قضايا وآراء

"رثاءٌ" في عيد الثورة!

عباس قباري
1300x600
1300x600
الثورة.. هي تلك الحالة العشوائية التي تحفُر مجراها بين الصخور بإصرار، غير عابِئة بموروثٍ أو عرفٍ أو تقليد، لا تعرف سناً ولا تقيم لمساحات التهديد وزناً.

حالة ملهمة.. لا يقيدها إطار ولا ينظِمُها ناظِم.. كما لا يُحِدُ من تدفقِها سياج..

تلك الحالة التي تنطلق كبركانٍ جديدٍ مفاجئ! غير موجودٍ علي خرائط الجغرافيا.. ولم ترصده من قبل مجسِّات الجيولوجيون.. هي تسونامي مدمر.. لا يدركه أحد إلا بعدما يقع آخذاً في طريقه الحجر والشجر والبشر.

ثورة يناير.. كانت هكذا.. ثورةٌ.. شابة.. مبهرة.. متدفقة.. ساخرةٌ في حزم كما أنها جادةٌ في خفَّة الظل

صاخبة بوقار.. عابثة في هدوء.. منسابةٌ كقطر السماء.. صلبةٌ كصخر الجبال..

كانت في كل حالاتهاً.. عازمةٌ على حيازة المساحات الأكبر في كتب التاريخ، تدوينا وتصويراً.. رسماً وشعراً، بحسبانها أول ثورة عظيمة تعرف طريقها وتترسم خطواتها.

فقد قالت فأسمعت.. وضربت فأوجعت. طافت في كل الأرجاء، مغبرة أقدام ثوارها بتراب الوطن الذي لم يمش عليه من قبل أحد، معطرةً طرقات البلاد بدماء شهدائها الذين لم تبهرهم مصالح الدنيا.. كما لم تردهم عنها رصاصات الغدر.

ثورةٌ قررت ألا يكون مستقبل أبنائها كماضيهم وقادم أيامهم ليس كأمسهم.. صنعت في عيون منتسبيها نهاراً شمسه متلألأةٌ.. وصافيةٌ لياليه، وتملكت طريقها المفروش بورود النجاح والحصاد.. والاحتفالات.

إلا أنها.. سرعان ما أظلمت وعادت القهقري.. داست في طريق عودتها المفاجئ غير المدروس على جميع أبنائها.. قتلت أرواحهم بالرغم من بقاء عيونهم تطرف، وقلوبهم تخفق، وألسنتهم ما زالت تلهج بمدحها وجميل ذكرها!

ماتت ثورة يناير موتاً سريرياً!! لم يبقها فيه على الحياة إلا دماء شهدائها.. وأحلام شبابها.. وآلام مصابيها.. ماتت يناير إكلينيكياً.. بعدما غاب عن الوعي عقلها الألمعي، وتفرقت أيادي أبنائها عنها بعدما كشف عسكرها سوءتها فعروا كتفها وكسروا ظهرها!

تاهت يناير.. بعدما دخلت حواري النخب وشوارع التنظيمات.. وشارك أبناؤها بجلسات أصحاب المصالح!

خبت جذوتها بعد اشتعال، وانطفأ بريقها بعد لمعان، وخَفَتَ صوتها بعدما كانت مِلء سمع القاصي والداني بعدما داخت في طرقات السياسية والعلاقات..

استقرت صاغرة بين أيدي لصوص الثورات وتجار الثروات وأغنياء الحروب ورواد الدولة العميقة.. تراجعت خطواتها الكبري.. بعد تقدم، فأصبحت كجريح حربٍ أسَره أعداؤه وضنّوا عليه بالعلاج.

يساومون قبيلته الضعيفة على فكاكه.. بينما هو ينزف دمه ويفقد عصبه وتتقطع أوصاله، حتى إذا فقد جُلّ قوته أَوثقُوه وأودعوه سجناً مظلماً بعيداً.. أو علقوه على حبل مشنقة بيد عدوه.. وقبل أن يجهزوا عليه.. سخروا من جميع مبادئه فأهانوها.. وتناولوا سمعته فلوثوها.. ومن ثم أبعدوا أتباعه بلا مكسب.. وتركوا أنصاره بلا مهرب

هكذا حال يناير الآن! تقبع في منتصف النفق المظلم.. تنتظر مهربا من مطاردة.. أو فكاكا من أسر أو عفواً من جلاد.. لكنها حتماً ستفاجئنا كما فاجأتنا من قبل!

لكننا إن أفاقت من رقادها الطويل لن نذهب هذه المرة لنرسم أعلامنا على الحوائط.. أو نعطر شوارعنا بماء الورد، أو نكتفي بنظرات السعادة البلهاء ونغمات أغنيات الوطن الفارغة وهتافات الحناجر الجوفاء.

هذه المرة سنتمسك بالحلم ونعيد للثورة حالتها العشوائية المبهرة الشابة المتدفقة.. فقط نحتاج لشرارة جديدة.. تشحذ الهمم.. وتحيي القلوب.. وتعيد نضارة المواقف

وتغتنم أنصاف الفرص التي لو جاءت.. لن يفلتها جيل يناير الذي ما زالت تراوده أحلام الثورة وتزعجه كوابيس الانقلاب.
التعليقات (0)