هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
هناك صورة مشوهة ترتبط في أذهان بعض الجهلة، أشاعتها أجواء من التعصب الفقهي والفكري، بل وخفة العلم وقلة البضاعة الفقهية، مفاد هذه الفكرة أو الصورة الخاطئة: أن المفتي الذي يفتي بأيسر الآراء للناس، فتواه دلالة على قلة دينه، وخفته، وعدم ورعه.
وهو سلاح يشهر في وجه كل من يعلن برأي، سواء كان جديدا ينسف به فكرة جامدة، أو رأيا شائعا، يرى المفتي أو الفقيه عكس ما هو شائع، أو تشهر في وجه المشايخ من باب إسكاتهم، وللأسف تؤتي ثمارها مع شريحة ليست قليلة من المشايخ.
ذلك أن التشدد سوقه أكثر رواجا من سوق التيسير، وليست لدينا مشكلة فيمن يتشدد أو ييسر بناء على قناعة فقهية، يسير فيها وراء الدليل، فيمضي به حيث انتهى، سواء شدد في الفتوى أو يسر، لأن الذي دفعه هنا هو البحث العلمي النزيه، والنتيجة التي وصل إليها ـ اتفقت أم اختلفت معه ـ هي نتيجة بحث علمي، ليس وراءها دافع شخصي، ولا مبرر لا يقبله البحث الفقهي.
ونحب أن نوضح أمرا مهما، وهو: أن ما نعنيه بالتيسير ليس التهاون أو التفريط، أو التساهل والتجاوز لأوامر الله ونصوص شريعته، وإنما الذي نعنيه بالتيسير، هو الميل في الفتاوى والآراء إلى الأيسر على المكلفين، وذلك يكون إذا كانت المسألة محل رأي واجتهاد، أو كان فيها نص محتمل، وهو في ذلك لا يخالف الشريعة، بل هو ملتزم بروحها ونصها.
كنت فترة عملي مع شيخنا القرضاوي، كثيرا ما ألتقي بمخالفين له، ولم يكن هناك مشكلة مع أهل العلم، بل كانت المشكلة في أتباعهم، أو متعصبيهم، وبخاصة من كانت بضاعتهم قليلة جدا في الفقه، فقد كان أكثر ما يروجون ضده من اتهامات أنه متساهل في الفتوى، بحجة أنه لا يحرم شيئا، وقد أطلقوا على كتابه: (الحلال والحرام في الإسلام) عنوانا آخر سخرية منه، فكانوا يقولون: يجب أن يجعل عنوانه: الحلال والحلال في الإسلام، لأنه لم يحرم شيئا، وكان يرد عليهم برد قوي، فيقول بل عليهم هم أن يؤلفوا كتابا يجعلون عنوانه: الحرام والحرام في الإسلام، لأنهم يحرمون كل شيئ ولا ييسرون فيما يسر فيه الشرع.
التيسير في الفتوى منهج قرآني ونبوي مستقر في التشريع الإسلامي، يراه كل فقيه متمكن بوضوح، فالله عز وجل يقول: (وما جعلكم في الدين من حرج)، وقال: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وذلك في سياق حديثه عن الصيام وأحكامه.
إن أسهل الأجوبة على أي فتوى، أن يقول المفتي: هذا حرام، أو ممنوع، ثم يستشهد بدليل ظاهره يؤيد ما قال به، لكن الأصعب والأشق والذي يحتاج إلى بحث وجهد كبير، هو الإجابة بالجواز، لأنه يتطلب من المفتي أن يبحث أولا في أدلة من حرموا، ولماذا حرموا، وهل تسلم هذه الأدلة من النقد فعلا أم لا؟ وهل الدليل المذكور بالفعل يفيد التحريم، أم أنه لا يتعدى الكراهة، وربما الكراهة التنزيهية.
ثم بعد ذلك ينتقل المفتي الميسر إلى مقاصد الشريعة، فينظر ويتأمل فيها، ويربط المسألة الجزئية التي يتناولها بالكليات الفقهية والشرعية، لأنه إذا انتفت أدلة التحريم، فسيبقى الأصل على الإباحة، ولو لم يكن لديه دليل على جوازه، لأن القاعدة تقول: الأصل في الأشياء الإباحة، وهذا عمل شاق يحتاج جهدا، ومشقة، فالأيسر بلا شك والأسهل التشدد لا التيسير.
بعض الناس من العوام، ومن لا علم لديهم، عندهم ولع بالمتشدد في الفتوى، والذي يشدد عليهم في الوعظ والنكير، وربما ظن أن شدته في الفتوى، هي دلالة على قوة إيمانه وعلمه، وهو ما لا علاقة له بتاتا، فقد يكون هناك إنسان لديه من الورع والتقوى، ولكنه ليس متمكنا في الفتوى، وليس قويا فيها، ويظن أنه بتشديده على الناس فهو يسوقهم للتدين الصحيح والورع، بينما يوقعهم في الحرج، والتنفير من الدين دون أن يدري.
ويقع من يتهم أصحاب التيسير في الفتوى في دينهم، أو ورعهم، في خطأ أكبر، وهو تزكية النفس، واتهام الآخر بالنقص في الدين، وهو خلق مذموم، لأنه يتعلق بالنوايا، وهي قضية لا يعلمها حقيقة إلا الله سبحانه وتعالى، ولسنا هنا نتحدث عن فقهاء السلطة، المعروفين بتأييدهم لها في الحق والباطل، وما أكثر الباطل، فهذه أمور لها دلائل منظورة، ومشهودة، ويحكم فيها أهل الاختصاص بظاهر الفتوى، ولا يتدخلون في نوايا أصحابها، رغم بيان موقفهم الذي يعلنونه ليل نهار في تأييدهم للسلطة.
ولماذا يغامر الفقيه حين ييسر على الناس، فيخسر دينه وآخرته، بينما لم يربح من دنياه ولا دنيا الناس شيئا؟ مرة سألني أحد الناس سؤالا في الطلاق، ولما أجبته أن الطلاق لا يقع، ظل يناقشني ويجادلني، ولسان حاله يقول: ربما تجاملني، وكان بعضهم يقولها في حياء، فقلت له ولأمثاله: وماذا يستفيد الشيخ الذي يفتيك بهذه الفتوى، أنت ستذهب وتنام مع زوجتك ويتم بينكما المتعة والحياة السعيدة، فهل هناك عاقل يتركك أنت وزوجتك تستمتعا بناء على فتواه، بينما هو يعذب في نار جهنم؟ ما الذي سيجنيه، وهو ليس طرفا منتفعا بالفتوى سوى أجره من الله عز وجل، سواء كانت زوجتك طالق أم لا، الإجابة بالطلاق أو عدمه سواء عند المفتي، فليس رابحا أو خاسرا فيهما، إلا دينه لو كان رأيه عن جهل، أو عن هوى، فهل هناك عاقل يبيع دينه بدنيا غيره؟
فالذي ييسر على الناس في الفتوى، يعلم أن الناس لم تعد لديها القدرة حاليا على الأخذ بالعزائم، وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: "يسروا ولا تعسروا"، وقال لمعاذ بن جبل وأبي موسى الأشعري وقد أرسلهما لليمن: "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا" وذلك في العصر الذهبي للإسلام، وهو زمن الصحابة، فكيف بعصور يضيق الناس بالتكاليف، لضعف النفوس، وخور العزائم.
كما أن التيسير في الفتوى منهج قرآني ونبوي مستقر في التشريع الإسلامي، يراه كل فقيه متمكن بوضوح، فالله عز وجل يقول: (وما جعلكم في الدين من حرج)، وقال: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وذلك في سياق حديثه عن الصيام وأحكامه.
وهناك أحاديث عدة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم منها قوله: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه". وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يكره أن تؤتى معصيته". وقوله صلى الله عليه وسلم: " إن الله يحب أن تقبل رخصه، كما يحب أن تؤتى فريضته".
لقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره أنه جامع امرأته في نهار رمضان، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصوم شهرين متتابعين، فقال الرجل: وهل أهلكني إلا الصوم؟ يعني عجز عن صوم يوم فكيف يصوم ستين يوما؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أطعم ستين مسكينا، فأخبره بفقره، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم عرقا من تمر، وقال له: تصدق به، فقال الرجل: على من؟ والله ما بين لابتيها (أي المدينة المنورة) من هم أفقر منا، فابتسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: خذه فأطعمه أهلك.
تأمل حال هذا الرجل، وتأمل لو أنه سائل آخر في زماننا وجاء لأحد شيوخ التشدد، رجل جاء مرتكبا لمعصية الفطر في رمضان، ثم يعود بطعام له ولأهل بيته، ولم يعاقب بشيء، بل تمت مكافأته، هذا ما يبدو لنا من سماحة التشريع الإسلامي متجسدا في رسوله صلى الله عليه وسلم.
بعض الناس من العوام، ومن لا علم لديهم، عندهم ولع بالمتشدد في الفتوى، والذي يشدد عليهم في الوعظ والنكير، وربما ظن أن شدته في الفتوى، هي دلالة على قوة إيمانه وعلمه، وهو ما لا علاقة له بتاتا، فقد يكون هناك إنسان لديه من الورع والتقوى، ولكنه ليس متمكنا في الفتوى، وليس قويا فيها،
هذه النصوص وغيرها تدل على أن منهج التيسير على الناس من هدي الإسلام والسلف الصالح، وليس انحرافا عن الصراط المستقيم، وهو كذلك منهج الأثبات الأقوياء في العلم والدين من السلف، فقد قال ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما: إن الله يحب أن تؤتى مياسره كما يحب أن تؤتى عزائمه.
وقال إبراهيم التيمي: إن الله يحب أن تؤتى مياسره، كما يحب أن تطاع عزائمه. وقال عطاء: إذا تنازعك أمران فاحمل المسلمين على أيسرهما. وقال الشعبي: ما خُيّر رجل بين أمريْن، فاختار أيسرهما إلا كان ذلك أحبّهما إلى الله تعالى. ويقول سفيان الثوري: إنما الفقه الرخصة من ثقة، أما التشدد فيحسنه كل أحد.
ولعل قول سفيان الثوري لخص المسألة كلها، أن الفقيه الحقيقي المتمكن من الفتوى، هو من يحسن التيسير على الناس، لكنه ليس تيسيرا قائما على الهوى، بل إنه قائم على الحجة والبرهان، لأنه تيسير خرج من فقيه ثقة، ثقة في علمه، وثقة في دينه، فلا يمكن أن تخرج الفتوى الصحيحة إلا عن ذي دين صحيح، فهما وتطبيقا.
[email protected]