ليس مستبعداً أن يستغل أهل الحكم في
مصر الحرب على أوكرانيا، فيضربون ضربتهم بإصدار تعديل لقانون إيجارات الشقق السكنية، استجابة لضغوط "المافيا" التي تقف وراء المشروع، وتستولي على المنابر الإعلامية، وتسخرها للتأكيد على أن إقرار مشروع القانون هو مطلب شعبي، ولتمهيد الأجواء لإصداره، إذ تم تغييب الرأي الآخر بالكامل، فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة!
ويبدو للمصريين أن المعركة ليست بين روسيا وأوكرانيا، ولكن بين روسيا ومصر، وأن الطيران الروسي أخطأ في العنوان ويدك القاهرة لا كييف. ولهذا فقد ارتفعت الأسعار في مصر بشكل كبير، لتكون هذه فرصة الحكومة في تنفيذ مخططها في رفع
سعر رغيف الخبز. ومنذ أن تولى السيسي الحكم وهو يلف ويدور، ويقدم ويدبر، من أجل رفع الدعم كلية عنه. وهذا الارتفاع بعد الحرب يُعطي تصوراً بأن مصر تستورد القمح من أوكرانيا وروسيا باليوم، وليس لديها مخزون منه، لتبدأ الحرب اليوم، فنسمع تأثيرها بشكل عاجل بالمحروسة في التو واللحظة!
ومنذ تشكيل البرلمان الحالي، بدا واضحاً أن "المافيا" تدفع في اتجاه إصدار التشريع الخاص بإيجار الشقق السكنية، وهناك موافقة عليه من رئيس الحكومة، ليس الآن فقط ولكن منذ أن كان وزيراً للإسكان في مرحلة ما بعد الانقلاب، على النحو الذي ذكره متحدث باسم هذه العصابة. ويبدو انشغال الرأي العام بأخبار الحرب، فرصة مواتية لإقراره من قبل البرلمان المتواطئ، والذي هو بطبيعة تشكيله لا يضم المستأجرين. فمن جاءوا من الحضر، إن لم يكونوا من الملاك، فلن يكونوا من الطرف الآخر، أما الذين جاءوا من الريف، فإن عملية تأجير الشقق هناك ليست ظاهرة، لا سيما في المرحلة المستهدفة بالعدوان. فظاهرة استئجار الشقق لم تبدأ سوى في مرحلة لاحقة، كان الحال قبلها أن الأغلبية تبني بيوتها في أملاكها، حتى أبناء الطبقات الفقيرة!
ارتفعت الأسعار في مصر بشكل كبير، لتكون هذه فرصة الحكومة في تنفيذ مخططها في رفع سعر رغيف الخبز. ومنذ أن تولى السيسي الحكم وهو يلف ويدور، ويقدم ويدبر، من أجل رفع الدعم كلية عنه
ورغم هذا فإن من يستهدفهم القانون هم مستأجرو أربعة ملايين شقة، بحسب الإحصاءات الحكومية. فإذا قلنا إن متوسط سكان كل شقة هو ثلاثة أفراد، لوقفنا على حجم المأساة التي تنتظر مصر، عندما يفقد هذا العدد الضخم شققهم، ويتحولون إلى لاجئين في بلدهم. وقد يكون المشروع القومي في الفترة القادمة هو بناء "مخيمات" ليسكن فيها هؤلاء المطرودون بسبب هذا القانون الذي تدفع "المافيا" في سبيل إصداره بكل قوة، وتستخدم الإعلام في الترويج لدعاية كاذبة عن أوضاع الملاك، الذين يؤجرون شققهم بتراب الفلوس، وبعشرين جنيها، مع أن هؤلاء لا يمثلون أغلبية مستأجري الشقق المستهدفين بالعدوان والإلقاء في الشارع، بدلاً من الحفاظ على الأوضاع المستقرة، على النحو الذي ذكره أستاذ القانون المدني بجامعة عين شمس، فكان العقاب منعه من الحديث في برنامج تلفزيوني وإعطاء الفرصة كاملة لممثل هذه المافيا ليصول ويجول، ليكون المستأجرون، مع أغلبيتهم، هم بلا صوت في هذه السلطة التي تمثل الرأسمالية الجشعة، التي تريد أن تدهس بأقدامها الذين لا يستطيعون ضرباً في الأرض، أو رفع أصواتهم عالياً!
العقود الممتدة:
ليس كل المستأجرين يدفعون عشرين جنيها إيجاراً شهرياً في الوحدة السكنية، كما تروج دعاية المافيا، التي سنشير إليها بعد قليل. وللحقيقة فإن الحديث عن هذه العلاقة قديم قبل هذا الحكم، وقبل ظهور هذه المافيا المرتبطة به ارتباطاً عضوياً ووظيفياً، نظراً لأن النخبة التي تتولى الحديث تنتمي في مجملها للملاك. لكن في المقابل كانت هناك سلطة تدرك خطورة الانسياق في اتجاه الاستجابة لهذه المطالب، حفاظاً على السلام الاجتماعي، فكان التغيير برفع أسعار الشقق القديمة، ثم تم تعديل القانون بما يُعرف بالإيجار الجديد محدد المدة، على عكس ما كان قائماً من قبل بأن عقود الإيجار ممتدة (مشاهرة)!
بيد أن الأمر الآن اختلف، فلم يعد مرتبطاً فقط بطبقة الملاك القدامى، ولكن بظهور المافيا، التي تدفع في اتجاه صدور القانون الجديد، لتحدث فتنة بين الملاك والمستأجرين، ويحول البلد إلى حرب شوارع، استغلالاً لتوجه السلطة الحالية وقدرتها على فرض ما تريد بقوة السلاح، دون التفات إلى المخاطر التي تمثل آثاراً مزعجة لقوانينها وتوجهاتها!
لم يعد مرتبطاً فقط بطبقة الملاك القدامى، ولكن بظهور المافيا، التي تدفع في اتجاه صدور القانون الجديد، لتحدث فتنة بين الملاك والمستأجرين، ويحول البلد إلى حرب شوارع، استغلالاً لتوجه السلطة الحالية وقدرتها على فرض ما تريد بقوة السلاح، دون التفات إلى المخاطر التي تمثل آثاراً مزعجة لقوانينها وتوجهاتها!
إن الحديث عن عدم معقولية الإيجار الشهري الذي يُدفع في الوحدات السكنية القديمة، بالمقارنة بالظروف الحالية، يتجاهل أموراً عدة، منها أن سعر الأرض وتكاليف البناء لم تكن كما الحال عليه الآن. ثم إنه في مرحلة معينة وبعد ثورة يوليو 1952، كانت الدولة تدعم مستلزمات البناء من أسمنت وحديد وخلافه، في سبيل مواجهة أزمة الإسكان. وإذ جرّم القانون استغلال الملاك للأزمة في مرحلة سابقة، بدفع مقدمات بعيداً عن الإيجار الشهري فيما عُرف بـ"خلو الرجل"، فإن هذا التجريم لم يمنع من دفع هذه المبالغ، والتي كانت هي الثمن الحقيقي للوحدة، ليكون الإيجار الشهري هو ريع يعود على المالك. وكان "خلو الرجل" هذا لا تحرر به مستندات تثبته، نظراً للتجريم القانوني، وعليه فإنه يضيع على المستأجر عند الخلاف، أو عند ترك الوحدة السكنية، ولا يمكن إثباته الآن، ليكون السؤال: كم يساوي هذا الذي دفع بحسب قيمته الآن؟!
ومع هذا التجريم لـ"الخلو"، فإن الملاك بنوا مساكنهم للتأجير، على النحو الذي يؤكد أن عملية البناء لم تكن تمثل خسارة، فلم يكونوا ينفقون أموالهم من باب البر والإحسان ومن باب التكافل الاجتماعي!
وفي مرحلة لاحقة تم إقرار فكرة المقدمات، لتخصم من الإيجار الشهري المتفق عليه، وكانت هذه المقدمات المدفوعة هي الثمن الحقيقي لتكلفة الوحدة السكنية، وكانت تعد كبيرة بالنسبة للمستأجرين، وكان يراها بعض الملاك أفضل لهم من التمليك بسبب العائدات الشهرية من عملية بيع الشقق، والمدفوع مقدماً وإيجاراً هو مبلغ كبير للطرفين.
أصحاب المعاشات:
ثم إن هناك مسألة أخرى لم تضعها المافيا والحكومة الموالية لها في الاعتبار، وهي الذين يعيشون في هذه الشقق الآن، وإن كانوا يدفعون إيجاراً شهرياً بسيطاً، فإنهم على التقاعد الوظيفي ومن كبار السن، ويتقاضون "معاشات شهرية" قليلة لا تكفي بالكاد لشراء الأدوية، والأبواب في مصر تستر الناس، فماذا لو فقدوا هذا الستر، عندما يجدون أنفسهم وقد تم طردهم من هذه الشقق، ويحملون أثاثهم الذي كان يليق بالشقق القديمة للخارج، فإذا مكنتهم
ظروفهم الاقتصادية للانتقال لشقق حديثة، فإنهم سيضطرون للتخلص من أثاث بيوتهم؟!
التشريع الجديد ينص على تحرير العقود وفق ما يسميه بـ"القيمة السوقية"، دون تحديد لهذه القيمة السوقية، ليترك الأمر في يد المالك أو ورثته ليرفعوا الإيجار بالشكل الذي يريدونه على أنها القيمة السوقية
التشريع الجديد ينص على تحرير العقود وفق ما يسميه بـ"القيمة السوقية"، دون تحديد لهذه القيمة السوقية، ليترك الأمر في يد المالك أو ورثته ليرفعوا الإيجار بالشكل الذي يريدونه على أنها القيمة السوقية المقدرة، ولو كان الهدف هو الطرد والإخلاء!
وإذا كان إفساد التعاقدات القديمة ضد مبدأ العقد شريعة المتعاقدين، وضد مبدأ آخر هو عدم رجعية القوانين، فإنه سيكون سبباً في قتال بين المستأجرين والملاك!
إن ما يُرفع لتبرير هذا التشريع الذي من الواضح أن اللجنة التشريعية بمجلس النواب قد انتهت منه، من أنه ليس من المنطق أن يكون إيراد البناية مع تعدد الشقق فيها هذه المبالغ الزهيدة، يدخل في باب الغش والتدليس، فمن المنطق حساب هذه المبالغ الزهيدة بقيمتها وقت إقرارها، وعلينا أن نتصور رأس المال المدفوع في بناء هذه العمارة لو وضعه المالك في البنك مثلاً ليدر عليه عائداً شهرياً.
ثم إن المحكمة الدستورية العليا برئاسة المستشار عوض المر، قننت الأمر، فالإيجار ليس ممتداً ليوم القيامة، فإذا كان القانون يقر امتداده للجيل الرابع، شريطة إقامته بشكل كامل في الوحدة السكنية، فإن الامتداد أصبح بالحكم القضائي هو للابن أو الابنة فقط، مع شرط الإقامة الدائمة، بعدها تؤول الوحدة إلى المالك أو ورثته، وبمرور الزمن ستؤول البناية كلها لهؤلاء الورثة، مع الوضع في الاعتبار أن ملكية الأرض، التي دُفع ثمنها في "خلو الرجل" وفي المبالغ المدفوعة مقدماً، لا تزال في حيازة الملاك وورثتهم!
لقد شكلت المافيا التي تقف وراء إقرار هذا القانون شركة للتطوير العقاري، اشترت ثمانية عشر عمارة في وسط القاهرة، وفي طريقها لشراء المزيد، وبالقانون ستضع العقدة في المنشار بالنسبة للمستأجرين القدامى، فلا يجدون أمامهم سوى المغادرة، ليتم هدم القاهرة الخديوية التي نتباهى بطرازها المعماري، الذي سبقنا به كثيراً من دول العالم الغربي، ولتحويلها لما قاله أحد المتحدثين باسم المافيا لتكون "مانهاتن مصر"؛ غير مدرك ما يمكن أن يسببه هذا من ضغط على البنية التحتية. وقد تكون هذه الشركة هي الباب الذي تدخل منه إسرائيل، لا سيما وأن هناك تجارب كثيرة في بعض العواصم العربية، لظهور رجال أعمال مصريين للشراء، في حين أنهم ليسوا سوى ستار لجهات إسرائيلية تريد أن تضع يدها على مقدرات هذه الأمة!
الجنرال، ولكونه يعيش في المريخ وليس على كوكب الأرض، لديه تصورات بأن السكان إذا اضطروا لترك بيوتهم، فسوف يهرعون للسكن في المباني التي يشيدها وتصل أسعار المتر فيها إلى أكثر مما يبنيه القطاع الخاص، لكنه منع هذا القطاع من البناء، ومن يدري فقد يهرعون إلى العاصمة الإدارية الجديدة
وفي النهاية فإن الجنرال، ولكونه يعيش في المريخ وليس على كوكب الأرض، لديه تصورات بأن السكان إذا اضطروا لترك بيوتهم، فسوف يهرعون للسكن في المباني التي يشيدها وتصل أسعار المتر فيها إلى أكثر مما يبنيه القطاع الخاص، لكنه منع هذا القطاع من البناء، ومن يدري فقد يهرعون إلى العاصمة الإدارية الجديدة، بدلاً من أن يسكنها البوم والغربان. وهي تصورات خيالية؛ لأنه لو كان يعيش بين الناس لأدرك أن هؤلاء لو أخرجوا من ديارهم فسيكون البديل لهم هو الشارع والخيام!
عندما اطلعت على تفاصيل الأمر، وتدخلات المافيا، أدركت لماذا تم اعتقال زميلنا عامر عبد المنعم، ولماذا يجري التنكيل به في سجنه حد منع الدواء عنه، وعدم السماح بدخول حقن الأنسولين له مع أنه مريض بالسكري. فعامر لم يكن في معركة مباشرة مع الانقلاب العسكري، وإنما جل كتاباته كانت عن مخطط إخلاء مناطق وسط القاهرة، وإذ كنا نعتقد أن هذا يتم لصالح دولة الإمارات، فلم نقف على أنها المافيا!
أيها المصريون خذوا حذركم!
twitter.com/selimazouz1