هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الكتاب: "كتابات ومذكرات المناضل يوسف الرويسي السياسية مع وثائق جديدة تنشر لأول مرَّة"
الكاتب: د. عبد الجليل التميمي
الناشر: مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، تونس
(265 صفحة من القطع الكبير)
بيئة الجنوب منبع انخراط الرويسي في الحركة الوطنية
ولد يوسف الرويسي في دقاش في منطقة الجريد بولاية توزر في 20 أكتوبر 1907، وقد درس بادئ الأمر بدقاش ثم انخرط بعد ذلك في الخلدونية والزيتونة وهي التي كيفت رصيد ثقافته وارتباطاته القومية ذات الطابع العربي الإسلامي البحت، وجعلته نموذجاً حياً ومتفاعلاً مع معطياتها والتي سرعان ما جعلته يدرك طبيعة الوضع السياسي للبلاد، وقد انخرط في الحزب الحر الدستوري القديم خلال سنة 1926، وهو لم يبلغ بعد سن العشرين وهذا ما يعكس نضجه السياسي المبكر وتطلعه إلى العمل التوعوي الهادف.
إن التحاقه بجامع الزيتونة بتونس واختياره لدروس بعض الشيوخ المتحررين، جعله أكثر إيماناً بحتمية التحرك وتغيير الأوضاع التعليمية والاجتماعية والسياسية. ثم إن تردده على الجنوب ودقاش موطنه الأصلي، ومعاشرته لطبيعة الظلم المسلط من طرف السلطة العسكرية وتقنين ذلك من خلال قنوات الاستقراطية المحلية الدينية منها "المالية والعروشية، وهي التي أفشت الكثير من العادات السيئة والخطيرة على سلامة البنية الاجتماعية، مثل الرشوة والمصادرات غير القانونية وتطبيق لغة الغاب جعلته يثور على كل شيء. وتبنى أسلوب المقاومة كسلاح لتغيير هذا الوضع المتردي. وهوالأمر الذي منحه الشرعية والاقتناع المطلق بوجوب توسيع قاعدة المقاومة من خلال الاتصال المباشر والاحتكاك بالجماهير، رجالاً ونساء.
وعليه فإنَّ يوسف الرويسي يُعَدُّ أول من آمن بقاعدة الاتصال بالجماهير وطبقها وعمل على توعيتها باستمرار من خلال اللقاءات الثنائية والجماهيرية، وطرق الأبواب، وتوزيع المناشير السرية في محاولة منه كسب الأنصار.
وفي سنة (1926 ـ 1927) انخرط في الحزب الدستوري بتونس. والذي سيجد فيه الفضاء الطبيعي الذي استهواه لبلورة نشاطه وتحركه السياسي المبكر، وهو النشاط الذي منح لهذا الحزب، مضموناً جديداً وخطاً وطنياً ثورياً. عندما ركز على تكوين القاعدة الوطنية الشعبية والتي باستطاعتها أن تحتضن وتدافع على المطالب النقابية والوطنية. وهذا خلافاً لروتينية النشاط السياسي للحزب. وانطلاقاً من هذا التصور الجديد للحركة الوطنية، أنشأ منظمة تدافع عن مصالح الجريد لتتوسع بعد ذلك وتشمل الوسط. كذلك كان حسه الوطني المبكر وطوقه المتواصل لمواكبة ما يجري على الساحة الوطنية والمغاربية والمشرقية، وراء اشتراكاتهالعديدة في المجلات والجرائد المحلية والمستوردة. وكان أكثر الناس وعياً وإدراكاً لخصوصية الوضع الاجتماعي المتردي بالجنوب.
يوسف الرويسي يُعَدُّ أول من آمن بقاعدة الاتصال بالجماهير وطبقها وعمل على توعيتها باستمرار من خلال اللقاءات الثنائية والجماهيرية، وطرق الأبواب، وتوزيع المناشير السرية في محاولة منه كسب الأنصار.
وقد ترجم عن ذلك في العديد من المقالات الملتهبة حماساً ووطنية شباب، مؤمناً بقضية تحرير بلاده، وهو الأمر الذي جعل المحامي الحبيب بورقيبة، دون أن يتعرف عليه، يندهش في بادئ الأمر للحقائق التي اشتملت عليها تلك المقالات، ويعمل على نقلها إلى الفرنسية، تعزيزاً لجبهة المقاومة والصمود ضد الاستعمار. وبالإضافة إلى ذلك، سعى يوسف الرويسي أن يجعل من الجنوب فضاء دستورياً موحداً، مانحاً لأول مرة للنشاط الحزبي، ديناميكية جديدة، بعيدة عن الحسابات الضيقة أو تأثير الطبقة الأرستقراطية أو عقلية الحزبيين غير المتفتحة، على التيارات والأفكار الجديدة والتي تهز الساحة الوطنية والعربية عموماً.
ولا شك أن طبيعة المنطقة الجنوبية التي كانت خاضعة للنفوذ العسكري المباشر ووجود مناجم الفسفاط وماهياته من مظالم وحيف صارخ، هذا فضلاً من سلطة القواد المطلقة في مصائر الجنوبيين، دفعت المناضل يوسف الرويسي أن ينظم ابتداء من 1932 إلى الحركة الوطنية لمقاومة السلطات الاستعمارية بالجريد ويكشف عن مظالم القواد ويقاوم حركة التجنيس، وقد نشر عدة مقالات في جريدة العمل التونسي، والتي عن طريقها تعرف على المحامي الشاب الحبيب بورقيبة يومئذ.
وفي سنة 1933 قدم مذكرة سياسية إلى لجنة التحقيق البرلمانية التي كان يرأسها السيد كرنيت، ومثل شعبه دقاش في مؤتمر نهج الجبل وانتخب كاتباً عاماً للجنة السياسية التي كشفت بوضع ميثاق الحزب، وقد اقترح على المؤتمر إدخال أعضاء كتلة جريدة العمل التونسي في اللجنة التنفيذية للحزب، وفي سنة 934 مثل شعبة دقاش في مؤتمر قصر هلال الذي لعب فيه دوراً أساسياً ،وكان من أكبر عناصره المؤثرة في مسيرته عندما حظي اقتراحه بالموافقة بإنشاء الحزب الحر الدستوري الجديد، وقد انتخب عضواً بالمجلس الملي، وانطلاقاً من ذلك رافق الزعيم الحبيب بورقيبة في جولاته لنشر مبادئ الحزب الجديد وتنظيم شعبه، وقد توج نشاطه الحثيث هذا، بادئ الأمر، أن أبعدته سلطات الحماية إلى تطاوين ثم إلى برج البوف مع الزعيم الحبيب بورقيبة في 3 سبتمبر 1934.
وفي سنة1936 وقع إطلاق سراحه من برج البوف وانتخب رئيساً لجامعة شعبة الجريد الدستورية وقد عهد إليه الحزب مهمة جامعة عموم العملة التونسيين والدعاية لها بمناجم الفوسفات بالجنوب إلى جانب تنظيم شعب الحزب، وفي سنة 1937 تولى مهمة الدعاية الحزبية في جهة الهمامة والوطن القبلي ومنطقة الشمال الغربي، وقد أعيد انتخابه عضواً بالمجلس الملي في مؤتمر 1937-1938 وهو المؤتمر الذي عقده الحزب بنهج التريبنال، كما قدم إلى الوزير الفرنسي فيينو مذكرة سياسية باسم جامعة شعب الجريد.
وفي سنة 1937 كلف من قبل الديوان السياسي للحزب بإبلاغ قرارات المجلس الملي الخطيرة في اجتماعات عامة بباجة وسوق الأربعاء ومنطقة جبال مطير، وقد اعتقل على أثرها في 4 أبريل بسوق الأربعاء وقد وجهت إليه تهمة المؤامرة حوادث 9 أبريل1938، وفي السجن حرر عدة مقالات نشرتها له جريدة "تونس الفتاة" تحت عنوان "المؤامرة وأطوارها الغريبة" وقد ذاق الأمرين في السجن.
وفي سنة 1940 نقل مع الزعيم الحبيب بورقيبة وبقية المناضلين المسجونين إلى سجن القديس نيكولاس في مرسيليا ومنها إلى الإقامة الجبرية بمدينة تريتس بجنوب فرنسا ،حيث أفرجت عنهم قوات المحور سنة 1943، ونقلوا إثرها إلى رومة والتي منها تحولوا إلى تونس ،غير أنه بعد إقامة أسبوعين في العاصمة، عاد إلى أوروبا مع المرحوم الحكيم الحبيب ثامر حيث كون إذاعة سرية باسم "أفريقيا الفتاة" ونظما بالتعاون مع ممثلين من حزب الشعب الجزائري وكتلة العمل الوطني المغربية حركة لتوحيد نضال شمال أفريقيا والاهتمام بشؤون العمالالموجودين في أوروبا والدعاية للقضايا الوطنية.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، تمَّ إنشاء هيئة الحزب الوطني المغربي مع الزعيم المناضل الدكتور الحبيب ثامر الشخصية التي تنتظر هي الأخرى من يعيد لها اعتبارها ودورها الرائد والنظيف في تاريخ الحركة الوطنية المغاربية. فقد كان هاجس يوسف الرويسي لدى زيارته لباريس، العمل على تسييس الجالية العمالية المغاربية وتوعيتها بحقوقها وواجباتها تجاه تحرير المغرب العربي وما ينتظر منها مستقبلاً لتكثيف النشاط السياسي والإعلامي في الساحة الفرنسية خصوصاً والمغاربية عموماً .كما عمل د. ثامر على إصدار عددين فقط، لمجلة جديدة تحمل عنوان المغرب العربي. وقد شرح يوسف الرويسي لماذا أضاف كلمة عربي إلى كلمة المغرب، وحيث كان ذلك ينبع من فلسفة متكاملة لديه، مبنية على الوحدة اللغوية والدينية والحضارية للمغرب العربي.
إنه من المستحيل علينا في هذه العجالة أن نستعرض المواقف الحاسمة التي اتخذها يوسف الرويسي من أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب الدستوري وهم الذين آخذهم عن جمودهم وتقوقعهم وعدم تبنيهم منطق الواقعية السياسية والحوار المفتوح مع كل الأطراف الأخرين. وإيماناً منه بحتمية تبني استراتيجية جديدة للعمل السياسي المتحرك والمتفاعل مع واقع وطموحات الشعب، كان لمواقفه الثورية واتصالاته الثنائية والجماعية وخطبه غير المهادنة الدور الأول في انبعاث تيار جديد داخل الحزب الدستوري. وإن فكرة بروز جناح الحزب الدستوري الجديد هي فكرة يوسف الرويسي في الأساس، ولم تكن على الإطلاق فكرة الشاب الطموح المحامي الحبيب بورقيبة، الذي كان يمثل أحد الطلائعيين لهذه النخبة التونسية الجديدة المتكونة في الجامعات الفرنسية والتي تطعمت بالغرب ثقافياً وحضارياً وسياسياً، وآمنت به إيماناً مطلقاً، ولم يتسنَّ لها أن تتغذى بأريحية الحضارة العربية – الإسلامية، وهذا ما كان له الأثر المباشر في جميع توجهاتها المستقبلية ومبادئها والتي تحددت بشكل واضح، عندما آل إليها تسيير دولاب الدولة التونسية وتكييف وتحديد الأطر الفكرية والتعليمية والسياسية للشعب التونسي برمته بعد الاستقلال.
على أنه من المؤكد أن القيادات الدستورية الجديدة والقاعدة الزيتونية المتحررة قد التقت مع يوسف الرويسي في خطه العروبي من النضال وحيث كسبها بفضل:
أولاً ـ قدرته الفائقة على التحرك السريع ومقارعة العدو بالحجة المقنعة وبالتالي كسب الأنصار وزرع الشعب الدستورية في طول البلاد وعرضها.
ثانياً ـ طلاقة لسانه الخطابي وحماسه الوطني ونزعته العروبية التلقائية وارتباطاته الحضارية وحسه الكبير بوحدوية الحركة الوطنية، وهذا ما جعل السلط الفرنسية تركز عليه تركيزاً خاصاً، باعتباره أحد العناصر الدستورية الشابة والجديدة والمؤثرة بشكل مباشر على أوضاع الجنوب السياسية والثقافية والاجتماعية.
إقرأ أيضا: يوسف الرويسي.. قاد تيار العروبة في الحزب الحر الدستوري بتونس