قضايا وآراء

المشاريع الكبرى في المنطقة.. المشروع الأمريكي (2)

محمد العودات
1300x600
1300x600
كان إعلان آيزنهاور الذي أطلقه الرئيس الأمريكي في عام 1956، والمتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، بمثابة إعلان بداية تراجع نفوذ المملكة المتحدة وفرنسا كقوى عظمى في العالم لصالح تقدم وتمدد الولايات المتحدة الأمريكية، والتي توجت كقوة عظمى وقطب أوحد في عام 1990 بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. منذ ذلك الإعلان والمشروع الأمريكي يتقدم في المنطقة ويحكم السيطرة عليها، لكن إلى أين يذهب المشروع الأمريكي؟ وما هي استراتيجيته المستقبلية في المنطقة؟

بالنسبة للولايات المتحدة، تكمن الأهمية الاستراتيجية لمنطقة الشرق الأوسط بأنها تمثل ثلث الإنتاج العالمي من النفط، إذ بلغت ذروة احتياجات الولايات المتحدة للنفط الوارد من الشرق الأوسط في عام 2001 نحو 2.8 مليون برميل يوميا، وهو ما يمثل 23 في المئة من احتياجات أمريكا اليومية، بالإضافة لتوسط المنطقة الممرات المائية التي تسمح بسيولة حركة التجارة العالمية.

(1) طبيعة المشروع الأمريكي ما قبل أحداث سبتمبر

تعاملت أمريكا مع الكيان الصهيوني باعتباره واقعا فرضته المملكة المتحدة على المنطقة، وأرادت أن تستفيد من وجود هذا الكيان في مزيد من بسط السيطرة على المنطقة، فتم دعم الكيان في جميع حروبه مع العرب، وإن كانت لا تريد أن يتمدد هذا المشروع في المنطقة أكثر من الحدود التي تريدها له، فرفضت تزويده بالتقنيات التكنولوجية التي تمكنه من بناء مفاعله النووي في منتصف القرن الماضي، وخصوصا الرئيس الأمريكي جونسون الذي رفض هذا الدعم ومنعه، قبل أن تقوم فرنسا بهذه المهمة دعما للكيان ونكاية بنظام جمال عبد الناصر الذي كان يدعم الثورة الجزائرية في مواجهة الفرنسيين الذين كانوا يعتبرون الجزائر جزءا من دولتهم.

اعتبرت الولايات المتحدة الكيان الصهيوني أحد أهم الوسائل التي تستخدمها في المنطقة لتبقي على نفوذها في المنطقة وتمنع قيام أي مشاريع كبرى محتملة لأي دولة إقليمية، وخصوصا إيران وتركيا أو حتى عربية يمكن أن تؤثر على إمدادات الطاقة من المنطقة الشرق الأوسط أو حركة التجارة العالمية، فضمنت للكيان الصهيوني التفوق العسكري في المنطقة وقدمت له الدعم السياسي في كل صراعاتها مع العرب والفلسطينيين.

كما قدمت الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط المصالح على المبادئ، وفي سبيل استقرار المنطقة تجاهلت الاستبداد في المنطقة العربية ما دامت هذه الأنظمة قادرة على تحقيق الاستقرار القادر على تدفق مزيد من الطاقة إلى أسواقها التي تحتاجها، ويحمي حركة الملاحة التجارية لنقل صادراتها للأسواق العالمية، إذ إن اقتصادها يمثل 24 في المئة من حجم الاقتصاد العالمي.

فكانت الولايات المتحدة تتعامل بقسوة مع أي قوة يمكن أن تهدد تدفق الطاقة إلى أسواقها أو تدفق منتجاتها إلى العالم، فخاضت حرب الخليج الأولى في مواجهة النظام العراقي السابق بقيادة صدام حسين بعد غزو الكويت، وسمحت للكيان الصهيوني أن يدمر المفاعل النووي العراقي قبل ذلك حتى لا تتشكل أي قوة يحتمل أن تؤثر على مصالحها في المنطقة، كما تعاملت مع المشروع الإيراني على مبدأ تقليم الأظافر الناعم بالحصار، وقبل ذلك بدعم الحرب العراقية الإيرانية حتى تبقى كل القوى التي يمكن أن تكون محتملة في المستقبل في حالة استنزاف وضعف، وفي ذات الوقت كانت تعمل على إعادة تأهيل لتركيا لتكون تابعا للمشروع الأمريكي وجزءا من أدواته في المنطقة.

في أثناء تلك الحقبة الزمنية كانت الولايات المتحدة تتعامل مع القضية الفلسطينية -أهم القضايا في الشرق الأوسط- على مبدأ إدارة الأزمة لا حلها، لما تحمله من تعقيدات في ملفاتها وتداخل السياسي في الديني، وإن كان الرئيس بيل كلينتون كان الأكثر اهتماما في حل هذا الملف في ولايته الأخيرة، والذي كان يعني للرئيس كلينتون حل الملف وتكوين تحالف متماسك في المنطقة يخدم المصالح الامريكية بشكل أكبر، ويمنع نشوء قوة أخرى يمكن أن تؤثر على المصالح الأمريكية مستقبلا، ويحد من طموح المشروع الصهيوني من أن يتمدد بشكل أكبر.

(2) المشروع الأمريكي بعد أحداث سبتمبر وخيار الديمقراطية

بعد أحداث أيلول/ سبتمبر وتفجير برجي التجارة العالمي، أدركت الولايات المتحدة أن الاستبداد في منطقة الشرق الأوسط وتعايشها ودعمها له في سبيل استقرار المنطقة وتدفق الطاقة واستدامة الأسواق؛ أنشأ حالة تطرف ديني ألحق الضرر والأذى بمصالح الولايات المتحدة الأمريكية، فتم تحويل استراتيجية الولايات المتحدة إلى الضغط على الدول العربية بعهد الرئيس الأمريكي جورج بوش الأبن للتحول نحو الديمقراطية، باعتبار أن التحول الديمقراطي الضامن الوحيد لجلب مزيد من الاستقرار للمنطقة وينشئ أنظمة شعبية تجفف منابع التطرف والإرهاب الديني.

في تلك المرحلة تم الدفع بأكبر قوة أمريكية في الخارج، وتم غزو أفغانستان والعراق، وتم إسقاط نظام طالبان ونظام صدام حسين، والعمل على إنشاء أنظمة ديمقراطية لتكون نموذجا في المنطقة وتكون متصالحة وتابعة للولايات المتحدة، على غرار الأنظمة الديمقراطية في اليابان وكوريا الجنوبية. لكن تلك النماذج فشلت فشلا ذريعا لأسباب ذاتية تتعلق بثقافة شعوب المنطقة التي ترفض الاحتلال الأجنبي، وأخطاء تكتيكية أمريكية قاتلة؛ منها حل الجيش العراقي.. وتحولت أفغانستان إلى حرب أهلية ضاعفت معاناة تلك الدولة، كما سقط العراق في حرب أهلية وتمت إقامة نظام محاصصة طائفية يتسيده حكم العمائم الأقرب إلى حكم الدولة الثيوقراطية (حكم الولي الفقيه)، ليصبح تابعا للدولة الإيرانية صاحبة المشروع التوسعي في المنطقة.

لكن بعد قدوم أوباما إلى سدة الحكم وزيارة منطقة الشرق الأوسط وخطابه الشهير في جامعة القاهرة عام 2009، أعلن أنه لن يفرض الديمقراطية على دول الشرق الأوسط، وأنه لن يتدخل في الشؤون الداخلية لتلك الدول ليكون هذا الخطاب بمثابة تراجع من الولايات المتحدة عن خطاب نشر الديمقراطية والحرية في المنطقة؛ الذي أطلقه بوش الابن كعامل من عوامل استقرار المنطقة ورحل المشروع برحيل بوش عن السلطة.

(3) الانسحاب العسكري الأمريكي من المنطقة

كما كانت الطاقة هي عامل اهتمام أمريكا في منطقة الشرق الأوسط، فإن ارتفاع إنتاج أمريكا من النفط والذي تجاوزت به الإنتاج السعودي والإنتاج الروسي بإنتاج 13 مليون برميل يوميا، ونشوء القوة الاقتصادية الصينية، واسترداد روسيا لبعض قوتها على الحدود الأوروبية.. جعل الولايات المتحدة تدرك أن الاهتمام الاستراتيجي بما يحفظ مستقبل تفوق الولايات المتحدة الاقتصادي إلى جانب تفوقها العسكري؛ يجب أن يتحول نحو روسيا والصين التي بلغ حجم اقتصادها 15 في المئة من حجم الاقتصاد العالمي، وبنمو اقتصادي بلغ 13 في المئة، وهي أعلى نسبة نمو تحققها الصين على مستوى العالم.

الصعود الاقتصادي للصين يعني بالضرورة الصعود في كل المجالات، لذلك تزايد اهتمام الولايات المتحدة بالقوة الصاعدة في الصين لا يعني الانسحاب الأمريكي الكلي من المنطقة، وإنما تخفيف الوجود العسكري الذي يستنزف الدولة الأمريكية. وتخفيف الوجود العسكري يلاقي ترحابا شعبيا داخليا كبيرا، وهذا خضع خلال العقدين الأخيرين لعدة استراتيجيات أمريكية في المنطقة.

استراتيجية أوباما

استراتيجية أوباما في تغطية الانسحاب الأمريكي العسكري من المنطقة كانت تقوم على الاتفاق مع إيران لوقف امتلاكها أسلحة دمار شامل، والذي نجم عنه الاتفاق النووي الإيراني والذي كانت قد وقعته إيران مع الولايات المتحدة والدول الكبرى في ما عرف باتفاق 5+1؛ في عام 2015، مع السماح لإيران بهامش تحرك في المنطقة بما لا يضر في المصالح الامريكية، فوجدنا تمددا لإيران في سوريا واليمن وإحكام السيطرة على العراق ومحاولة عبث في الداخل السعودي. وكانت أمريكا تقابل كل تلك المحاولات الإيرانية بمزيد من بيع الأسلحة لدول الخليج التي كانت ترى في الانسحاب العسكري الأمريكي من المنطقة خطرا يهددها بتمدد إيران.

كما قامت استراتيجية أوباما في القضية الفلسطينية على بقاء التفوق للكيان الصهيوني، مع وضع حد للتمدد الاستيطاني الصهيوني في الضفة الغربية ونزع الشرعية عن الكتل الاستيطانية والتي تفيد التقارير أنها التهمت 43 في المئة من مساحة الضفة الغربية، وفي ذات الوقت محاولة إدماج تركيا لتكون جزءا من المشروع الأمريكي في المنطقة بالحد البسيط الذي لا يؤثر على مصالح الولايات المتحدة.

أما بخصوص الديمقراطية ونشرها في المنطقة فكانت تعتمد سياسة السكوت عن ذلك، والوقوف موقف الحياد تجاه الثورات العربية التي حدثت، والتعامل مع كل القوى على الأرض، وبقيت تراقب في الربيع العربي دون تدخل مؤثر باستثناء ليبيا.

استراتيجية ترامب

قامت استراتيجية ترامب في معالجة الانسحاب العسكري الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط على سياسة أقرب إلى تطلعات اليمين الصهيوني، بإقصاء إيران وإضعافها كمشروع منافس وإلغاء الاتفاق النووي معها وتشديد الحصار عليها، وعدم الدفع بأي قوة عسكرية إلى المنطقة وحتى في أخطر النزاعات والحروب الأهلية التي حدثت في سوريا.

وذهبت استراتيجية ترامب إلى معالجة القضية الفلسطينية على طريقة التصفية، وذلك بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس كعاصمة للكيان الصهيوني وإصباغ الشرعية على الكتل الاستيطانية من خلال ما عرف بصفقة القرن، وإنشاء دولة فلسطينية لا تشكل المستوطنات في الضفة الغربية ولا غور الأردن جزءا منها، وفي ذات الوقت دفع مزيد من الدول العربية لإقامة علاقات مع الكيان الصهيوني.

ترتب على الخطوات الأمريكية في ترتيبات الانسحاب العسكري من منطقة الشرق الأوسط أن أثيرت مخاوف حلفاء الولايات المتحدة من الفراغ الذي يتركه هذا الانسحاب، فعمد بعض حلفاء الولايات المتحدة من الدول العربية والكيان الصهيوني إلى تجاوز خلافاتهم حول القضية الفلسطينية، وذهبوا إلى اتفاقيات سلام وتطبيع على أعلى المستويات، وتعزيز التعاون المشترك فيما بينهم لمواجهة أي خطر محتمل قادم من إيران التي تمثل الإسلام السياسي الشيعي، وأي قوة يمكن أن تظهر، مع استعداد أمريكي أن يضحي ببعض العلاقات مع الأردن التي كانت مصالحها الاستراتيجية تتعارض مع مشروع ترامب في معالجة القضية الفلسطينية، والذي كان يشرعن الضم وقضم الأراضي الفلسطينية في الضفة والأغوار وما ينتج عن ذلك من ترحيل السكان إلى الأراضي الأردنية.

وذهب مشروع ترامب إلى تكوين قوة عسكرية "ناتو شرق أوسطي" كبوابة لإنشاء قوة عسكرية متماسكة في المنطقة، تضع إيران على رأس سلم الخطر السياسي في المنطقة. ويتم من خلال هذا التحالف دمج الكيان الصهيوني في تلك القوة لشغل الحيز العسكري الأمريكي بعد الانسحاب من المنطقة.

استراتيجية بايدن

سياسة الرئيس الأمريكي الحالي تقوم على المزج ما بين سياسية الرئيس أوباما والرئيس ترامب في المنطقة. ففي الوقت الذي يدعو فيه البيت الأبيض إلى إحياء الاتفاق النووي الإيراني فإن الحديث يتجدد عن تكوين الناتو الشرق أوسطي، مع ضمان التفوق العسكري للكيان الصهيوني والبقاء على سياسة إدارة الصراع حول القضية الفلسطينية وعدم إطلاق يد الكيان الصهيوني في ابتلاع مزيد من أراضي الضفة الغربية، ونزع الشرعية عن الاستيطان في الضفة، وإبقاء السلطة الفلسطينية على قيد الحياة ومنع انهيارها.

يمكن القول إن جميع الاستراتيجيات والخطوط العريضة للمشروع الأمريكي في ترتيب ما بعد الانسحاب العسكري الأمريكي في المنطقة تقوم على عدة محاور أساسية لا تتجاوزها جميع برامج الرؤساء:

- عدم التدخل في الصراعات العسكرية في منطقة الشرق الأوسط، مع إبقاء قوات محدودة في المنطقة كما في العراق وسوريا والقواعد العسكرية في المناطق الآمنة، لحفظ مصالح الولايات المتحدة.

- الاستعداد للتدخل العسكري لكسر أي قوة محتملة تخرج عن السيطرة يمكن أن تؤثر على مصالح الولايات المتحدة في المنطقة.

- الاستمرار في سياسة إدارة الصراعات القائمة في المنطقة لا حلها، بما يخدم المصالح الامريكية

- إبقاء التفوق العسكري للكيان الصهيوني على كل الحلفاء له في المنطقة.

- تخفيف حالة الخصومة بين حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة وإدارة هذه الخلافات عندما تتعارض مصالحهم.

- إقامة تحالف عسكري جديد يشكل ردعا لمنع أن تأتي القوة الإيرانية أو أي قوة محتملة في المنطقة.

- الالتفات عن فكرة الانحياز للديمقراطية والتعامل مع الأنظمة القادرة على التعامل مع المصالح الامريكية وخدمتها، بغض النظر عن شرعيتها الديمقراطية.

- مكافحة الإرهاب والتطرف، بحيث لا تتخذ أي بقعة في منطقة الشرق الأوسط بؤرة ومأوى لأي إرهابيين أو أي عمل إرهابي ضد الولايات المتحدة، كما حدث في 2001، مع العمل على إدارة العلاقة مع بعض فصائل الإسلام السياسي الجهادي على طريقة الاستيعاب عبر خدمة الوسطاء والوكلاء، كما حدث في أفغانستان عبر الوسيط التركي والقطري.
التعليقات (0)