أفكَار

المفكر المصري الراحل محمد عمارة الإنسان برواية نجله (1من3)

خالد عمارة: والدي الراحل محمد عمارة كان شخصا مختلفا على كل المستويات
خالد عمارة: والدي الراحل محمد عمارة كان شخصا مختلفا على كل المستويات

يعتبر المفكر المصري الراحل محمد عمارة (1931- 2020) واحد من أهم الأسماء التي طبعت أهم مراحل التحول الفكري والحضاري للعالمين العربي والإسلامي في النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين..

نبغ عمارة مبكرا، حيث حفظ القرآن الكريم، وانشغل بعلوم اللغة العربية وفنونها قبل أن ينصب اهتمامه على الفكر الفلسفي، حيث اعتنق الماركسية حينا من الدهر قبل أن يعود طلائعيا في الفكر الإسلامي.. 

تحمس لثورة يناير 2011 في مصر، وعدها ملحمة شعبية، وعارض انقلاب 3 من تموز (يوليو) عام 2013، واعتبره جنوحا عن مدنية الدولة وانقلابا على مطالب الجماهير.

لمع إسم الدكتور محمد عمارة في ثمانينيا القرن الماضي، باعتباره واحدا من أهم رموز تجديد الخطاب الديني، وشغل العديد من المناصب العلمية في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بمصر، وعضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، وعضو هيئة كبار علماء الأزهر، ورئيس تحرير مجلة الأزهر، وعضو المعهد العالمي للفكر الإسلامي بواشنطن، وعضو مركز الدراسات الحضارية بمصر، وعضو المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية مؤسسة (آل البيت) بالأردن. كما كان عضوا باللجنة التأسيسية لدستور 2012 في مصر.

الدكتور خالد عمارة نجل الدكتور محمد عمارة يخص "عربي21"، بورقة من ثلاث حلقات عن الدكتور محمد عمارة الإنسان والمفكر والدور.. 


المقدمة:

طلب مني الكثيرون أن أكتب عن الجانب الإنساني للمفكر الإسلامي الدكتور محمد عمارة رحمه الله. وفي إعتقادي أن هذا الجانب في غاية الأهمية لسببين: 

الأول أننا كي نفهم أو نتفهم آراء وأفكار أي مفكر أو عالم أو فقيه أو فيلسوف يجب أن نفهم شخصيته وظروف حياته والمؤثرات التي تعرض لها وأسلوب تعاطيه مع هذه الظروف كي نستطيع استخلاص فهم حقيقي لأفكار وفتاوى وكتابات هذا الكاتب أو ذلك المفكر والمؤثرات التي دفعت هذا الكاتب أو ذلك المفكر لما قدمه من أفكار. 

الثاني لأن الكثير من المعجبين بفكر الدكتور محمد عمارة يريدون المزيد من التفاصيل عن حياته الشخصية ومعرفة كيف كان يتعامل مع أسرته وكيف كان يربي أبناءه وأحفاده ويريدون أن يتخذوه قدوة في طريقة حياته وطريقة تربيته. 

وفي الحقيقة فإن والدي رحمه الله شخص مختلف عن الكثير من الناس الذين أعرفهم وعرفتهم طوال حياتي. شخص مختلف في الأسلوب وفي طريقة الحياة وفي التفكير والطموحات.. وسوف أحاول في هذا المقال أن أتحدث عن بعض النقاط الأساسية التي أرى أنها مفيدة لكل أب وأم ولكل باحث ومفكر يهتم بحياة وأفكار وطريقة المفكر الإسلامي الدكتور محمد عماره. 

أعتقد ان هذا المقال يحتوي دروسا كثيرة مفيدة لكل أب مسلم وأم مسلمة تبحث عن طرق مبتكرة لتربية أبناءها في هذا الزمن الصعب. 

لاحظت اختلاف أبي عن الأخرين منذ طفولتي.. لاحظت أنه أب مختلف.. وبينما يحكي أصدقائي في الحي أو المدرسة عن آبائهم.. كنت دائما أرى أبي مختلفا اختلافا كبيرا في أغلب الأمور والتصرفات. 

في طفولتي لم أكن أفهم لماذا هذا الاختلاف أو هل هذا الاختلاف شيء جيد أم لا، لكن مع مرور الزمن اكتشفت العمق في حكمة والدي ونظرته للحياة.. ولذلك فسوف أحاول في هذا المقال أن أستعرض قدر استطاعتي جوانب وأجزاء من الحياة الشخصية والإجتماعية للوالد رحمه الله الدكتور محمد عمارة. 

لن أتعرض للجوانب العادية التي يقوم بها أي أب أو زوج طبيعي ولا نظرة الحب أو التعاطف المتوقعة التي تؤثر على نظرة الأبناء لأبيهم أو الزوجة لزوجها. لكنني سوف أحاول أن أنقل للقارئ الجوانب التي قد تخفى عنه ويختلف فيها الدكتور محمد عمارة رحمه الله عن غيره أو التي قد تلعب دورا في التأثير على نظرته للحياة والأفكار والآراء.
 
كذلك سوف أحاول تقديم بعض الجوانب التي تفرد بها الدكتور محمد عمارة في حياته الشخصية لتكون مفيدة لمن يحب أن يعتبر الدكتور عمارة قدوة يحتذى بها في تربية أبنائه أو التعامل مع أسرته ومجتمعه. 

والدي رحمه الله ولد في أوائل الثلاثينيات من القرن العشرين في إحدى قرى دلتا مصر. عاش في مصر وقضى فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين في ريف مصر وقرى ومدن الدلتا أثناء عهد الملكية والاستعمار الإنجليزي لمصر. والخمسينيات والستينيات في القاهرة في فترة ثورة عبد الناصر وتحول مصر إلى جمهورية والمد القومي العربي.. والسبعينيات والثمانينيات في القاهرة في عصر التحول من مقاومة الإستعمار والإحتلال الصهيوني إلى معاهدة السلام والتطبيع وتراجع الإتحاد السوفييتي وانهيار التجربة الإشتراكية وعصر الإنفتاح وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم.

والتسعينيات في عصر صعود التيار الإسلامي في مواجهة الإستعمار الأمريكي واضطهاد المسلمين والإسلام تحت شعار مكافحة الإرهاب والتطرف وتوفي في أول سنة 2020 قبل بداية انتشار جائحة فيروس كورونا. 

وقبل أن أدخل في التفاصيل يمكننا فهم شخصية الدكتور محمد عمارة رحمه الله وفهم الكثير من مواقفه وأفكاره من خلال معرفة أن الوالد رحمه الله كان لديه ثلاثة محاور وثوابت رئيسية يستعملها في قياس كل شيء. كانت هذه المحاور الرئيسية هي الميزان الذي يضبط به أفكاره وتعامله مع كل مسائل الحياة، سواء كانت مسائل فكرية أو قرارات الحياة الشخصية والأسرية، هذه المحاور الثلاثة هي: العدل، الحرية، الاستقلال. 

العدل هو البحث عن العدل في كل شيء.. نشأ في الريف يرى الفلاح المظلوم في عهد الإستعمار الإنجليزي ويفكر كيف يحقق هذا الفلاح العدل ويحصل على حقوقه، كيف يتحقق العدل للشعوب المظلومة؟ كيف يتحقق العدل للإنسان في حياته الشخصية ويصل إلى الوسطية والإتزان في قراراته دون تطرف نحو اليمين ولا نحو اليسار؟ كيف يحقق الإنسان العدل في حياته فلا يظلم الأخرين ولا يتعرض هو للظلم؟ كيف يضع نفسه مكان الأخرين ويتخيل ظروفهم ويتفهم دوافعهم التي تحركهم ليصل إلى الوسطية والحكمة في اتخاذ أي قرار أو رأي؟ 

الحرية، هي البحث عن الحرية وكراهية القيود والكبت.. كان على قناعة أن الإنسان بدون حرية هو إنسان منافق يقول غير ما يخفي في قلبه.. يعيش في خوف دائم.. يفكر بطريقة العبيد الذين تحركهم الخوف من العقاب والطمع في العطايا بدون أي إقتناع. 

 

والدي رحمه الله عاش في مصر وقضى فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن العشرين في ريف مصر وقرى ومدن الدلتا أثناء عهد الملكية والاستعمار الإنجليزي لمصر. والخمسينيات والستينيات في القاهرة في فترة ثورة عبد الناصر وتحول مصر إلى جمهورية والمد القومي العربي.. والسبعينيات والثمانينيات في القاهرة في عصر التحول من مقاومة الإستعمار والإحتلال الصهيوني إلى معاهدة السلام والتطبيع وتراجع الإتحاد السوفييتي وانهيار التجربة الإشتراكية وعصر الإنفتاح وسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية على العالم.

 



كان يرى أن حرية التعبير عن الرأي هي التي تصنع إنسانا حرا متوازنا واثقا من نفسه وما يؤمن به. الحرية في التعبير هي التي تجعل الأفكار تتلاقى وتتحاور وتتطور إلى الأفضل  ليصل الناس إلى الإقتناع بالإختيار الصحيح أو الأقرب إلى الصحيح والأقرب إلى الحق. الحرية هي التي تصنع أشخاصا متزنين واثقين بأنفسهم متعاونين مع الآخرين بمحض إرادتهم وتتطور قناعاتهم دون إجبار أو تسلط أو تخويف أو كبت ليتطور معها عملهم و أفكارهم و واقعهم و بحثهم عن حياة أفضل وتواصل أقوى وترابط وطمأنينة.  

الإستقلال في عقيدة وفكر الدكتور محمد عمارة ليس فقط إستقلال الأوطان السياسي عن الإستعمار الخارجي ولكنه أيضا الإستقلال العقلي والفكري كي لا يقلد الضعيف عادات القوي لمجرد أن القوي يفعلها، لكن يختار ما يناسبه ويعمله ويترك ما لا يناسبه من عادات وتقاليد. الإستقلال العقلي يصنع شخصا واثقا من نفسه ومن حضارته وليس مجرد ببغاء ينتظر إستيراد الموضات من بلاد الغرب لتقليدها. كذلك الإستقلال عن أي حزب سياسي أو منظومة حكومية قد تؤثر على تفكير وحياد وحرية رأي المفكر. لذلك كان يحرص طوال حياته على الحياة المادية البسيطة كي يحمي الإستقلال الفكري والمادي على المستوى الشخصي ليضمن حريته وحياد رأيه. تماما كما ظل يدافع عن الإستقلال الفكري والإقتصادي و السياسي والعسكري للأوطان والشعوب. 

في هذه الورقة سوف أقدم صورة الحياة الخاصة للدكتور محمد عمارة من جوانب عدة، جانب الأب، الزوج، الأخ، الإبن، الجار، الجد، الصديق . كذلك صورة جوانب شخصية الدكتور محمد عماره المتعددة الفلاح والمثقف والمفكر والأزهري والمصري المسلم والعربي اللسان.. جوانب وصور متعددة حين نجمعها ونربطها معا فقد نفهم الكثير من مواقف وتفكير وأفكار الدكتور محمد عماره.
 
الأدوار: 

الأب

في هذا المجال لن أحكي عن الصفات العادية لأي أب طبيعي شرقي يرعى أسرته ويحب أبناءه ويحافظ عليهم ويسعى على تربيتهم. لكن سوف أركز على مواطن التميز والإختلاف التي أعتقد أن الدكتور محمد عمارة كان يختلف فيها عن الكثير من الآباء.. وربما أهم اختلافين هما: اجتماع الأسرة والتربية على حب الكتب والقراءة والإطلاع.

كان الوالد رحمه الله يعتبر واجب الأبوة من أهم الواجبات. وواجب الأبوة ليس الإنفاق بقدر ما هو قضاء ما يكفي من الوقت مع الأبناء. ساعة واحدة في اليوم على الأقل يتم توجيهها بالكامل للأبناء والحديث معهم والحوار معهم. 

رفض أبي السفر للعمل في الخارج على غير عادة الكثيرين أثناء فترة الثمانينيات والتسعينيات في مصر وكان قراره أن البقاء في مصر مع الأبناء والأسرة أهم وأفضل من السفر وجمع المال ليعود بعد سنوات طويلة ويجد نفسه غريبا عن أبنائه. فضلا عن أن اهتمامه بالحفاظ على إستقلاليته عن أي مؤسسة أو مصدر إنفاق قد يؤثر على رأيه كان أيضا سببا في رفض السفر للخارج. 

اجتماع الأسرة: 

منذ الصغر ولدينا عادة بسيطة إسمها إجتماع الأسرة، يتم هذا الإجتماع كل يوم الساعة الخامسة عصرا حول أكواب الشاي، ويستمر الإجتماع لمدة تتراوح بين نصف ساعة إلى ساعة كل يوم. قبل أن يعود كل فرد من الأسرة والأبناء إلى عمله أو مذاكرته أو ما كان يعمل به. كان هذا الإجتماع شيئا مقدسا غير مسموح بتجاوزه مهما كانت الظروف والضغوط والمشاغل. 

في هذا الإجتماع كنا نتناقش في أي شيء وكل شيء، ماذا حدث اليوم في المدرسة، أخبار الأسرة، الحياة اليومية، مشاكل بسيطة أو كبيرة، خبر مكتوب في الصحف، كتاب أو مقالة لفتت نظر الوالد ويحب أن يحكي لنا عنها. وأحيانا كنا نؤجل النقاش في موضوع أو مشكلة أو مسألة إلى أن نجتمع في اجتماع الأسرة. 

وكثيرا ما كان يحدث في إجازة الصيف أن يعطيني الوالد أو يعطي أختى بضعة أبيات من الشعر أو مقال صغير من بضعة أسطر أو آية قرآنية أو حديث نبوي شريف ويطلب منا أن نلقيه بصوت جهوري لنتعلم فن الخطابة والنطق الصحيح وأيضا لنتناقش في محتوى كلمات الآيات أو أبيات الشعر أو الأسطر التي قرأناها.. 

بالتدريج تحول اجتماع الأسرة الى فرصة للحوار وللتعبير الحر عن ما نفكر فيه وأحلامنا وطموحاتنا وما يضايقنا أو يفرحنا ويضمن وقت ثابت من الحوار ومن غير مسموح لأي التزامات أو ارتباطات مهما كانت أن تتعدى على هذا الإجتماع الأسري الثابت.

 

كان الوالد رحمه الله يعتبر واجب الأبوة من أهم الواجبات. وواجب الأبوة ليس الإنفاق بقدر ما هو قضاء ما يكفي من الوقت مع الأبناء. ساعة واحدة في اليوم على الأقل يتم توجيهها بالكامل للأبناء والحديث معهم والحوار معهم.

 



و كثيرا ما تحول إجتماع الأسرة إلى دافع وحافز للبحث عن سؤال أو موضوع أو فكرة أو مقالة أو كتاب كي نتكلم حوله أثناء الإجتماع وأصبحت أنا وأختي في الإجازات نحب أن نبحث عن أفكار أو كتب أو مقالات لتكون محور حديثنا مع الوالد.. 

كان الوالد صبورا في الحوار معنا في هذا الإجتماع، يعطينا مساحة كافية لنتكلم قبل أن يبدي رأيه ويتكلم. وحين يتكلم يشرح وجهة نظره بالتفصيل بعد أن يبدأ الكلام بكلمة ربما تكون أنت على حق يا فلان في بعض النقاط ولكن. كانت هذه الطريقة تجعلنا نحن الأطفال والمراهقين نشعر بقيمة لما نقول وفي نفس الوقت لا نشعر بالمقاومة لرأيه أو أنه ضدنا وعلينا الحوار والجدل ضده.

وحين تزوجنا امتد دور الأبوة إلى الأزواج والزوجات وتحول زوج الإبنة إلى إبن له وزوجة الإبن إلى إبنة له. ينادونه أبي ويلجأون إليه في كل الأمور للإستشارة وأصبح مصدرا للثقة والحنان لهم كما هو لكل الأبناء وكل من يتبناهم ويعتبرهم تحت رعايته. 

من ناحية أخرى كان الوالد حاسما وصورة للرجل الشرقي في نظرته لترتيب الأسرة أن لها قائد وأب مسؤول عن القرارات المصيرية بعد أخذ رأي أعضاء الفريق. ليس الأب الديكتاتور الذي لا يسمع ولا يرحم وأيضا ليس الأب المتسيب الذي ليس له رأي ولا يتابع ولا يسيطر على زمام الأمور.
 
البيت المكتبة: 

كان الوالد يحرص على بناء علاقة الحب بيننا وبين الكتاب. كان لكل منا مكتبة صغيرة يضع فيها كتبه التي يشتريها بنفسه ويشارك في إختيارها. 

كانت القراءة والكتابة وحب الكتب من الأمور الهامة في حياتنا. كانت الرحلة إلى المكتبات ومعرض الكتاب هي من الرحلات الجميلة التي تربينا على حبها. وكان الوالد حريصا على غرس حب القراءة والورق والإطلاع والبحث عن المعلومات في قلوبنا منذ الطفولة.. 

منذ نعومة أظارفنا يشتري لنا الكتب والقصص والمجلات ويقضي الوقت معنا في مطالعة هذه القصص حتى تكون لدينا محبة وألفة بيننا وبين الورق والكتب والقراءة والبحث والعلم . لم يكن يهتم أننا أطفال قد نفسد هذا الكتاب أو ذاك أو نقطع هذه الورقة أو تلك أو هل المعلومات كبيرة أو معقدة بالنسبة لمستوى عقولنا الصغيرة. المهم أن نحب الكتاب والكتابة والإطلاع. وبالتدريج كبر معنا حب واحترام الكتب وهواية القراءة وحب العلم والتعلم والإستكشاف والفضول والبحث عن الإجابات والسؤال كيف ولماذا ثم البحث عن الإجابات في أمهات الكتب. 

هذا جعل القراءة والعلم والإطلاع والبحث بالنسبة لنا متعة وليس مجهودا أو واجبا ثقيلا سواء كانت قراءة من أجل الدراسة والبحث أو من أجل المتعة والهواية. وسواء كانت قراءة اليوم من كتاب ورقي أو من على أحد المواقع غلى الإنترنت.. 

لم يكن لدينا شيء إسمه ممنوع السؤال أو الإعتراض على فكرة أو رأي، لكن عليك أن تبحث عن الإجابة وقد يساعدنا الوالد ببعض المراجع أو الكتب أو نصيحة ببعض المصادر التي قد نجد فيها الإجابة على هذه التساؤلات. لكن كنا دائما نجد التشجيع على السؤال والإعتراض. المهم هو أن يتبع هذا السؤال بحث عن الإجابة في مصادرها الصحيحة وتحمل جزء من مسؤولية البحث.. يعني ليس فقط الكسل والتوقف عند مرحلة الإعتراض والسؤال . لكن المشاركة في البحث عن الإجابات وبذل مجهود في البحث والتعلم والمعرفة. 

 

أتذكر جيدا أن الكثير من القرارات في حياتنا لم يكن أبي يجبرنا عليها فقط يلعب دور الناصح الحكيم ودور القدوة. مثلا لا أتذكر أن أبي أمرني بالصلاة أو الذهاب للمسجد. لكنني كبرت فوجدته يصلي ويذهب للمسجد فصليت وذهبت إلى المسجد. لم يأمر أختي بلبس الحجاب لكنها قررت ذلك عن اقتناع من خلال الحوارات والكلام والمنطق.

 



أبي رحمه الله أب شرقي كلاسيكي يجمع بين الحنان الشديد ربما أحيانا لدرجة البكاء وبين الحزم والحرص على قيادة المركب إلى بر الأمان.. كان الوالد رحمه الله يترك مساحة كبيرة من الحرية لنا. فهو ليس الأب المسيطر الذي يراقب أبناءه ليل نهار ويتدخل في كل صغيرة و كبيرة ولا هو الأب المهمل الذي لا يدري شيئا عن أولاده ولا يقدم أي نصيحة أو تربية وكل ما يفعله هو الإنفاق والعمل كمصدر للدخل.. 

أتذكر جيدا أن الكثير من القرارات في حياتنا لم يكن أبي يجبرنا عليها فقط يلعب دور الناصح الحكيم ودور القدوة. مثلا لا أتذكر أن أبي أمرني بالصلاة أو الذهاب للمسجد. لكنني كبرت فوجدته يصلي ويذهب للمسجد فصليت وذهبت إلى المسجد. لم يأمر أختي بلبس الحجاب لكنها قررت ذلك عن اقتناع من خلال الحوارات والكلام والمنطق. 

لأن والدي كما قلنا في المقدمة يعتبر الحرية شرطا أساسيا في الحياة لكل إنسان يحترم نفسه ومن يتم إجباره على فعل شيء أو الاعتقاد بشيء غير مقتنع به فهو يعيش عيشه المنافق الخائف المكبوت بينما الإنسان الحر الواثق من نفسه يحترم نفسه ولا يقبل على نفسه الضيم ولا الهوان. ومن يحترم نفسه لا يأتي الدنية ويرى نفسه أعلى وأكبر من أن ينزل إلى مستوى الخطيئة أو يلوثه الفساد.
 
وكانت أمي تساعد الوالد في المتابعة والتواصل والحفاظ على هذه الروابط بين أفراد الأسرة. فبينما كان والدي هو المحرك فكانت أمي هي الرابط و المحور الذي ينقل الحركة و الطاقة بين أفراد الأسرة و يضمن التلاحم و التواصل بيننا. كانت تحرص على صورة الأب القدوة الجميلة التي تحترمها وتزرع احترامها في قلوب أبنائها. 

لذلك كانت متابعة الوالد لنا عن بعد لكنها قريبة جدا في نفس الوقت عن طريق الحوار والحديث المستمر والاحترام المتبادل الذي يبني أبناء واثقين بأنفسهم وقادرين على تحمل المسؤولية وليس أطفالا عالة على أهلهم متقلبين هيستيريين. 

أبناء يعتبرون أنفسهم شركاء وجزءا من فريق الأسرة يتحملون المسؤولية ومسؤولية القرارات التي يتخذونها في حياتهم بعد البحث عن النصيحة والرأي الحكيم وليسوا أطفالا مدللين ينتظرون الرعاية ويطلبون ويأخذون دون عطاء ولا مسؤولية أو يجبرهم اباءهم على فعل أشياء هم غير مقتنعين بها لمجرد الخوف من عقاب أو الطمع في جائزة.
 
الرسائل: 

ماذا تفعل حين تريد أن تطلب من والدك طلبا ولكن تهاب أن تقوله له، أو وقعت في مشكلة أو موقف محرج وتريد أن تبلغ أباك به، أو تتمنى أن يشتري لك شيئا ما. قد تستعمل الأم كوسيط أو تحاول إبلاغ والدك بطريقة مباشرة أو غير مباشرة من خلال المناورات وتوصيل رسائل غير مباشرة عبر الحركات والتصرفات وتنتظر من أباك أن يفهم الرسالة. 

لكن عندنا كانت وسيلة التواصل في مثل هذه الظروف هي كتابة رسالة ووضعها على مكتب الوالد. أن تكتب رسالة تعبر فيها عن طلب ما أو إعتذارك لمشكلة ما أو شكواك من شيء ما أو أنك تتمنى أن يشتري الوالد كذا كهدية لك أو جائزة 

كانت الرسائل المكتوبة وسيلة لتفادي الإحراج. وكان الوالد يشجعنا على التعبير عن أنفسنا بالكتابة وأحيانا كنا نتفنن في الكتابة بإضافة أبيات من الشعر أو رسم صورة بجوار الكلام لمساندة ما نقوله أو تقوية حجته أو إثبات أحقية الطلب الذي نطلبه. 

وكثيرا ما كنا نجد أبي يدخل علينا ضاحكا وفي يده الرسالة ويتحدث معنا عن محتوى الراسلة أو حتى عن بعض الأخطاء النحوية ثم يجيب علينا وجها لوجه أو يعطينا الرد مكتوبا وهو يبتسم. 

كما اننا كثيرا ما كنا نقوم بعمل ما يسمى مجلة الحائط نعرض فيه مقالات أو رسومات أو معلومات تحت عنوان واحد و نعرضها على الوالد والوالدة في نوع من تفريغ طاقات الكتابة والتعبير أو طلبا للإهتمام والتشجيع بعد أن عرفنا أن الكتابة طريق قوي الى قلب وعقل أبانا وأمنا..  

هذا ساعدنا على التعود على وضع أفكارنا في صورة مرتبة ومكتوبة والتعود على كتابة المذكرات والإنطباعات.. على الألفة مع الورقة والقلم منذ الصغر. 


0
التعليقات (0)