ولا صوت يحيي ولا يميت، فالحكمة في زنزانة سجن ومن خلفها ألف باب وباب، والوقت حاجب وحجاب، ومَن هم في النزع الأخير يشهقون ليل نهار قد أسلموا الأرواح لبارئها، والباقون بانتظار.. فمن بيدهم مفاتيح أبواب جهنم امتشقوا مفاتيحهم سيوف إبادة، والكل في رعب الانتظار أو هم الرعب ذاته، وما باليد حيلة فلا دواء لمستفحل الداء، ولا مردَّ لقدرة من ليس لهم إلا القدرة على الفتك بالبشر وارتكاب الشر.. فضاقت به الدنيا وضاق بها، ولم ير جدوى في من أن يبحث عن أمل في ثنايا البؤس واليأس.. فما عليه إلا أن يبحث عن كفن ليدفن ما مات منه وفيه وفي عالمه، في رمل غُرْبة الإنسان عن الإنسان.
فرحم الله الشاعر عمرو بن الأهتم القائل:
لَعَمرُكَ ما ضاقَت بِلادٌ بِأَهلِها وَلَكِنَّ أَخلاقَ الرِجالِ تَضيقُ
فالدنيا ذاتها لا تضيق بأحد، الأشخاص هم الذين يضيِّقونها ويضيقون بها، لا سيما حين تُسد أمامهم منها أبواب ولا يرون أبوابها المفتوحة.. فكم في الدنيا من أبواب مفتوحة على مصاريعها تدركها بصائر ولا تراها بواصِر،﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴿46﴾ ـ سورة الحج.
فالذين بيدهم القوة يرون بعين القهر والظفر والنصر، وعلى شفاههم دماء تبعث فيهم النشوة والشهوة وتعلي مقامهم والشهرة، ويتصرفون وفق مصالحهم وشواغِلِهم وحاجاتهم وأوقاتهم، وربما من خلال ما يداخل تكوينهم من مورثات، وما يتمتعون به من صفات، فيلجون أبواباً مظلمة، ويطيب لهم أن يرتفعوا على أجنحة التوهم إلى درجة تريهم أنفسهم مركز الدنيا ومحورها، وأن كلَّ من فيها وما فيها يدور في فلكهم؟!. هو الإنسان طموحٌ فوق الحَد وتطلُّعٌ إلى ما لا يُحَد، وهذا ما يقع غالباً لأشخاص جراء طغيان وهْمهم على فهمهم..
ويتجسد الطغيان في أشخاص هم نماذج له ودلالات عليه، وقد يتجلى في أشخاص لدى تسلمهم مقاليد أمور الناس فيقودونهم بطغيان في دروب الطغيان في حالات الغُلو وحب السيطرة وشهوة الظهور، حيث يغرُّهم الغَرور وترى ذاتُهم نفسَها أكبر من مرآتها.. فيتشامخون في مضائق الرؤى وبرازخها، ويحاول الواحد منهم أن يضفي على الدنيا رؤاه وأن يلونها بألوان نفسه ورغباته، متهماً إياها عندما لا تواتيه بما يضيق صدره عن استيعابه، ويعجز بصره وقلبه عن رؤيته، ويكلُّ عقله عن إدراكه، وبصيرتُه عن تبصُّره؛ فلا يرى ما يمكن أن يشكل تهمة له وقصوراً فيه.. فسبحان الله الذي قال في محكم تنزيله: ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ﴾ ـ سورة يسن ﴿77﴾
* * *
في هذا الخضم امتطى الغريب الغارق في قهره وألمه وعتمة منفاه.. امتطى صهوةَ الألم، وأخذ يغوص في أعماقه يسبر مداه ومآله، وكأنما يرثي ذاته وعالمه أو يبحث فيهما عن نفسه، أخذ يسأل ويتساءل ويسيل بشجن يسكن الروح:
أنا من يليقُ بقامة الحزن الفارعة، ومن يعيش عطاياه الماتعة.. أنا خليله الوامِق، ونخيله السَّامِق، ورُبَّانُه في بحر الظلمات، ودليلُه في التيه عندما يضيع الخبير قصَّاص الأثر وتغيب آثار الطرقات.. إنْ أعوَزه مكان فقلبي هو المكان، وإن أعيته حاجة فأنا من يلبي الطلب ويقضي الحاجة.. كلُّ خلية من خلاياي له مسكن ومرتع ومستقر وميدان، وما عليه إلا أن يصهل ويرمح كالحصان الأغر في دروب قلبي الأَحَر..
أيها الإنسان لا ترفع قامتك كثيراً، ولا تضع نفسك فوق حقائق تكوينك، إذا كنت تريد أن تبقى على معرفة بمَن أنت في الواقع والوهم، في اليقظة والحلم، في السيرورة والصيرورة، وفي الآمال والمآل.. ومَن أنت في ضعفك ومن أنت في تجليات قوتك، ومَن أنت في بُحران توهمك بأنك فوق القدرة وأنك الأقدر على التغيير من دون شفيع ولا نصير.
لا أدري من الذي نذرني له ولكنني أشعر بأنني منذور، منذ بدايات البدايات وجدت نفسي أمامه مكشوف الصدر، عارٍ من كل حيلة ووسيلة تدفع عني قوته القهارة.. ربما لم يكن الشعور بتلك الاستباحة على درجة عالية من وعيي بها في سنوات العمر الأولى.. لكن ما إن تعثَّرتُ بالوعي أو تعثَّر بي الوعيُ حتى شعرت بمدى تلك الاستباحة وعمقِها، وبأنها تملكني وتحول دون أن أفكر بالخلاص منها بَلْهَ أن أختار بينها وبين غيرها، فأكون مثل من يختار بين انتحاره واستباحة القاهر له.. وقد أحسست بعقم المحاولة وبما يرافقها من ألم مُمضٍّ يجرِّح الروح.. فمن تُراه يشعر بمُدَى الأَلم وهي تحز الروح من دون أن تصرخ ذاتُه بذاته أن اصحُ واستبطن الأعماق بوعي لتسبر القدرة على الاحتمال وتستشرف المخارج والمآلات، وتولد لديك الإرادة قبل الترمُّد والإبادة؟! الألم المُرَكَّب، ألم الظلم والقهر والغربة والفقد غلَّابٌ غلَّاب، يستعصي على الوصف وعلى الاحتمال والنسيان، وحين ينيخ بكلكله على الإنسان يَفتَرس ولا يَتَّرِس، ويكيد المرء وهو يكْبِدُه ويكابِدُه.
آهٍ.. الألمُ.. الألمُ.. الألم.. مَن تُراه قارَبَه قبل أن يخوض التجربة، ومن ذا الذي لم تتشظَّ سكاكينه في جوانحه ويعلنه نشيجاً على عتبات الوقت، ويرهقه أيّما إرهاق ويورثه الأرق والسقم، ومن ثمَّ يجعله يعرفه حق المعرفة، ويفهمه كنهه وامتداد مداه من خلال التجربة/الألم؟! لا شيء سوى التجربة تجعلك تدرك معنى الألم وهو ينهش أعماقَك وأنت تغوص في لججه ولا تبلغ مداه.. إنه يعشّش في أعماقك وذاكرتك فتدمنه ويدمنك، ويعلمك كيف تشعر بألم الآخرين وبمعنى أن يَلحق بهم الألم. يعتصر الألم كل شيء في الإنسان، يعتصره من جسده إلى روحه مروراً بكل مكونات نفسه وحواكِم عقله.
في الشدة التي يضعك فيها ألمٌ خاصٌّ بك، نابع من تكوينك وتفاعلك مع محيطك من الأقربين لك والمقربين منك، ومن مشاركة الآخرين آلامهم.. تعرفُ أو يمكن أن تعرف مَن أنت ومَن سواك، وأنه لا شفيع لك إلا الله وأنت في محنتك وتعاطفك مع سواك في محنته. الألم.. إنه ذلك القادر القاهر الذي يصهرك ويعيد تكوينك وجَبْلَكَ، ويجعلك تقف على ضعف الإنسان الذي هو أنت، وعلى شراسة الإنسان الذي يجاورك ويجاريك وينهشك، ويريك صورة الإنسان المعجِز الذي هو أنت أو سواك في أوقات القوة والضعف، الصحة والمرض، والتوهج والإبداع في ميدانيهما الروحي والعقلي. وكما يريك الألم نفسك في حالتي العجز والذبول، يريك الإنسان بين جبار لا يسعه العالم ومنهار لا يكاد يميز نفسه عن ذاوي ورق الشجر في الخريف تسحقه أحذية الأرجل فلا يصدر عنه سوى الحفيف.. يا أيها الإنسان الألم يريك نفسك والعالم من حولك، ويبسط أمامك الإنسان في محنة التجربة وامتحانها، لتعرف مَن أنت ومَن هو بديع السماوات والأرض الذي خلقك وأبدع خلقك، ورفعك وخفضك، وابتلاك فأوجعك وشفاك.
الألمُ طاغية مستبدُّ لا يعرف الرحمة ولا تعرف الرحمة سبيلاً إليه، يحكم وينفذ ويتابع تفاصيل أوامره من دون كلل أو فتور أو ملل. يا لمهابته من مهابة، ويا لفتكه من فتك، ويا لعلمه مِن معلِّم، ويا لعالمه من عالَم..
أيها الإنسان لا ترفع قامتك كثيراً، ولا تضع نفسك فوق حقائق تكوينك، إذا كنت تريد أن تبقى على معرفة بمَن أنت في الواقع والوهم، في اليقظة والحلم، في السيرورة والصيرورة، وفي الآمال والمآل.. ومَن أنت في ضعفك ومن أنت في تجليات قوتك، ومَن أنت في بُحران توهمك بأنك فوق القدرة وأنك الأقدر على التغيير من دون شفيع ولا نصير.
لا تتوقف في محاولات سبرك لألمك في التجربة عند الألم العارض الذي يعتريك عندما ترى البؤس البشري فيك أو في سواك.. لا تفعل فقد يؤدي الألم السطحي إلى تسطُّح الفهم وسطحية الرد، فيغيرك بالفتك بذاتك أو بغيرك في أحوال. إذهب إلى مدى الصبر في السَّبْر عند حالات الألم الذي يحز روحك جراء فعل من يبيح ولا يفكر في أنه قد يُستابح.. فقد يؤدي بك الألمُ الحاد والسبر الجاد إلى وعي منقذ أو تمرد مُحرر مسؤول..
إذهب إلى ألم الجسد الفتَّاك المقترن بألم الروح عندما تحزها سكاكين الظلم والقهر والحزن.. إذهب إلى الألم الذي يحيلك خرقة مبللة بالدم وربما بالقاذورات، ويجعلك لا تقوى حتى على النهوض من مكانك أو تحريك بعض جسمك، ويحول بينك وبين النوم والقيام بأبسط شؤونك وتلبية أبسط حاجات جسدك.. إذهب إليه وحدّق فيه، وتأمل وتبصّر وتدبّر وتذكّر قوله تعالى: ﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿1﴾ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴿2﴾ ـ سورة الملك. فقد يقودك ذلك إلى الصبر على ما أصابك، والصبر من عزم الأمور، ويولد فيك الإرادة ويقدح زناد الفكر فتضيئ أفقَك بروقُ الوعي والحق والإبداع.
الألمُ طاغية مستبدُّ لا يعرف الرحمة ولا تعرف الرحمة سبيلاً إليه، يحكم وينفذ ويتابع تفاصيل أوامره من دون كلل أو فتور أو ملل. يا لمهابته من مهابة، ويا لفتكه من فتك، ويا لعلمه مِن معلِّم، ويا لعالمه من عالَم.. إنه يدخلك في برازخ لا تكاد تخرج منها، فتجد صدرك حرجاً وتحسب أن الدنيا ضيقة، تضيق بك وتضيق بها، وتسهو عن قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ۚ كَذَٰلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ - سورة الأنعام ﴿125﴾
فالفطنة مطلوبة في كل حال، وهي خير معين في الملمات على دقة التوصيف، وحسن التعبير، وحسن الإدراك.
والله من وراء القصد.