قضايا وآراء

كي نصون ما تَبقّى من المشترك المغاربي ولا نُسيء إلى المستقبل

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
خلّف استقبال الرئيس التونسي زعيم "جبهة البوليساريو" في 26 آب/ أغسطس 2022 لحضور أشغال المنتدى الياباني الأفريقي "تيكاد 8"؛ ردود فعل متباينة، تأرجحت بين استدعاء سفيري البلدين للتشاور، وإصدار بلاغات من وزارتي خارجية المغرب وتونس، وتفاعل كبير من قبل النخب السياسية ومنظمات المجتمع المدني في الدولتين معا؛ لأن الحدث لم يكن مجرد حضور في منتدى للجوار من أجل الشراكة، يُفترض أن يكون بين دول مستقلة وقائمة الذات، تتطلع اليابان (صاحبة المبادرة) لأن تنسج معها علاقات تعاون، بل اللافت للانتباه والاستغراب معا، أن الأمر تعلق باستقبال تم الإعداد له بدون موافقة الطرف الأول والأساس في القمة، أي اليابان، وفي تناقض تام مع الأعراف والإجراءات المعتمدة في تنظيم القمم الدولية، وبطقوس وترتيبات دبلوماسية علنية، لا تُقام إلا لرؤساء الدول المعترف بشرعية سلطتهم ومشروعية دولهم.

لا يختلف عاقلان في أن ما صدر من قبل الرئاسة التونسية لا يخدش الذاكرة الجماعية ويضرّ بما تبقى من المشترك المغاربي فحسب، بل يُسيء إلى المستقبل، ويزيد في تعقيد إلى ما راكمت العقود الثلاثة الأخيرة من أزمات وخسائر للفكرة المغاربية المُعاقة. لذلك، وبدون الانسياق في هواجس الوجدان وردود الفعل الفردية والجماعية، الموسومة بالتجريح، والنقد غير المجدي، وإصدار النعوت والأحكام الجارحة التي لا تؤخر ولا تقدم، نتساءل بقدر كبير من العقلانية فنقول: "هل ما أقدم عليه الرئيس التونسي "قيس سعيد"، وبالطريقة التي أخرج بها عمله، كان اختيار رجل دولة، يزن الأمور جيدا، أي يستحضر التاريخ، ويقرأ الحاضر برؤية استراتيجية سليمة، ويُفكر في المستقبل بنظرة ثاقبة ومتبصرة؟ أم لا شيء من هذا حصل، وأن قراره استقبال زعيم منظمة، ألصقت بها كل النعوت المنبوذة في العالم، كان دليل وجود عطل وبؤس في التفكير، وحجة قاطعة عن النزعة اللا عقلانية في السياسة لصاحبها؟
لا يخرج قرار الاستقبال عن هذا المسار الذي دخلته البلاد التونسية منذ أكثر من سنة، أي تغوّل النظام وتكوّره حول شخص الرئيس، علما أن لهذا الأخير بطانته، أي دائرته الضيقة، التي يستشيرها ويعود إليها، كما أنه له مصادر ومراجع إقليمية ودولية يستمع إليها، وقد يخضع لتوجيهاتها وأوامرها

نُشدد أولا على أن قرار الاستقبال كان فرديا، صادراً من إرادة الرئيس واختياره، ولم يكن للشعب التونسي ومؤسساته التمثيلية أي دور فيه، لأن البلاد التونسية دخلت حالة الاستثناء منذ 25 تموز/ يوليو 2021، لتجد نفسها أمام دستور جديد نسجه الرئيس نفسه، وتمت الموافقة عليه باستفتاء قاطعته مجمل مكونات المجتمع التونسي، بل طعن في شرعية وثيقته رئيس اللجنة المعينة لإعادة صياغة الوثيقة الدستورية، العميد "صادق بلعيد".. وتنتظر الشعب التونسي خطوات أخرى في القادم من الأيام والشهور، كي يُسدّ قوسُ إعادة بناء نظام جمهوري جديد يكون محورُه، واللاعب الرئيسُ والأوحدُ في بنائه الدستوري الرئيس قيس سعيد" ليس إلا.

لذلك، لا يخرج قرار الاستقبال عن هذا المسار الذي دخلته البلاد التونسية منذ أكثر من سنة، أي تغوّل النظام وتكوّره حول شخص الرئيس، علما أن لهذا الأخير بطانته، أي دائرته الضيقة، التي يستشيرها ويعود إليها، كما أنه له مصادر ومراجع إقليمية ودولية يستمع إليها، وقد يخضع لتوجيهاتها وأوامرها إن لزمَه الأمر ذلك، باسم "الواقعية والدفاع عن المصلحة الوطنية".

لنتساءل مرة أخرى عن "الواقعية" التي دفعت بالرئيس التونسي إلى الإقدام على موقف لم يحدث لسابقيه من الرؤساء التونسيين منذ تأسيس الجمهورية عام 1959 أن أعلنوا عن نظيره، ومارسوه بنفس الطريقة الحاصلة يوم 26 آب/ أغسطس 2022 في مطار تونس، ولاحقا في قصر قرطاج؟
نتساءل مرة أخرى عن "الواقعية" التي دفعت بالرئيس التونسي إلى الإقدام على موقف لم يحدث لسابقيه من الرؤساء التونسيين منذ تأسيس الجمهورية عام 1959 أن أعلنوا عن نظيره

لا يوجد في الواقع ما يكفي من الأدلة والمعطيات لفهم أسباب القرار، ومبررات إقدام الرئاسة التونسية عليه، بيد أن هناك أكثر من مؤشر يمكن الاستناد عليه لتحليل حيثيات هذا السلوك غير المألوف في الدبلوماسية التونسية. فمن جهة أولى، ثمة أزمة اقتصادية ومالية خانقة في تونس، بل إن المخزون الاحتياطي، وهو ضروري لكل بلد، ونقدر أنه لا يتجاوز في أحسن الحالات ثلاثة أشهر في البلاد التونسية، بدأ يتآكل وقد يأخذ طريقه إلى الانتهاء، مما سيُعرّض التونسيين لأوضاع صعبة لا نتمناها لهذا البلد الشقيق. ولعل من هنا فرضت "الواقعية" على رئيس تونس الاحتماء بالمنقذين المحتملين، في مقدمتهم الجزائر، وربما دول غربية وأوروبية، ومنها تحديدا فرنسا، علما أن البلدين معا يعيشان، بدرجات متفاوتة، صعوبات كبيرة، وموجات من التوتر الاجتماعي الناجمة عن هذه الفجوات المالية والاجتماعية تحديدا. فالحضور الجزائري واضح وثابت ولا غبار عليه، ونظيره الفرنسي غير مستبعد ووارد بشكل أو بآخر.

لذلك، وكما أشرنا أعلاه، لم يكن اختيار الرئيس التونسي عقلانيا، بل عكس درجة عالية من العطل والبؤس السياسيين، لأن لا الجزائر تستطيع إنقاذ تونس، ولا فرنسا التي استعمرتها لأكثر من سبعة عقود (1881-1956). وهكذا تنطبق على قرار الرئيس "قيس سعيد" قولة "استنجد غريق بغريق".
الثابت أن ما حدث يوم 26 آب/ أغسطس 2022، عشية انعقاد قمة "تيكاد 8"، شكل سابقة في العلاقات المغربية التونسية، التي ظلت موسومة بالتآزر والتضامن والاحترام المتبادل، كما خدش الشعور الجمعي المغربي، وأساء إلى المستقبل المطلوب بين البلدين


ومن جهة أخرى، من حق الرئاسة التونسية الاعتداد بـ"حقها السيادي" في اتخاذ ما تراه مناسبا من قرارات، بما فيها قرار استقبال زعيم منظمة غير معترف بها حتى من قبل تونس ذاتها، كما يمكنها تكييف وقائع الاستقبال بالطريقة التي تخدم رؤيتها، لكن الثابت أن ما حدث يوم 26 آب/ أغسطس 2022، عشية انعقاد قمة "تيكاد 8"، شكل سابقة في العلاقات المغربية التونسية، التي ظلت موسومة بالتآزر والتضامن والاحترام المتبادل، كما خدش الشعور الجمعي المغربي، وأساء إلى المستقبل المطلوب بين البلدين..

لقد شاءت الظروف أن أكون شخصيا واحدا من أبناء جيل استقلال المغرب وتونس (1955-1956)، وأسعفتني مهنتي كأكاديمي أن أتعرف على النخبة العلمية والسياسية التونسية، وأن أزور هذا البلد عشرات المرات أكثر من غيره من البلدان العربية، وأن أنسج علاقات علمية مثمرة ومستمرة، وما شهدت طوال أربعة عقود سوى الاحترام والتقدير والوفاء من قبل التونسيين الذين تشرفت بمعرفتهم للمغرب والمغاربة قاطبة. فالأمل معقود على العودة إلى الرشد والعقد، وهما من سمات أهل المغرب العربي، وأن تُرمم الذاكرة الجماعية، ويُعلي نداء المستقبل، على حد قول المغاربي والتونسي الكبير "مصطفى الفيلالي" تغمده الله بواسع رحمته.

 


التعليقات (1)
الحوري عبد العزيز
الثلاثاء، 06-09-2022 09:35 م
حقيقة أن الدول الثلاثة لا تختلف اوضاعها الاقتصادية كثيرا، رغم المظاهر! فتونس اصيبت برئيس، قد يكون مثقفا (حامل لشهادة عليا) لكنه بعيد كل البعد عن التكوين السياسي الذي يؤهله الى تدبير الازمات الداخلية مع الفاعلين الاقتصاديين، و الخرجية بالطرق الدبلوماسية. و الجزائر، رغم كونها تسبح فوق بحار من البترول و الغاز، إلا أنها، و منذ تقرير مصيرها الى الان و هي تحكم بقيادات عسكرية و بعقلية تحجرت و توقفت عند الحرب الباردة بين المعسكرين و التي ورثوها على جمال عبد الناصر الذي اوهمهم بان عدوهم الذي يمكن ان يناغسهم على قيادة شمال افريقيا هو المغرب. فبرمج عقولهم على عداوة الجار الغربي فوضعوا كل امكانياتهم و ثرواتهم في هذه الحرب الخاسرة التي اضاعوا فيها المال و الوقت و افقروا شعبهم( النيف) أما فرنسا البلد المستعمر الذي بناى حظارته و تقدمه مما ينهب و يسرق من ثروات الدول الافريقية ( مستعمراته السابقة) فإنه اصبح يشعر بأن البساط يسحب من تحت ارجله من طرف الدول الافريقيا التي فتح اعينها المغرب بشعار " رابح رابح" فبداوا يغيرون لهجتهم و سلوكهم مع فرنسا: فمنهم من اسقل اقتصاديا و ماليا عن فرنسا. و منهك من غير لغة و مناهج التعليم .... و هكذا، و باستثناء تونس التي وضعها قيس سعيد بسوء تدبيره من جهة، و ربما باصابته بمرض العظمة التي جعلته يعتقد أنه اصبح فرعون تونس الذي لا ترد كلمته، في هذه الوضعية التي لا تتلاءم و مكانت تونس التي لها اصدقاء لو دق بابهم ما تخلوا عنها، لكنه قطع الكثير من خيوط الاتصال. اذن، و كما سبق، فباستثناء تونس، فإن الجزائر و فرنسا يتفقان على أن لهم عدو واحد، عليهما محاربته و لو بخلق متاعب فقط لتعطيله مؤقتا، خاصة أن المغرب عمل بالمثل القائل " اللي عنده باب واحد الله يسده عليه" قد فتح ابواب اخرى مع دول كبرى و قوية لتنويع شراكاته. و للحديث بقية لنرى من الخاسر و من الرابح...