قضايا وآراء

المشروع السياسي لحسن البنا.. أين وصل؟

قطب العربي
1300x600
1300x600
للمفكرين دور كبير في تغيير العالم، ولا يقل عن ذلك دور المنظمين الذين يحولون الفكر إلى حركة، والحركة إلى تنظيم شعبي كبير وعابر للجنسيات والأعراق. ولعل أبرز من يمثل هذا الصنف من الناس الإمام حسن البنا الذي مرت ذكرى استشهاده أمس.

لم يقدم البنا نفسه كفيلسوف، وإن قدم تصورا متكاملا لمشروع تغيير إسلامي، ولم يهتم البنا بتأليف الكتب وكان قادرا على ذلك، لكنه اهتم بتكوين الرجال الذين يؤلفون الكتب وقبل ذلك يؤلفون القلوب. وقد نجح البنا -الذي يبدو أن له من اسمه نصيب- في بناء هذا التنظيم الكبير العابر للحدود والأجناس واللغات، حتى أصبحت له فروع في 80 دولة تقريبا بدرجات متفاوتة.

وفي ذكرى استشهاده الثالثة والسبعين، والتي تقترب من موعد ذكرى تأسيس الجماعة الرابعة والتسعين (آذار/ مارس 1928)، يبرز السؤال: إلى أين وصل المشروع السياسي للإمام حسن البنا؟ (التركيز في المقال على المشروع السياسي فقط باعتباره محل القصف الإعلامي، دون باقي المسارات).
مزاعم نهاية الإخوان انطلاقا من الحالة المصرية هو أمر متعسف ومجاف للواقع، كما أن النظر إلى اللحظة الراهنة التي يمر بها الإخوان بل عموم التيار الإسلامي عبر العالم هو نظر قاصر

يحلو للبعض الزعم أن المشروع انتهى أو في طريقه للانتهاء، ويدللون على ذلك بما تعرضت له الجماعة في مهد نشأتها (مصر) بعد الانقلاب العسكري في الثالث من تموز/ يوليو 2013، والذي اعتبر قائده عبد الفتاح السيسي مشروعه الرئيسي هو القضاء على جماعة الإخوان المسلمين، وهو الهدف الذي فشل فيه سابقوه من حكام مصر العسكريين خاصة عبد الناصر. وفي هذا الإطار فقد قتل السيسي الآلاف منهم واعتقل عشرات الآلاف، كما طارد أضعاف هذا العدد داخل مصر وخارجها، وصادر ممتلكات الجماعة وأعضائها، ووضعهم على ما يسمى بقوائم الإرهاب، وبذل -ولا يزال- جهودا مضنية مع حكومات كبرى لتصنيفهم جماعة إرهابية كما فعل هو وبعض حلفائه الخليجيين، ولكن ما يحسب للجماعة في المقابل صمودها الواضح في وجه هذه الإبادة.

والحقيقة أن مزاعم نهاية الإخوان انطلاقا من الحالة المصرية هو أمر متعسف ومجاف للواقع، كما أن النظر إلى اللحظة الراهنة التي يمر بها الإخوان بل عموم التيار الإسلامي عبر العالم هو نظر قاصر. صحيح أن المركز الرئيسي للجماعة وبلد النشأة هي مصر، لكن للجماعة فروع في عشرات الدول، ولا تزال تفتتح المزيد من الفروع في أسيا وأفريقيا وحتى أوروبا في ظل هذه الظروف الصعبة.

ودعونا نبدأ من مصر نفسها التي تضرب مثلا الآن لنهاية الإخوان، لقد وصل الإخوان فيها إلى ذروة ما استهدفوه (محليا)، وهو سدة الحكم، الأمر الذي لم يستطعه تيار آخر غيرهم، وذلك بعد تدرج في الانتشار في المجتمع، ومؤسساته الأهلية والنقابية والطلابية والمحلية والبرلمانية، وإلى جانب حيازتهم لمنصب رئيس الدولة ممثلا في الرئيس الشهيد محمد مرسي، فقد حازوا أكثرية في مجلس النواب وأغلبية في الشورى في أول انتخابات حرة بعد ثورة يناير، بينما لم تحز أحزاب أقدم منهم تاريخيا -مثل الوفد- على ثلث ما حازوه في البرلمان.
لم ينهزم الإخوان سياسيا في منافسة عادلة حتى يحكم البعض عليهم بالزوال، بل دهستهم مدرعات عسكرية سبق أن دهستهم أيضا قبل عقود ثم استعادوا عافيتهم لاحقا، ولم تقف عملية الدهس عند حدودهم بل داست أيضا كل المخلصين من أبناء ثورة يناير من مختلف التيارات

لم ينهزم الإخوان سياسيا في منافسة عادلة حتى يحكم البعض عليهم بالزوال، بل دهستهم مدرعات عسكرية سبق أن دهستهم أيضا قبل عقود ثم استعادوا عافيتهم لاحقا، ولم تقف عملية الدهس عند حدودهم بل داست أيضا كل المخلصين من أبناء ثورة يناير من مختلف التيارات، وزجت برموزهم في السجون جنبا إلى جنب مع سجناء الإخوان والتيار الإسلامي، كما قتلت بعضهم سواء في مظاهرات أو داخل السجون أيضا.

كثيرون يتبارون الآن في الكتابة عن الإخوان نقدا وتجريحا، وتأكيدا على انتهاء جماعتهم ودعوتهم بغير رجعة، ولا يدرك هؤلاء أن مجرد هذا الاهتمام الكبير منهم هو تأكيد على بقاء الجماعة، وليس موتها، فلا أحد يهتم بالأموات، كما أن هؤلاء الكتاب أو أغلبهم يعبرون عن تفكير رغائبي وليس واقعي، وينطلقون من خلفيات أيديولوجية مناهضة للإخوان بطبعها، سواء كانوا ينتمون لتيارات ناصرية أو ليبرالية. وكان الأجدر بهم أن ينظروا في المرآة ليتعرفوا على أوضاع تنظيماتهم و تياراتهم، وماذا حققت عبر تاريخها الطويل أيضا الذي يزيد أحيانا عن عمر الإخوان، والذين عملوا في ظروف أفضل من تلك التي عمل فيها الإخوان.

لننظر إلى حزب الوفد مثلا والذي فاز بأغلبية كاسحة (90 في المائة من المقاعد) عام 1924، في أول انتخابات برلمانية بعد ثورة 1919 التي قادها رموز الوفد نفسه، ولكنه لم يبق في الحكم سوى عشرة أشهر فقط، وطيلة العهد الليبرالي حتى عام 1952 لم يقض الحزب في الحكم إلا ثماني سنوات متفرقة، والسؤال الأهم أين هو اليوم؟ وما موقعه من الإعراب السياسي في مصر، وإذا نظرنا إلى التيار الناصري بكل تكويناته فسنرى وضعا أكثر قتامة، فهذا التيار لم ينتج إلا بعض الكتاب والإعلاميين والفنانين، لكنه لم ينتج مرة واحدة أكثرية برلمانية أو حتى أقلية ذات قيمة. وأغلب النواب الذين مثلوه برلمانيا وصلوا على جناح الإخوان وضمن قوائمهم أو بتنسيق انتخابي معهم، كما حدث مع أبرز رموز هذا التيار حمدين صباحي في انتخابات 2000، وكما حدث مع نواب حزبه "الكرامة" في انتخابات 2011.
لا يستطيع أحد أن يذكر أحزابا حقيقية أخرى استطاعت أن تفوز بشكل تنافسي حقيقي كما فاز الإخوان، ودعك من أحزاب السلطة التي تجهز قوائمها في مطابخ الأجهزة الأمنية، والتي يصل نوابها بفضل التحكم الأمني في العملية الانتخابية

لا يستطيع أحد أن يذكر أحزابا حقيقية أخرى استطاعت أن تفوز بشكل تنافسي حقيقي كما فاز الإخوان، ودعك من أحزاب السلطة التي تجهز قوائمها في مطابخ الأجهزة الأمنية، والتي يصل نوابها بفضل التحكم الأمني في العملية الانتخابية.

أما الحديث عن الأزمة الحالية التي تمر بها الجماعة وتقديمها كدليل على تلاشي الجماعة وأفكارها، ففيه مبالغة كبيرة، ورغم أن الأزمة حقيقية، وتنعكس سلبا على الجماعة، إلا أنها مرت بظروف مشابهة -وإن كانت أقل في حدتها- من قبل، وتمكنت من تجاوزها بقليل أو كثير من الخسائر.

ولا ننسى أن الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر استهدف عمليا تصفية الجماعة، فقتل من قتل من قادتها في السجون (مثل مذبحة ليمان طرة 1957 التي سقط فيها 21 شهيدا)، واعتقل عشرات الآلاف من قادتها وكوادرها والمتعاطفين معها في محاولة لتجفيف كل منابعها، لكن الجماعة عادت للحياة عقب مماته، وجلس ممثلها على نفس الكرسي الذي جلس عليه ومن بعده السادات ومبارك، وهو عمل لم يستطيع تحقيقه أي تيار سياسي آخر في مصر. كما أن الأزمة الحالية في الإخوان ليست أزمة فكرية عميقة بل ترتبط بأمور إدارية ولائحية، وهذا يعني أنها لا تستعصي على الحل.
لا يعني أن الجماعة تعيش عصرها الذهبي، بل المؤكد أنها -وخاصة في مصر- تعيش أصعب أيامها بعد زلزال الانقلاب، الذي تسبب في تصدعات داخلية فيها، ولكنها في الوقت نفسه تمتلك رصيدا من الخبرة يمكنها من تجاوزها في نهاية المطاف. أما مشروعها السياسي فهو جزء من مشروعها الاجتماعي الأوسع، وهو يخضع لحسابات دقيقة تقدر المكاسب والخسائر، وتقدر الظروف المحيطة محليا وإقليميا ودوليا

النظر إلى وضع الجماعة في مصر فقط، هو نظر سقيم، ذلك أن الجماعة لا تزال تعمل في العديد من الدول الأخرى، ولا يزال لها أو للكيانات المحسوبة عليها ممثلون في البرلمانات في دول الجوار المصري نفسه في ليبيا والجزائر والمغرب غربا، وفي الأردن والكويت والعراق، وماليزيا وإندونيسيا، شرقا. صحيح أن هناك هجمة منظمة ضد الجماعة تقودها أو تنفق عليها عواصم الثورة المضادة انتقاما من دور الإخوان في ثورات الربيع العربي، وخشية من انتقال عدوى الديمقراطية إلى تلك العواصم، وصحيح أن تلك الهجمة وجدت أذانا صاغية في بعض العواصم الغربية خاصة مع اقترانها بصفقات تجارية وعسكرية مليارية، إلا أن الصحيح أيضا أن تلك الأموال الضخمة فشلت في تصنيف الجماعة كجماعة إرهابية في الغرب، ما يعد هزيمة لأصحاب تلك المساعي.

ما سبق لا يعني أن الجماعة تعيش عصرها الذهبي، بل المؤكد أنها -وخاصة في مصر- تعيش أصعب أيامها بعد زلزال الانقلاب، الذي تسبب في تصدعات داخلية فيها، ولكنها في الوقت نفسه تمتلك رصيدا من الخبرة يمكنها من تجاوزها في نهاية المطاف. أما مشروعها السياسي فهو جزء من مشروعها الاجتماعي الأوسع، وهو يخضع لحسابات دقيقة تقدر المكاسب والخسائر، وتقدر الظروف المحيطة محليا وإقليميا ودوليا.

twitter.com/kotbelaraby
التعليقات (1)
الكاتب المقدام
الأحد، 13-02-2022 11:46 م
*** رحم الله الإمام الشهيد حسن البنا، فدوره الوطني المخلص لا ينكره إلا جاهل أو حاقد، كما أن الذين اسسوا جماعة الإخوان المسلمين معه ومن واصلوا جهودهم بعدهم لنشر دعوتها، أثرهم باق ومستمر، ولو كره الكارهون، تأسست جماعة الإخوان عام 1928، بعد سنوات قليلة من تأسيس حزب الوفد الذي وضع الصليب شعاراُ له في قلب الهلال الذي هو رمز العلم المصري، وهو الحزب الذي أسسه سعد الأخ الشقيق لفتحي زغلول القاضي المجرم الذي أعدم المصريين في محاكمة دنشواي، وتأسست قبل جماعة الإخوان وتزامنت معها تنظيمات أخرى التقت وتعاونت معها في كل اهدافها وبعض انشطتها للنهوض بأبناء الأمة الإسلامية كل في مجالها، كالجمعية الخيرية الإسلامية من نهايات القرن التاسع عشر، والجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية من 1912، وجماعة انصار السنة المحمدية من 1926، وجمعية الشبان المسلمين من 1927، وتلك الأخيرة كان حسن البنا عضواُ مؤسساُ فيها قبل تكوين الإخوان المسلمين، وهي الجمعية التي استمر في نشاطه فيها في نهاية حياته بعد صدور حل جماعة الإخوان، وقد قال أنه كان مستمراُ في دفع اشتراكاتها، وجمعية الشبان المسلمين هي التي اغتيل الشهيد أثناء خروجه من باب مقرها الرئيسي عام 1949، كما تعاونت جماعة الإخوان في فترات مع "حزب مصر الفتاة"، الذي حول رئيسه احمد حسين اسمه إلى "الحزب الوطني القومي الإسلامي"، لمنافسة جماعة الإخوان بعد أن ادرك شعبية التيار الإسلامي ومدى اتساع انتشاره، والقول بأن جماعة الإخوان قد انفردت عن تلك التنظيمات الأخرى بنشاطها السياسي، قول غير دقيق، لأن الجماعة منعت من ممارسة النشاط السياسي بمعناه الضيق كالتمثيل في البرلمان طوال حياة مؤسسها الأول وبعده بسنوات طويلة، وإن كانت اهتماماتها لم تتوقف منذ أول يوم لنشأتها عن الاهتمام بالسياسة باعتبارها النهضة بكل شئون المسلمين الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وذلك استمرارأُ وتعبيراُ عن الفكر والانتماء الإسلامي الذي عبر عنه محمد رشيد رضا في "صحيفة المنار"، كما في "صحيفة الفتح" التي كان حسن البنا يشارك في الكتابة فيها قبل وبعد تأسيس الجماعة، وستستمر الجماعة طالماُ استمرت معبرة عن التيار الإسلامي العام في مصر الذي تستمد منه قوتها، في القيام بدورها الأساسي الذي هو العمل على الحفاظ على الهوية الإسلامية للشعب المصري بمعناها الشامل، في مواجهة دعوات التبعية والتغريب والعلمنة والإلحاد، فقد ظهرت في مجتمع كان بفتخر فيه أمثال سلامة موسى بكتابه "لماذا أنا ملحد"، ويجهر فيه طه حسين بالطعن في كتاب الله بترديد دعوات المستشرقين في كتابه "في الشعر الجاهلي"، والذي صادرته النيابة لما فيه من اجتراء على مقدسات المسلمين، وما زال تلامذتهم يصولون ويجولون بيننا، ولنقارن عوامل قوة بقاء جماعة الإخوان بقوة مناوئيها واعدائها، فالاتحاد الاشتراكي العربي قد انهار بتنظيمه الطليعي ومنظمة شبابه وقياداته، وهو التنظيم السياسي الأوحد الذي أنشأه المأفون ناصر مع عصابته الانقلابية، وجعل كتابهم المقدس الميثاق الذي كتبه لهم عرابه المقبور هيكل، وذهب كتابهم المقدس إلى مزبلة التاريخ، كما أن الحزب الوطني الديمقراطي الذي أنشأه المقبور السادات وتابعه مبارك، ودعمته الدولة بكل أجهزتها وأموالها لما يزيد عن ثلاثين عاماُ، انهار وتفكك واختفت قياداته في الشقوق بعد ثورة 2011، وحزب الوفد الذي كان يتشدق بشعارات الليبرالية والحرية، انبطحوا تحت أقدام أحذية العسكر لاعقين لها بعد انقلاب 2013، وحزب الكرامة الناصري الذي كان رئيسه حمدين صباحي يفاخر بأنه مرشح الرئاسة المفضل، قد انخرس لسانه واختفى في الشقوق بعد أن جاهر بتأييد انقلاب الجنرال. (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ . إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ). ملحوظة: هل احتاج لتأكيد عدم انتمائي يوماُ لتنظيم جماعة الإخوان ولا لحزبها؟.