قضايا وآراء

الغافل والمُغفّل.. الحالة المصرية

حسن سعيد المصري
1300x600
1300x600
أيهما أسوأ: الغافل أم المغفّـل؟ الكلمتان على وزن صانع ومصنّع.. ما يعني أن الغافل هو الجالب للغفلة. والغفلة هنا هي الإلغاء الذاتي لما أنعم الله به على الإنسان: الفكر والوعي والمنطق، وإبقاء الرأس فارغة للمستغفِـل (أو حتى بدونه)، يملأها بسمومه. أما المغفّـل، فهو الذي يجري استغفاله، دون رغبة منه في ذلك، لأنه لا يملك أدوات دفع الغفلة عنه. بتعبير آخر.. الغافل يعشق الغفلة ويكره أن يفيق منها، لأنها مريحة له ومتسقة مع تحيزاته. وهو في هذه الحالة يكون جاهزا عند ظهور مستغفِـل، لكي يجعل مهمته سهلة وميسرة. أما المغفّـل، فيمكنه أن يفيق (لأنه يكره الغفلة) عندما تتوفر الأدوات والظروف اللازمة (مثل وفاة المستغفِـل أو انصراف انتباهه إلى شأن آخر).

كان صديقي المصري دائما يقول إنهم في زمن جمال عبد الناصر، كانوا يجاهدون للوصول إلى المعلومة الصحيحة والخبر الصادق، قبل وبعد حرب حزيران/ يونيو ١٩٦٧. وكانت المصادر المتوفرة لذلك وقتها هي إذاعات "بي بي سي" و"مونت كارلو" و"صوت أمريكا". لكن المشكلة أن النظام كان دائم التشويش على هذه الإذاعات، حتى يُعجز المصريين عن الخروج من سيطرة إعلام عبد الناصر على عقولهم وأفكارهم. كانت النسبة القليلة من المصريين الساعية للحصول على الحقيقة، هي المغفلة، لأن الغفلة في هذه الحالة كانت مفروضة عليها.. كانت معذورة في غفلتها، لأنها فور رحيل عبد الناصر، تمكنت من رفع الغفلة. أما الغالبية العاشقة لعبد الناصر، فلم تكن تهتم بالحقيقة، وإنما بمعشوقها الذي استغفلها، ولذلك خرجوا بالملايين في جنازته، على الرغم من أنه أضاع سيناء وفلسطين والقدس، وألحق بمصر هزيمة مذلة غير مسبوقة في تاريخها.

من ناحية أخرى، فلا يجوز في زمن عبد الفتاح السيسي، لأي مصري ممن دعموا الانقلاب العسكري في ٣٠ حزيران/ يونيو ٢٠١٣، أن يتذرع بأنه كان مغفّـلا. كنت أتجادل مع عدد من داعمي الانقلاب، فأقول لهم لماذا لا تستمعون لنشرات أخبار فضائية "الجزيرة" وبرامجها، فيقولون إنهم لن يشاهدوها إطلاقا لأنها "قناة عميلة".. وماذا عن موقع فلان أو موقع علان على الإنترنت؟ فيكون الرد بأن هذه "مواقع إخوانية" أو "أردوغانية". هؤلاء غافلون باختيارهم، يدفعهم الكبر والعناد إلى رفض البحث عن الحقيقة، التي يكرهونها لأنها تناقض أهواءهم وتحيزاتهم المسبقة.

خلال العام الذي تواجد خلاله الرئيس المنتخب المغدور محمد مرسي في المشهد، قررت النسبة الغالبة من المصريين باختيارهم وإرادتهم، تسليم آذانهم وعقولهم إلى أبواق المستغفِـل، العاملة في الفضائيات المصرية والسعودية والإماراتية. وهكذا نجحت هذه الأبواق في استغفال هذه الأغلبية، ودفعتها إلى النزول في ٣٠ حزيران/ يونيو، للتمرد على نعمة الرئيس المدني المنتخب. قلة من هؤلاء كانوا مغفلين، لم يستغرق الأمر معهم وقتا طويلا لتتبين لهم الحقائق، خصوصا بعد الدم الحرام الذي سفك في سلسلة مجازر، على رأسها مجزرة ميدان رابعة. إلا أن غالبية شعب ٣٠ حزيران/ يونيو (القلة التي نزلت بدعوة من الجيش والشرطة، والغالبية من "حزب الكنبة" التي قعدت) كانت من الغافلين، وذلك باختيارهم.

إذن، الإجابة على السؤال أيهما أسوأ، نراها في التعبير القرآني الدقيق: "أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون".. "أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون".

أما الطرف الآخر المناهض للانقلاب، فهو أيضا تنطبق عليه معايير الغفلة. هناك في التيار الإسلامي، من سلموا عقولهم لقادتهم باختيارهم، عملا بمبدأ الطاعة العمياء والثقة المطلقة، وهناك من رفضوا هذا المبدأ، وحذروا هؤلاء القادة المغفلين من الفخاخ التي يُستدرجون إليها. غير أن الغافلين في الطرف الداعم للانقلاب موقفهم أسوأ، لأن غفلتهم اقترنت بالخيانة لمصر وسفك الدم الحرام، وهذا ما لم يفعله الغافلون في الطرف المناهض. كلاهما شارك في جريمة تخريب وتقزيم وصهينة مصر: الأول عن سبق نية وحقد وترصد، والثاني عن سبق بلاهة وكبر وسذاجة.

هذا المقال لا يستهدف جلد الذات، وإنما هو دعوة عامة للغافلين والمغفلين للاستفاق من الغفلة. وعلى رأس المدعوين لذلك هم المصريون في المنافي. فمثلا، نشر موقع "عربي٢١" منذ أسابيع قليلة مقالا لكاتب هذه السطور، يقترح فيه فكرة لم يسبق لأحد من المهمومين بالشأن المصري التعرض لها، وهي أن يقوم المصريون في المنافي بدعوة المواطن المصري الفلسطيني رامي شعث إلى قيادة حراك سياسي يستهدف تحرير مصر من احتلال العسكر. هذه الفكرة لم يعلق عليها كاتب مصري واحد من المساهمين بمقالاتهم في الموقع، لا دعما ولا دحضا. هل هذا لأن هؤلاء الكتاب المحترمين لا يقرأون لغيرهم؟ أم لأنهم وجدوا في هذه الفكرة تكاليف لا قبل لهم بها؟ أم لأن الغفلة ببساطة ما تزال سائدة بين الجميع؟

إذا كانت نخبة المصريين في المنافي تريد أن تبقى مستمتعة بغفلتها المريحة، فلا يحق لهم الشكوى من احتفاء أوروبا بالسيسي أثناء زيارته الأخيرة لبروكسل. ففي النهاية، الأوروبيون لا بد أن يتعاملوا مع مصر، ولا يرون أمامهم بديلا للتواصل مع مصر إلا من خلال السيسي، فهو الواجهة الوحيدة الظاهرة لهم، وذلك بعد أن اختار المصريون في المنافي أن يتحولوا من مغفلين إلى غافلين.
التعليقات (1)
محمود علي النجار
الخميس، 24-02-2022 05:23 م
أظن أننا جميعا نقرأ بعض مقالات وملائنا في عربي21، لكننا لا نستطيع أن نقرأ كل المقالات، ولا أظنك تفعل.. أما فيما يتعلق باختيار رامي شعث ليقود حراك سياسي ضد الطغمة الحاكمة في مصر، فربما لم ينتبه زميلي إلى أن الاقتراح ليس في محله، ذلك أن إعلام السيسي سيصفه بالفلسطيني الخائن الذي يتدخل في الشأن المصري ويسعى لهدم الادولة المصرية بدعم من جهات أجنبية، لا سيما أن السلطات المصرية عبأت الشعب المصري المغفل ضد الفلسطينيين بشكلا ممنهج بعد الانقلاب، وسوف ينجح الإعلام في إقناع المغفلين بذلك. اقبل تقديري