قضايا وآراء

أي مستقبل لجبهة الخلاص الوطني في تونس؟

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
رغم أن 54 في المائة من التونسيين يرون أن البلاد تسير في الطريق الخطأ، ورغم أن 61 في المائة منهم غير راضين عن طريقة إدارة الرئيس قيس سعيد وحكومته للشأن العام، ما زال هذا الأخير مصرا على احتكار الحديث باسم "الإرادة الشعبية"، واتهام كل خصومه ومنتقديه بتزييف الإرادة الشعبية والعمالة للخارج، وما زال ماضيا في تحويل "حالة الاستثناء" إلى مرحلة انتقالية لتأسيس جمهورية جديدة تنفي الحاجة لكل الأجسام الوسيطة في الديمقراطية التمثيلية، خاصة الأحزاب منها.

فلا الدعوات الدولية لعودة المسار الديمقراطي واحترام الفصل بين السلطات والبحث عن حل تشاركي للأزمة السياسية والاقتصادية الخانقة، ولا فشل الاستشارة الوطنية الالكترونية والعجز عن بناء أية مشروعية ترتبط بمكافحة الفساد أو تحسين القدرة الشرائية لعموم التونسيين، ولا مناشدات "المساندة النقدية" (بقيادة اتحاد الشغل وبعض الأحزاب القومية واليسارية)؛ كانت كافية لثني الرئيس عن استكمال خارطة الطريق التي وضعها لتأسيس "الجمهورية الثالثة" والانفراد بالسلطة التأسيسية، بعد أن جمع بين يديه كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية بتأويل متعسف للدستور.

في الفترة الأولى من إعلان الرئيس لإجراءاته وإلى حدود صدور المرسرم 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر من السنة الماضية، كان التوجه العام لدى النخب السياسية والنقابية والمدنية في تونس هو مساندة "تصحيح المسار". فإذا ما استثنينا حزب العمال (الشيوعي سابقا) أو بعض مكوّنات الائتلاف الحاكم كالنهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس التي لم تتحرك بصفاتها الحزبية، كانت مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" هي من تصدّر المشهد المعارض لإجراءات الرئيس أو ما سُمي بـ"تصحيح المسار".
كان التوجه العام لدى النخب السياسية والنقابية والمدنية في تونس هو مساندة "تصحيح المسار". فإذا ما استثنينا حزب العمال (الشيوعي سابقا) أو بعض مكوّنات الائتلاف الحاكم كالنهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس التي لم تتحرك بصفاتها الحزبية، كانت مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" هي من تصدّر المشهد المعارض لإجراءات الرئيس أو ما سُمي بـ"تصحيح المسار"

ورغم ما قد يقال من ارتباط هذه المبادرة المواطنية بحركة النهضة وبعض حلفائها في الائتلاف الحاكم قبل 25 يوليو/ تموز، فإنها قد جمعت العديد من الشخصيات المستقلة وغير المحسوبة على النهضة، بل المعروفة بعدائها لها مثل الأستاذ جوهر بن مبارك وغيره. وإذا كان من الصعب توصيفها بأنها كانت إرهاصا بميلاد "كتلة تاريخية"، فإنها قد مثلت خلال أشهر الفصيل المعارض الأهم الذي لا يخلو خطاب للرئيس من محاولة شيطنته، بل إنها قد مثلت نواة لفكر معارض جديد لا يتماهى مع ما قبل "تصحيح المسار" (منطق التوافق المغشوش بين النهضة والمنظومة القديمة) ولا مع بعده (منطق الانفراد بالسلطة والانقلاب على مسار الانتقال الديمقراطي)، بحكم محاولتها البحث عن "مشترك وطني" أو كلمة سواء تنقذ التجربة الديمقراطية بعيدا عن منطق الصراعات الهوياتية والتسويات الحزبية اللا وطنية.

منذ صدور المرسوم 117 الذي حصّن قرارات الرئيس من أي طعن، وأظهر نية هذا الأخير الانفرادَ بإدارة "حالة الاستثناء" بعيدا عن أي حوار ودون إشراك "أنصار الإجراءات" في الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني، اتخذت العديد من الأطراف المساندة لـ"تصحيح المسار" مسافة نقدية منه. وهو ما جعلها هدفا لهجمات الرئيس، وإن لم تبلغ حدّة هجماته ما بلغته عند كلامه عن "مواطنون ضد الانقلاب". وقد تشكل المشهد السياسي التونسي منذ تلك الفترة بصورة ما زالت تحافظ على خصائصها العامة حتى هذه اللحظة، رغم بعض التطورات الجزئية. فهذا المشهد السياسي تهيمن عليه ثلاثة أطراف أساسية هي:
منذ صدور المرسوم 117 الذي حصّن قرارات الرئيس من أي طعن، وأظهر نية هذا الأخير الانفرادَ بإدارة "حالة الاستثناء" بعيدا عن أي حوار ودون إشراك "أنصار الإجراءات" في الأحزاب والنقابات والمجتمع المدني، اتخذت العديد من الأطراف المساندة لـ"تصحيح المسار" مسافة نقدية منه

1- "مواطنون ضد الانقلاب" التي تحولت إلى مبادرة ديمقراطية ثم حاولت جذب بعض المكونات المعارضة الأخرى. ويمكننا اعتبار مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب" النواة الصلبة لـ"جبهة الخلاص الوطني" التي تشكلت من خمس مجموعات سياسية، وتصدر السيد نجيب الشابي الحديث باسمها. وهي جبهة معارضة راديكالية لإجراءات الرئيس التي اعتبرتها انقلابا على الدستور، وطرحت تشكيل "حكومة إنقاذ" وإسقاط خارطة الطريق الرئاسية والعودة إلى المسار التفاوضي دون إقصاء أي طرف، بهدف الخروج من الأزمة السياسية الحالية.

2- تنسيقية الأحزاب الاجتماعية التي تتشكل من الحزب الجمهوري والتكتل والتيار الديمقراطي. وهي أحزاب ساند أغلبها "تصحيح المسار" بصورة مطلقة قبل أن تتخذ منه مسافة نقدية. إنها أحزاب لا تعارض شرعية مطلب "التصحيح"، ولكنها تعارض مساره بعد أن انفرد الرئيس بإدارته وعجز عن الوفاء بوعوده. ولذلك فإنها قد رفضت التنسيق مع "مواطنون ضد الانقلاب" التي تعتبرها مجرد واجهة لرسكلة "منظومة التوافق" وإعادة السلطة لمن تعتبرهم المسؤول الرئيس عن "العشرية السوداء"، كما أنها ترفض التنسيق مع الحزب الدستوري الحر الذي تعتبره جزءا من منظومة الفساد.

3- ما يمكن تسميته مجازا بتنسيقية "تصحيح المسار"، وهي تلك الأطراف السياسية والنقابية والمدنية التي لا يوجد تنسيق صريح بينها ولكنها تتقاطع موضوعيا. وهي ترفض العودة إلى ما قبل 25 يوليو/ تموز، وتعتبر أنفسها جزءا من القوى التي مهدت للقرارات الرئاسية وأكسبتها الشرعية. ويغلب على هذه الأطراف الخطاب الهوياتي المؤدلج الذي يختزل الأزمة في حركة النهضة وحلفائها، ويختزل الحل في إقصائهم وفي الإدارة التشاركية لـ"حالة الاستثناء" وهندسة المشهد السياسي الذي سيعقبها. وترفض هذه القوى (وهي أساسا الحزب الدستوري الحر والمركزية النقابية وعميد المحامين وبعض الأحزاب القومية واليسارية) التحالف مع الطرفين المذكورين أعلاه، كما ترفض التماهي مع خارطة الطريق الرئاسية ولكنها تضغط من أجل تعديلها دون أن تتخذ موقفا نقديا جذريا من قرارات الرئيس التي صحّرت الحياة السياسية وهدمت أغلب مخرجات الانتقال الديمقراطي، كالمؤسسات الدستورية والفصل بين السلطات وغيرها.
في ظل هذه المعارضة المتشظية، وفي ظل غياب أي ضغط دولي حقيقي بحكم الترتيبات التي يقتضيها "الربيع العربي ٢"، يبدو أن الرئيس التونسي ماض في فرض خارطة طريقه وإدارة البلاد بمنطق "الغلبة". ولا يبدو أن ظهور "جبهة الخلاص الوطني" سيعيد هندسة المشهد السياسي على الأقل في الفترة الحالية

في ظل هذه المعارضة المتشظية، وفي ظل غياب أي ضغط دولي حقيقي بحكم الترتيبات التي يقتضيها "الربيع العربي ٢"، يبدو أن الرئيس التونسي ماض في فرض خارطة طريقه وإدارة البلاد بمنطق "الغلبة". ولا يبدو أن ظهور "جبهة الخلاص الوطني" سيعيد هندسة المشهد السياسي على الأقل في الفترة الحالية. فرغم أن هذه الجبهة قد دعت إلى توحّد المعارضة، يبدو أنها لم تجد آذانا صاغية في "تنسيقية الأحزاب الاجتماعية" ولا في حزب العمال، كما يبدو أنها قد ساهمت بصورة غير مقصودة في التقريب بين "أنصار الإجراءات"، وهو ما يبدو جليا في اللقاء -أو التنسيق- الذي تم بين الحزب الدستوري الحر والمركزية النقابية، وكذلك في رفض هذين الطرفين لجبهة الخلاص الوطني، واستمرار تقاطعهما موضوعيا -رغم كل الادعاءات والمزايدات- مع الرئيس التونسي.

في تقديرنا الشخصي، فإن عجز "جبهة الخلاص الوطني" عن جذب الكثير من أطياف المعارضة وفي توسيع قاعدتها الشعبية خارج مكونات الائتلاف الحكومي السابق؛ لا يرجع فقط إلى حملات الدمغجة والتزييف الممنهج التي تمارسها أغلب وسائل الإعلام العمومية والخاصة على المواطنين، ولا يرجع أيضا إلى غلبة الحسابات الشخصية والخطابات الهوياتية عند الكثير من الأطراف المعارضة للانقلاب، بل يرجع أساسا إلى عاملين أو "آفتين" ينبغي على قيادات هذه الجبهة التفكير فيهما بعيدا عن تزكية الذات واتهام الآخرين: أولا، محدودية المصداقية التي يتمتع بها الكثير من تلك القيادات وارتباطهم في الوعي الشعبي بالفشل أو بمنظومة التوافق، أو لنقل توجّس عموم المواطنين من أن البديل المقترح ليس إلا إعادة للمنظومة السابقة، خاصة وأن الجبهة لم تقدم أي نقد حقيقي لتلك المنظومة ولم تتخذ مسافة من مكوناتها. أما الآفة الثانية فهي محافظة هذه الجبهة على الخطاب "التوافقي" نفسه، لكن مع أخطر مكونات "المنظومة القديمة" ووكلائها بدعوى المصلحة الوطنية: الاتحاد العام التونسي للشغل وأغلب الأحزاب الداعمة للرئيس ولو نقديا.

ختاما، إذا ما أرادت جبهة الخلاص الوطني أن تكون بديلا موثوقا وذا مصداقية عند طائفة كبيرة من التونسيين فإن عليها أن تتجاوز منطق "التوافق" في شقيه، فغياب الخطاب الاستئصالي أو المقاربة الهوياتية للصراع لا يعني بالضرورة صوابية الخطاب التوافقي أو قدرته على تجميع التونسيين على أساس متين. وهو ما يعني أن على هذه الجبهة أن تراجع خطابها بصورة معمّقة حتى لا تكون مجرد صرخة في واد، أو مجرد مبادرة لا مستقبل لها خارج الأطراف التي عارضت الرئيس منذ ظهور مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب".

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)