أفكَار

كيف أضعف جودت سعيد فكر مالك بن نبي؟

جودت سعيد ومالك ابن نبي
جودت سعيد ومالك ابن نبي

مقدمة:
 
ما من شك أن موت جودت سعيد كان له تأثير مهم في لفت الانتباه إلى مشروعه الفكري، فقد تحركت وسائل الإعلام للتعريف بأفكاره وبعض مفاهيمه، وتم التركيز بشكل كبير على فكرة "اللاعنف" في أطروحته الفكرية.

البعض استثمر لحظة وفاة جودت سعيد لتصفية الحساب مع خيارات اتجهت إليها الثورة السورية، وجلد تجربة العمل المسلح ضد نظام بشار الأسد، مع أن تأثير جودت سعيد على الثورة السورية كان محدودا، إذ ظل كما هي أفكاره وعوائده، وفيا لأطروحته السلمية، محاولا الإقناع بالمكاسب التي يمكن أن يحققها العالم العربي من وراء التأسيس للديمقراطية والتوافق على قواعدها في إدارة اللعبة السياسية.

والحال، أن مشروع جودت سعيد هو أكبر من فكرة اللاعنف، وأكبر حتى من الثورة السورية نفسها، فالرجل كان بصدد التأسيس لفهم جديد، يستمد أغلب مفاهيمه وأفكاره من مشروع مالك بن نبي، ويحاول القطع مع الأخطاء التي ارتكبتها الحركات الإسلامية في كل من مصر وسوريا، غداة انعطافها اللاطوعي للعنف.
 
لماذا بالتحديد مالك بن نبي؟

ثمة سؤال مركزي يثار بهذا الصدد، وهو ما السبب الذي جعل جودت سعيد ينتظم في فكر مالك بن نبي؟ هل يتعلق الأمر باعتبارات شخصية أو ثقافية؟ أم أن الأمر يتعلق بمشروع فكري جديد أسس له مالك بن نبي، وقدر جودت سعيد أنه يشكل خيارا بالنسبة للحركة الإصلاحية للخروج من المأزق الذي دخلت إليه؟


سيكون من العسف الادعاء بأن الاعتبارات الشخصية والروابط الثقافية لم تكن حاضرة، فالمفكر الجزائري مالك بن نبي، كثيرا ما كان يتردد على سوريا، وكان له بها أصدقاء لا يقتصرون على تبني مشروعه، بل ساهموا في نقله من اللغة الفرنسية إلى اللغة العربية، وأسهموا بشكل وافر في نشر تراثه، ويكفي في هذا الصدد أن نشير إلى أن المفكر اللبناني عمر مسقاوي، الذي قام بدور الوريث، في تحمل مسؤولية نشر فكر مالك بن نبي، وتعميمه على العالم العربي، قد تحدث في مذكراته "في صحبة مالك بن نبي" عن جوانب من رحلات مالك بن نبي، وزيارته لسوريا ولبنان والسعودية والكويت بعد مستقره بالقاهرة، والعلاقات التي أنشأها هناك، وذكر صاحب رجالات الدعوة الإسلامية، السيد عبد الله العقيل، تلامذة مالك بن نبي، حسب الدول التي زارها، فذكر عمر مسقاوي في لبنان، وجودت سعيد في سورية، وعبد الصبور شاهين في مصر، ورشيد بن عيسى في الجزائر، وثبتت زيارة مالك بن نبي لبيت جودت سعيد أكثر من مرة، أو على  الأقل، سنة قبل وفاته، أي سنة 1972.

وكتاب مالك بن نبي "مجالس دمشق" يشهد بأنه كان يقيم بدمشق مجالسه، ويحضر فيها كبار المفكرين والمثقفين في سورية، منهم محمد عدنان سالم صاحب دار الفكر، الذي تكلفت بنشر كتبه، وكانت تربطه علاقة شخصية وثقافية بمالك بن نبي، وكان لهذه المجالس تأثير فكري كبير، إذ كان ينظر لمالك بن نبي باعتباره ثورة على المسلمات الفكرية التي كانت سائدة وقتها، فتحدث أكثر من واحد من الذين حضروا مجالسه (ومنهم السيدة هدايت سالم، والشيخ جودت سعيد)، أن أفكاره مثلت بالنسبة إليهم ولادة فكرية جديدة، إذ أقحمهم في قضية لم يعهدوا التفكير فيها، وهي قضية: "مشكلات الحضارة".

والثابت في سيرة جودت سعيد أنه التقى مالك بن نبي مبكرا في القاهرة، واطلع على كتابه شروط النهضة، وأنه عقب عودته لسورية كان يدرس كتب مالك بن نبي في حلقاتٍ يعقدها في الجامع الأموي وجامع المرابط في دمشق، وقد علم مالك بن نبي بهذه المجالس، وزار جودت سعيد في بيته سنة 1972، وتقوت العلاقة بينهما، ويشير جودت سعيد إلى أنه أقبل على أفكار مالك بن نبي، وتعمق فيها، وصار يدرسها ويتمعن ويقلب النظر فيها، ويبحث لها عن السند الشرعي والمعرفي من نظراته في القرآن والتراث المعرفي وفي العمران البشري.

هذه الوقائع والشهادات لا تترك أي مساحة لإنكار الروابط الشخصية والثقافية التي حصلت بين الرجلين، لكن مع ذلك، فالذي يفسر انتظام جودت سعيد في فكر مالك بن نبي، هو شيء آخر، كونه سمع أو واجه أطروحة مختلفة، لم يعهدها من قبل، أو بالأحرى، اكتشف نسقا جديدا في التفكير، يعرض القضايا التي تعاني منها الأمة، ضمن رؤية مغايرة، تنطلق من المشكلة الحضارية التي تعاني منها الأمة.

قد يكون سؤال الالتفات المبكر لمالك بن نبي في سورية أمرا مثيرا للانتباه، فقد ظل مالك بن نبي لفترة طويلة نسبيا في القاهرة، وحاضر في أكثر من جامعة، وفي أكثر من مجلس في مصر، بل ثبت أنه حاضر حتى في جامعة أم درمان بالخرطوم، وبلغ به الأمر حد الدخول في سجال نقدي متبادل مع سيد قطب رحمه الله، كما يوضح ذلك كتاب مالك بن نبي (شروط النهضة) الذي علق على عنوان سيد في كتابه "نحو مجتمع إسلامي" وكتاب سيد قطب "معالم في الطريق" حين رد عليه وذكره بعبارة "مفكر جزائري"، ومع ذلك كله، فإن مالك بن نبي لم ينل الاهتمام الذي يبرره مشروعه الفكري كما ناله في سوريا.

البعض يرجع الأمر إلى الحظوة الفكرية التي نالها في الشام، ونشاط وفعالية التلامذة الذين حملوا فكر مالك بن نبي في الشام، فضلا عن دور دار الفكر التي قامت بنشر كتبه، لكن، الأمر ربما يتعدى ذلك، إلى هيمنة النسق الفكري القطبي الذي حال دون انتشار فكر مالك بن نبي في مصر بحكم أن الأقرب إلى تبني فكره هم أبناء الحركات الإسلامية، كما يعود إلى "الحساسية الناصرية" لدى أنصار الحركات الإصلاحية، وكيف كان اقتراب مالك بن نبي من جمال عبد الناصر سببا في إضعاف حضور أفكاره لدى هذه الحركات.

في البدء كان مذهب ابن آدم الأول

توقف الكثير من مقرظي المفكر جودت سعيد على مركزية فكرة اللاعنف في مشروعه الفكري، لكنهم لم ينتبهوا إلى أن باكورة فكره بدأت بهذه الفكرة أي اللاعنف، ولم تكن ثمرة من تراكم فكري طويل.

يصعب تفسير ذلك بالحاسة النقدية، أو الملكة الاستشرافية، فجودت سعيد في بدايات بحثه عن مشروع فكري، يذكر أنه انتظم في فكر مالك بن نبي، وتولى شرحه، والتعمق فيه، وإسناده بنظراته في القرآن، وبما حصله من رصيد معرفي، أي أنه كان بمثابة الشارح لمتن مالك بن نبي، الشارح الذي يستعمل حججا جديدة (شرعية تنتمي إلى الفضاء الإسلامي) لإسناد فكر مالك بن نبي الذي كان يصوغ أفكاره بمنطق فكري وفلسفي وأحيانا علمي.

والحال، أن من كانت هذه طبيعته، كما أقرها بنفسه، يصعب عليه، أن تقوده حاسة الاستشراف للتأسيس لمفهوم اللاعنف في العمل الإسلامي، والأرجح أن ما فعله هو أنه حاول أن يوظف فكر مالك بن نبي لنقد السياق الحركي القائم، والانطلاق منه لبناء تصور جديد للعمل الإسلامي غير التصور السائد والمهيمن.

عمليا، كتب جودت سعيد كتابه "مذهب ابن آدم الأول" في بداية الستينيات، أي عقب احتكاكه بمالك بن نبي في القاهرة، واطلاعه على كتابه "شروط النهضة" وربما حتى كتابه "وجهة العالم الإسلامي"، بحكم أن هذين الكتابين كانا من أوائل ما نشره مالك بن نبي في القاهرة بترجمة عبد الصبور شاهين. فقد عاش ابن نبي في القاهرة ما بين 1954 و1963، وقد كان لقاء جودت سعيد به في أواخر فترة وجوده في القاهرة، وقد اطلع هناك ـ حسب إفادته ـ على كتابه "شروط النهضة".

يبقى السؤال قائما: وما العلاقة بين "مذهب ابن آدم الأول" و"شروط النهضة"؟

الواقع أن الجواب عن هذا السؤال يستدعي استحضار أمرين اثنين: أولهما هو السياق الحركي، ونوعية الأفكار التي كانت سائدة فيه، وثانيهما هو المشروع الفكري الذي طرحه مالك بن نبي في "شروط النهضة" ونظرته للتغيير فيه، وهل سبق وأن طرح فكرة اللاعنف فيه؟

ما من شك أن السياق الحركي الذي حكم مرحلة الستينيات وحتى السبعينيات، هو استحكام النسق القطبي في التفكير الإخواني، وامتداد فكرة مواجهة الطاغوت، سواء الناصري منه في مصر أو البعثي منه في سورية، ودخول الحركات الإسلامية خيارات الاستدراج للعنف.

ما يعزز فرضية أن هذا السياق دفع جودت سعيد لكتابة كتابه، هو العنوان الفرعي لكتابه مذهب ابن آدم الأول، والذي أشار فيه إلى مشكلة العنف في العمل الإسلامي، وليس في شيء آخر.

المشروع الفكري الذي أودعه مالك بن نبي كتابه المركزي "شروط النهضة"، اختصر الخط الحضاري في التغيير، ذلك الخط الذي أعاد ترتيب الأولويات، وبين أسبقية العوامل التربوية والاجتماعية والحضارية على الأبعاد السياسية، وقدم تفسيرا للتراجع الحضاري للأمة، يعتمد قانون المراحل الثلاث: (مرحلة الروح، ومرحلة العقل ومرحلة الغريزة)، لتفسير مراحل تطور التاريخ الإسلامي، ليصل إلى مرحلة مجتمع ما بعد الموحدين، ويقدم تفسيره النفسي والاجتماعي لخصوصيات هذا المجتمع (مجتمع مكبل بذهان السهولة والاستحالة، فلا يستطيع فعل شيء)، ذلك المجتمع الذي تملكته كل صفات "اللافعالية"، حتى صار لديه "القابلية للاستعمار"، التي كانت سببا في جلب "الاستعمار".

يحاول مالك بن نبي في هذا الكتاب، طرح إمكانية استعادة إنسان ومجتمع ما بعد الموحدين المبادرة وبناء حضارة من جديد، فيقرر أن المبدأ الذي عليه قامت الحضارة الإسلامية أول مرة، لا يزال صالحا لإعادة الكرة، وأن المشكلة تكمن في بناء الإنسان، وتوجيه ثقافته وعمله ورأسماله، وتوجيه التراب والوقت، حتى يتم استئناف شروط الحضارة.

يلفت مالك بن نبي الاهتمام إلى أن الحكم ما هو إلا آلية تعكس واقع المجتمع، وأنه لا يمكن الرهان على الحكم لتغيير الإنسان، بل تغيير الإنسان وتغيير شبكات علاقاته الاجتماعية، وتغيير ثقافته (المبدأ الأخلاقي، والتذوق الجماعي، والمنطق العملي والصناعة) هو الذي يخلق مجتمعا، وهذا المجتمع، تتعزز فيه نوازع مقاومة العبودية، فلا يقبل أن يمارس عليه الاستبداد، فيتأسس الشعور الديمقراطي عنده، فيصعب على أي سلطة أن تجد مشروعيتها ما لم تساير وجهة هذا المجتمع وقيمه المعيارية.

 

 


تلقى جودت سعيد هذا المشروع الفكري من كتاب "شروط النهضة" وربما أيضا من كتاب "وجهة العالم الإسلامي" فتعرف بذلك على نظرية جديدة في الفكر الإسلامي، أو بالأحرى، تعرف على أطروحة جديدة في الفكر الإصلاحي الإسلامي، تختلف تماما عن الأطروحة القطبية التي كانت تكتسح الفضاء المصري والسوري، فتبينت له المفارقة بين طرحين، الأول سياسي ثوري، يتصور أن عودة الإسلام وحضارة الإسلام، ستأتي من بوابة اقتلاع الأنظمة الجاهلية، وإقامة حكم الله ومنهج الله في الأرض، والثاني، حضاري، يلتفت إلى الشروط النفسية والتربوية والاجتماعية، التي تؤهل المجتمع وتوسع وظائفه، وتصيره قوة سلمية ممانعة لتغول السلطة، يصعب عليها ممارسة نفوذها عليه، بحكم تخلصها من جينات العبودية والقابلية للاستعباد.

الخلاصة، أن فكرة اللاعنف التي جاء بها جودت سعيد، وحاول من خلالها التأسيس لأطروحة تغييرية جديدة بديلة للعنف الذي آلت إليه ممارسة الإسلاميين في التغيير، كانت ناضجة في كتاب مالك بن نبي، الذي أسس لفكرة التغيير الحضاري، إذ لأول مرة، تتضاءل المسألة السياسية في الأطروحة الإصلاحية، فتصير تابعة للأبعاد الحضارية، أو للدقة، تصير ثمرة لها ونتيجة لمفعولها في الواقع.

كيف أضعف جودت سعيد مشروع مالك بن نبي الفكري؟

الناظر في المشروع الفكري لجودت سعيد، يجد أنه يقوم على أفكار محورية تحدثنا عنها في مقال سابق (تثبيت الفكر السنني، التغيير يبدأ من النفس، التغيير عملية معقدة تتطلب الوعي بجميع أبعادها والإفادة من خبرات الشعوب وتجاربها، مشكلة تخلف الأمة يعود إلى اللافعالية، المعرفة مسألة مركزية في أي مشروع تغييري، العملية التغييرية عملية واعية، تتطلب فهم عوامل التخلف، واستيعاب سنن التقدم، السلمية في التغيير قضية مركزية في العمل التغييري، التمييز بين الجهاد والقتال، واشتراط وجود الدولة وحدوث العدوان عليها لتسويغ الجهاد.....).

والحال أن هذه الأفكار والمفاهيم وردت في مشروع مالك بن نبي، ففي كتابه "شروط النهضة" يتحدث عن القوانين المفسرة لتغير المجتمعات، ويتحدث عن خضوع المجتمع الإسلامي نفسه للدورة الحضارية.
وفي موضوع التغيير، وأسبقية تغيير النفس على تغيير ما بالقوم، يتحدث مالك بن نبي، عن شرطية تخليص المجتمع ابتداء من القابلية للاستعمار، وأنه لا يمكن مقاومة الاستعمار دون تخليص المجتمع منها. ويتحدث عن مقومات هذه القابلية، سواء على المستوى النفسي (ذهان السهولة وذهان الاستحالة) أو على المستوى الفكري (التمييز بين الأفكار الميتة والأفكار المميتة، والأفكار الأصلية والأفكار الفعالة، وأيضا في حديثه عن الأفكار المخذولة وانتقامها).

 

في الوقت الذي كان فيه مالك بن نبي يؤصل لمشروع فكري تغييري يحمل طابع النسقية، وتنسلك مفاهيمه ضمن نظام فكري يرتبط بعضه ببعض، كان جودت سعيد يأخذ مفاهيم مالك بن نبي بشكل منفصل، فيشتغل عليها بالشرح والتفسير والإسناد والتأصيل الشرعي مستعينا بخبرته في فهم معاني القرآن، ومن رصيده في المعرفة الإنسانية وأيضا من التاريخ الإسلامي.

 


تحدث مالك بن نبي طويلا عن الفعالية، وأفرد لها فصولا في كتابه، لا سيما كتابه "تأملات"، وتحدث عن شروط التقدم والإفادة من خبرات المجتمعات، وتحدث عن الحضارة والمنتجات، ومن يلد من؟ وهل الحضارة تلد منتجاتها؟ أم أن استقدام منتجات الغير يمكن أن يسهم في بناء الحضارة؟ ويتحدث عن الفرق بين الفعل الحضاري وبين التكديس، ولم يغفل الحديث عن الشروط السلمية التي يتم فيها التغيير، مشيرا أكثر من مرة إلى غاندي ومنهجه اللاعنفي في مقاومة الاستعمار.

ليس القصد من هذا المقال، بيان أسبقية فكر مالك بن نبي، فهذا تحصيل حاصل، بل إن جودت سعيد نفسه أقر بأنه لم يفعل أكثر من شرح مالك بن نبي ومحاولة إسناد أفكاره بحجج شرعية من القرآن ومن المعرفة الإنسانية، لكن ما يهم هو التأكيد على المفارقة بين طريقتين، طريقة مالك بن نبي الذي عرض لهذه المفاهيم ضمن مشروع فكري نسقي، حلل فيه المجتمع الإسلامي، وفسر مراحل تطوره، والعوامل المؤثرة في هذا التطور، وقدم تشريحا نفسيا واجتماعيا دقيقا لإنسان ما بعد الموحدين، ومجتمع ما بعد الموحدين، ووضع شروط بناء النهضة، بدءا من محورية الإنسان، وتوجيه ثقافته، وعمله ورأسماله، بالإضافة إلى توجيه الوقت والتراب، وأعطى لمسألة السياسة مساحتها المقدرة، وأسس لمفهوم جديد للديمقراطية يتناسب مع تصوره الحضاري، فبدل أن تكون الديمقراطية ساحة للصراع السياسي بين حزب معارض يسعى للوصول إلى السلطة وحزب أغلبي يمارس السلطة، راجع مالك بن نبي هذا المفهوم البسيط، وراح يؤصل الديمقراطية في مضمونها النفسي والاجتماعي، مركزا على الشعور، فالديمقراطية لا تتأسس في مجتمع حتى تزول منه نوازع العبودية، وتزول من الحكام تبعا لذلك نوازع الاستبداد، فراح يراهن على التنشئة الاجتماعية، حتى يتمكن المجتمع من تخليص ذاته من العبودية، فيصعب على أي سلطة تأتي أن تحظى بالمشروعية ما لم تساير مرجعية هذا المجتمع وقيمه.

ففي الوقت الذي كان فيه مالك بن نبي يؤصل لمشروع فكري تغييري يحمل طابع النسقية، وتنسلك مفاهيمه ضمن نظام فكري يرتبط بعضه ببعض، كان جودت سعيد يأخذ مفاهيم مالك بن نبي بشكل منفصل، فيشتغل عليها بالشرح والتفسير والإسناد والتأصيل الشرعي مستعينا بخبرته في فهم معاني القرآن، ومن رصيده في المعرفة الإنسانية وأيضا من التاريخ الإسلامي.

ولذلك، من الممكن أن تقرأ مفهوم التغيير، ومفهوم الفعالية بشكل مميز عند جودت سعيد، لكن، لا تستطيع أن تجد في كتب جودت سعيد الرباط الذي ينسج هذه المفاهيم في مشروع فكري تغييري، تعرف منطلقاته ومبادئه، وتعرف منتهياته ومآلاته.

الخلاصة التي تقود إليها هذه المقارنة، أن جودت سعيد تميز في شرح بعض مفاهيم مالك بن نبي، لكن من يقرأ جودت سعيد، لن يستطيع فهم مالك بن نبي، ولا مشروعه الفكري، بخلاف من يقرأ مالك بن نبي، فإنه بعد أن يفهم المفاهيم التي استعان بها، يدرك موقعها ضمن نسقه، والوظائف التي تقوم بها، ويدرك قبل هذا وذاك، أنه بصدد مشروع فكري تغييري، يستطيع أن يدخل في سجال تفصيلي مع المشاريع الفكرية المنافسة، بخلاف جودت سعيد، فإن تركيزه على المفاهيم، تجعل من فكره، غير قادر بالمطلق على نسج نسق فكري، فبالأحرى مشروع فكري تغييري يتمتع بالقدرة السجالية في مواجهة المشاريع المنافسة.


التعليقات (1)
أبو العبد الحلبي
الأحد، 13-02-2022 02:17 م
لا أرى أن الأستاذ جودت سعيد قد أضعف فكر الأستاذ مالك بن نبي و لا أرى العكس أي أن الأستاذ مالك قد أضعف فكر الأستاذ جودت ، و صياغتي العبارة بهذه الطريقة أقصد منها وضع الاثنين بنفس الطبقة . أعتقد أن كل واحد من هذين المفكرين كان ، في نهاية المطاف ، نسيج وحده مع عدم نفي وجود التأثير المتبادل بينهما و هذه ظاهرة أخذ و عطاء تحصل باستمرار حين يوجد عالمين في نفس العصر . من غير اللائق بمفكر أن يكون بحسب الوصف الحديث " نسخ/لصق" عن مفكر آخر مهما كان طول باع الآخر في الفكر و حتى لو كان الأول تلميذاً عند الثاني . لقد تهجم بعض الكتَاب على جودت – رحمه الله – بعد وفاته مباشرة و عرضوا أفكاره و كأنها تدعو إلى إلغاء الجهاد بشقيه " الطلب و الدفع –أي دفع الصائل-" . تمنيت على من هاجموه إحسان الظن بالرجل و ثانياً هو لا يمكن أن يقع في خطأ الإطاحة بفرض افترضه الله . كان يتحدث عن التغيير السلمي – لا التغيير المسلح – للمجتمعات و هذا دلَ على معرفته المتعمقة بالسيرة النبوية الشريفة التي فيها جرى التغيير من دون قعقعة السلاح . من أدبه الرفيع أنه سمع من وصفوه بأنه " غاندي سوريا " و لم يعترض مع أنه كان يعلم واقع غاندي الهندوسي الذي جرى إشهاره لأهداف سياسية استعمارية. لم يجرؤ أحد على أن يتهمه بالجبن نتيجة طرحه للسلمية لأنهم يعلمون أنه كان معارضاً معلناً لكل من حافظ و بشار و لم يخشاهما بل و دفع ثمناً باهظاً على موقفه الصلب . لإنصاف الرجل الراحل جودت ، أرجو التفضل بقراءة مؤلفاته بموضوعية و من دون نظرة مسبقة مع التمعن فيما كتب . لقد رأيت منه عبارات كان حكمي عليها أنها كان ينبغي كتابتها بماء الذهب مثل حديثه عن استبدال هرقل بهرقل ، و هو استبدال مارسته القوى الاستعمارية على العديد من بلدان العرب و صفق الدهماء له قائلين "تسلم الأيادي" و إذا بالمستبد الجديد يكون ألعن من المستبد الذي سبقه .