قضايا وآراء

دب الكرملين العجوز وإعادته الساعة إلى الوراء!

أميرة أبو الفتوح
1300x600
1300x600

منذ أن صعد ضابط المخابرات "فلاديمير بوتين" إلى سدة الحكم في روسيا عام 2000، وهو يحلم بعودة الاتحاد السوفييتي بنفوذه السياسي والعسكري ونديته للولايات المتحدة؛ كقطب ثان في العالم، قبل تفككه عام 1991 واستقلال الجمهوريات التابعة له، كما يعمل جاهداً على إعادة تلك الجمهوريات إلى الحضن الروسي وتحت مظلة حكمه.

ففي البداية أقام اتحاداً مع روسيا البيضاء ليوسع رقعة نفوذه في آسيا الوسطي واستطاع من خلال أجهزته المخابراتية أن يولي رجالاً موالين لروسيا -أو لنقل عملاء لروسيا- رئاسة تلك الجمهوريات، ليستمر نفوذه فيها ويتحكم في سياساتها وخاصة الخارجية منها. ولما ضاقت شعوب تلك الجمهوريات ذرعاً بالتدخل الروسي في شئونها، وبالسلطة الفاشية التي تحكم البلاد بالحديد والنار وكأنها لم تحصل على استقلالها بعد، بل لا تزال خاضعة لسيطرة موسكو وتحت الحكم الشيوعي المستبد؛ قامت هذه الشعوب عامي 2004 و2005 بثورات شعبية أطلق عليها "الثورات الملونة"، بدأت بـ"ثورة الزهور" في جورجيا، وبعدها انتقلت رياح الحرية إلى أوكرانيا، وكان المتظاهرون يحملون أعلاماً باللون البرتقالي، ما جعلها تُعرف بـ"الثورة البرتقالية"، ثم واصلت رياح الثورات جريها إلى قيرغيزيا وأطلق عليها "ثورة التوليب"..

لم يغب عن بوتين أن الولايات المتحدة وراء تلك الثورات وداعمة لها، بدليل أنها أول الدول اعترافا بها، تليها العديد من دول أوروبا التي ترتبط مصالحها بمصالح الولايات المتحدة وتترابط معها. وقد ذهب معه في هذا الاعتقاد العديد من المفكرين والمحللين ومراكز الأبحاث، ولعل أبرزها وأشهرها مركز "ألبرت أينشتاين" في الولايات المتحدة، والذي تجيء أهميته من أن مؤسسه هو "جين شارب"، أحد أبرز عملاء المخابرات المركزية الأمريكية. فقد رجحوا وبشدة أن استراتيجية الثورات الملونة تصدرها الولايات المتحدة عبر منظمات المجتمع المدني وهيئات حقوق الإنسان العالمية وغير الهادفة للربح، للتخلص من النظام القائم بشكل سلمي تماماً وبدون نشوب حروب بين الثورة والدولة القائمة..

لم ييأس بوتين ولم يستسلم لهذه الثورات التي تندلع في محيط الدول إرث الاتحاد السوفييتي، وخاصة بعد انضمام دول شرق أوروبا إلى الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ما جعل وزير الدفاع الأمريكي الأسبق "دونالد رامسفيلد"، يصف بتهكم دول غرب أوروبا بأنها أوروبا العجوز. حاول بوتين بحسه الأمني ومن خلال استخباراته زعزعة الأمن والاستقرار في الدول المحيطة بروسيا، بدعم انفصاليين في تلك الدول عسكرياً ومالياً وشراء ذمم والإتيان برجال موالين لروسيا وإسقاط حكومات موالية للغرب، والمجيء بحكومات موالية لموسكو. نجح في بعضها وفشل في البعض الآخر، كجورجيا وأوكرانيا والجمهوريات السوفييتية السابقة الواقعة في القوقاز؛ التي كان لديها طموح للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وأبدت رغبتها بالانضمام لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو ما تعتبره روسيا خطا أحمر ممنوعا الاقتراب منه، وإذا حدث ذلك سيكون انتهاكاً خطيراً لمنطقة نفوذها في آسيا الوسطي وتهديداً لأمنها القومي، فكانت الضربة الكبرى عام 2008، حيث غزت القوات العسكرية الروسية دولة جورجيا وهددت باحتلال العاصمة، واحتلت أقاليم منها بهدف منعها من الانضمام لحلف الأطلسي..

ويبدو أن بوتين فوجئ بالرد الدولي الضعيف على هذا العدوان السافر، الذي لم يخرج عن الشجب والتنديد والمطالبة بسحب قواته، ففتحت شهيته لإعادة الكَرة في شبه جزيرة القرم في عام 2014، حيث غزا الجيش الروسي شبه جزيرة القرم واحتلها مع مناطق شرق أوكرانيا وميناء "سيفاستوبول" وضمها إلى روسيا الاتحادية..

 

وهكذا استطاع بوتين أن يفرض سياسة الواقع عسكرياً على الحلف الأطلسي في شرق أوروبا، والتي قابلها الغرب هذه المرة أيضا ببيانات الشجب والإدانة والتهديدات بعقوبات اقتصادية صارمة، ففُتحت شهيته أكثر على ابتلاع أوكرانيا بالكامل!!

دولة أوكرانيا نظامها ديمقراطي موال للغرب، ولكن قيصر روسيا الجديد "بوتين" يريد أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء ويعيدها إلى دائرة النفوذ الروسي، فدق طبول الحرب، فوقف العالم على أصابعه وحبس أنفاسه وهو يرى أكثر من 100 ألف جندي روسي بأسلحتهم الثقيلة على حدود أوكرانيا، والمناورات التي تجري في محيطها..

هدد بوتين بغزو أوكرانيا، إذا حصلت على أسلحة للدفاع عن نفسها، وكأنها دولة ليست مستقلة ذات سيادة ومن حقها الدفاع عن نفسها أمام أي عدوان خارجي، ولكنه يريد أن يسلبها حقها هذا، بل يريد أن تكون جميع البلدان المحيطة بروسيا تحت رحمتها العسكرية ونفوذها الأمني والسياسي، كما حدث في كازاخستان مؤخراً، ويريد أن يأخذ ضمانات أمنية مُلزمة من الغرب؛ تتضمن تعهداً منه بسحب قوات حلف شمال الأطلسي من أوروبا الشرقية وعدم قبول عضوية أوكرانيا في الناتو، بما يشبه الضمان الشفهي الذي يزعم أن الرئيس الأمريكي الأسبق "جورج بوش" الأب قد أعطاه شفهيا لنظيره السوفييتي "ميخائيل جورباتشوف"، وهو ما ينكره الأمريكيون ويعزز موقفهم أن جورباتشوف كان في ذلك الوقت يشهد مرحلة تفكك الاتحاد السوفييتي مهزوماً مكسوراً، ومن المُحال أن يُملي المهزوم شروطه على المنتصر، بل العكس هو ما يحدث دائماً وأبداً، فالمنهزم هو مَن يرفع الراية البيضاء ويوقع على وثيقة استسلامه..

لكن الطاووس الروسي المُختال بنفسه "بوتين" يتصرف بعنكهية ويتكلم بصفاقة، محاولاً ابتزاز وترهيب الغرب وكأنه حقق انتصاراً عسكرياً كبيراً عليه، ويريد أن يخضع الغرب لمطالبه. كان آخر تلك التصرفات الحمقاء والبعيدة كلية عن البروتوكلات الرسمية، ولن تكون الأخيرة بالطبع لشخصية نرجسية كهذه، جلوسه أمام الرئيس الفرنسي على طرف طاولة طويلة جدا، وكأن ماكرون يقدم التماسا في محكمة القيصر بوتين وليست مباحثات بين رئيسين بنفس الندية، وإن برره الروس برفض إيمانويل ماكرون تقديم مسحة للتأكد من خلوه من فيروس كورونا، لكن كورونا تبرئ نفسها من هذا المبرر السخيف، بل أراد بوتين أن يعطي لنفسه هالة سياسية ووضع أكبر من ضيفه، وأن الفارق بيننا كبير ويجب أن تخضع لشروطي وتنفذ طلباتي!!

ويبدو أن لغة بوتين التهديدية وترهيبه للغرب وابتزازه له من جهة الغاز الذي يتباطأ في تصديره إلى أوروبا التي تعتمد عليه بشكل أساسي وبدونه يقتلها الصقيع؛ قد آتت أُكلها، فلا يزال الغرب يستميله ويشتري وده على حساب أوكرانيا. فعلى الرغم من رفض واشنطن المطالب الروسية بشكل قاطع، مع تهديدات أمريكية وغربية شديدة وعواقب وخيمة وما إلى ذلك من جعجعة فارغة، أو كما يقول المثل "جعجعة بلا طحين"، وكذلك مكالمات بايدن شديدة اللهجة مع بوتين إلى جانب وصفه بالقاتل في أحد خطاباته، إلا أن الرئيس الأمريكي بحديثه عن عدم توافر شروط ضم أوكرانيا للحلف الأطلسي يعطي إشارة بتراجعه عن دعمه لكييف، وكأنه يغطي انسحابه من المواجهة مع روسيا قبل أن تبدأ ساعة الصفر، التي حددتها الصحيفتان البريطانية "ديلي ميل" والألمانية "دير سبيغل"، نقلا عن مسؤول في الاستخبارات الأمريكية، بيوم 16 شباط/ فبراير..

كما أمرت الولايات المتحدة وبشكل مفاجئ سحب شبه كامل للجنود الأمريكيين المتبقين في أوكرانيا، حيث يدربون القوات الأوكرانية، والحجة المعتادة هي إعادة نشرهم في مواقع أخرى! وعلل المتحدث باسم البنتاجون "جون كيربي" هذه الخطوة بتعليل ساذج لا ينطلي على أحد، إذ قال: "إن إعادة الانتشار هذه لا تعكس تغييراً في تصميمنا على دعم القوات الأوكرانية، لكننا نعطي قدراً من المرونة لطمأنة حلفائنا ومنع أي عدوان"!!

وسارت ألمانيا على نفس الدرب الأمريكي بالتخلي عن أوكرانيا بعد رفضها إرسال أسلحة إلى الرئيس الأوكراني "فولوديمير زيلينسكي"، والاكتفاء بإرسال خوذات للرأس، واعتراضها الظاهر على فكرة ضم أوكرانيا لحلف الناتو. ولحقها ماكرون بعد إهانته في زيارته الأخيرة لروسيا، بإعلانه مجدداً رغبته بمزيد من التواصل والتفاهم مع بوتين. وكل هذه مؤشرات للانسحاب التدريجي الغربي الممنهج من المواجهة مع روسيا، وخاصة بعد إعلان الصين عن علاقة شراكة شاملة بلا حدود مع روسيا..

وجدير بالذكر أنه في عام 1994 وقعت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا مذكرة عُرفت بمذكرة "بودابست"، قدمت فيها موسكو ضمانات بعدم استخدام القوة ضد أوكرانيا وبيلاروسيا وكازاخستان، على أن تقوم هذه الدول بالتخلي عن أسلحتها النووية، ولكن للأسف مزق ثعلب الاستخبارات الروسية "بوتين" هذه الضمانات وذهبت أدراج الرياح؛ باحتلاله شبه جزيرة القرم وضمها للأراضي الروسية!!

يجب أن تتخذ أمريكا والغرب عامة موقفاً حازماً وحاسماً تجاه روسيا، وإلا فقدت واشنطن مصداقيتها أمام حلفائها وصدقت مقولة "المتغطي بالأمريكان عريان"

إن موقف الدول الغربية المتخاذل والمذبذب أمام بوتين وعدم الجدية في الدفاع عن دولة حليفة، وإعادتها إلى دائرة النفوذ الروسي، هو إقرار بحق روسيا الدائم بالتوسع في محيطها الجعرافي بنفس الحجة؛ حجة أمنها القومي!

نعم، لو استسلم الغرب للابتزاز الروسي لتكون أوكرانيا هي الثمن هذه المرة؛ فستصبح المآلات في المستقبل أكثر سوءاً وأشد تعقيداً. فقد تضخم الدب العجوز "بوتين"، وازداد طمعاً وجشعاً بسبب ميوعة الغرب، وهذا ما سوف يشجعه على انتهاج نفس السيناريو مع بقية الدول القريبة جغرافياً من روسيا والتوغل فيها. فما أدراك بعد ذلك أن يتطور الأمر ويتقدم نحو رومانيا وبلغاريا وبولندا، فهذه الدول تعيش حالياً في حالة رعب وخوف على مصيرها المجهول؛ إذا سقطت أوكرانيا في الفلك الروسي المُظلم.

ولهذا يجب أن تتخذ أمريكا والغرب عامة موقفاً حازماً وحاسماً تجاه روسيا، وإلا فقدت واشنطن مصداقيتها أمام حلفائها وصدقت مقولة "المتغطي بالأمريكان عريان". كما يجب كبح جماح دب الكرملين العجوز، الذي يريد أن يعود بالساعة إلى الوراء..

twitter.com/amiraaboelfetou
التعليقات (0)