هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
ما زلت أعتقد أن لمهنة الصحافة قواعد وآدابا وأعرافا، وكغيري من المتابعين للصحافة المصرية، الذين يعنيهم شأنها، كان تواصل انحدار مستواها، متوقعا؛ ذلك أن السلطة قيدتها، ومنعتها من الاقتراب من الغالبية الغالبة من مجالات الشأن العام، فلم يعد أمامها إلا الانكباب على التافه والثانوي من الأمور، لكن أن يصل الانحطاط إلى هذا القدر، فقد كنت أستبعد أن يأتي سريعا، هكذا.
طوال الأسبوع المنصرم انشغلت بتجربة عملية، فعينت خمسة مواقع خبرية، مما قدرت أنها، الأوسع قراءة، وتابعت ما تنشره في واجهتها الرئيسية، فهالني ما توصلت إليه: فهناك قلب تام للاهتمامات، فما هو نافل، ثانوي، جزئي، يشغل الصدارة، في حين يقذف بالهام إلى الزوايا، وربما يهمل تماما، وهذا النافل، الثانوي، الجزئي، يجري استنفاد كل ممكنات تناوله، لحد مفرط، وكسياسة عامة، هناك توجه نحو الفضائحية، في مظاهرها المختلفة، تركيز على أخبار الجريمة، ليس كل الجرائم، فجرائم الكبار تمنع، ويجري حذر النشر عنها، بينما جرائم البسطاء، يعاد ويزاد في تفاصيلها.
كان مثال "ثقب غرفة قياس الملابس" في أحد محلات بيعها، مثالا صارخا.
خرج النائب العام وذكر: نحقق في قضية وزارة الصحة، فـ "خرست" الصحافة، لكنها أفردت الصفحات
لواقعة التلصص عبر الثقب.
لا أقول للصحافة المصرية لا تنشري وصلات الردح بين ياسمين صبري ووالدها، لكن استفسر عن القدر الذي يجب أن تنشغل به.
أقول: وازنوا بين الردح والثقب وبين مظاهرات السودانيين ضد الانقلاب.. هذا عن الانحدار.
للانحطاط مثال قبيح..
نشر موقع صحيفة يومية مصرية (خاصة/ مستقلة) خبرا هذا عنوانه "قيدها بجنزير في السرير".. أب يحتجز طفلته داخل منزل مهجور لمدة 3 سنوات بالدقهلية (فيديو).
هذا سبق صحفي في أعراف الصحافة المصرية، الآن.
خبر صادم بلا أدنى ريب، لكن كيف جرى التعامل معه؟
أولا ارتكبت جريمة، ليس وفق قواعد وآداب وأعراف الصحافة، بل وفق القانونين المدني والجنائي، فكيف سولت للمشرفين على الموقع، أنفسهم، بث مقطعين مصورين للطفلة، الضحية، ثم تسع صور، ليست واحدة، تسع صور؟
ماذا كان يمكنهم أن يفعلوا؟
يفعلون ما تفعله الصحافة في كل بلاد الدنيا: ممنوع نشر صور الضحايا، خاصة الأطفال.
هل ينشرون الخبر دون صورة؟
ممكن، طبعا، لكن في كل بلاد الدنيا، يعرف الصحفي أن هناك فنونا صحفية متنوعة:
هناك مثلا، يقوم رسام برسم لوحة تعبيرة عن الموقف، الحدث، الشخصية، الواقعة. لدي الموقع صور أصلية، صورها "آخرون"، يعطيها لهذا الرسام، وعليه فإنه خلال وقت قصير يرسم ما يعبر عن الموقف.
هناك، مثال ثان، إذا لم يكن مثل هذا الرسام متوفرا (الرسامون عنصر رئيسي وهام في أي صحيفة، أو موقع، يدعي أنه يقدم خدمة يومية)، هناك أرشيف هائل، متاح عبر مواقع البحث، للوحات يمكن أن تعبر عن مثل هذا الموقف، عني شخصيا، حين تجاسرت ونظرت للصور والمقطع المصور وقرأت تفاصيل الخبر، لم يخطر ببالي إلا "الصرخة"، وكنت في الواقع أشبه بذلك الشخص في لوحة "الصرخة".
سأذكر المثال الثالث، وأعود لـ"الصرخة"، هناك ما لا حصر له من صور ولوحات "تمثيلية/ تعبيرية" (Representative Image).. وسأطلب من الزملاء أن ينشروا اثنين منهما، مثالا.
الصرخة، هو الاسم الشائع الذي يطلق على أحد أكثر الأعمال الفنية شهرة للفنان التعبيري النرويجي إدفارد مونش، رسمها في عام 1893. كان العنوان الألماني الأصلي الذي أطلقه عليها مونش هو صرخة الطبيعة.
وقد رسمها بعد تجربة نفسية مر بها وكتبها في مذكراته: "كنت أسير في الطريق مع صديقين لي ثم غربت الشمس، فشعرت بمسحة من الكآبة، وفجأة أصبحت السماء حمراء بلون الدم، فتوقفت وانحنيت على سياج بجانب الطريق وقد غلبني إرهاق لا يوصف، ثم نظرت إلى السحب الملتهبة المعلقة مثل دم وسيف فوق جرف البحر الأزرق المائل إلى السواد في المدينة، استمر صديقاي في سيرهما، لكنني توقفت هناك أرتعش من الخوف، ثم سمعت صرخة تتردد في الطبيعة بلا نهاية".
اقرأ أيضا: عار مصر المقيم لخمسين عاما قادمة!
حين قرأت وشاهدت وسمعت ما نشره الموقع، شعرت بأني كتلك الشخصية الصارخة.
هذا شعوري، وهذا مقترحي، لكن المسئول عن السماح بنشر الخبر والصور والمقطع المصور، قد لا يجد علاقة بين اللوحة والخبر، فليبحث عن صورة "تمثيلية"، أو لوحة، ولا يرتكب هذه الجريمة.
هذا عن المقطع المصور والصور التسع.
ماذا عن متن الخبر.
أقدم أب في محافظة الدقهلية على احتجاز طفلته البالغة من العمر 10 سنة وقيدها في السرير بالجنازير لمدة 3 سنوات لمنعها من زيارة والدتها بعدما طلبت منه الطلاق.
هذا ما يسميه الصحفيون "الخلاصة"، يقتضي بناء الخبر أن يجري في الجمل الأولى تقديم "الخلاصة"، ثم تأتي التفصيل.
في بنية أخبار الحوادث، بحسب أعراف الصحافة المصرية، هناك فقرتان اجباريتان: فقرة "تلقى"، وفقرة "انتقل"
هنا الأولى على هذا النحو:
تلقى مدير أمن الدقهلية إخطارا من مأمور مركز ميت غمر بجنوب الدقهلية، يفيد ورود بلاغ من أهالي قرية كوم النور التابعة لمركز ميت غمر....
والثانية، هكذا "انتقل ضباط المباحث إلى مكان الواقعة..".
بعد "انتقل" نتبين مدى الانحدار والانحطاط، معا. فبينما كان عمر الضحية في "الخلاصة" عشر سنوات، يذكر في هذه الفقرة أن عمرها (12 سنة)، ثم تقلب الأعراف، فبينما المتبع أن يرد اسم الضحية، والجاني، مرمزين (الأحروف الأولى من الاسم)، يذكر، هنا، اسم الطفلة.
قام ضباط المباحث بواجبه "فك قيود الطفلة ونقلها لمستشفى ميت غمر العام للعلاج وتوقيع الكشف الطبي عليها".
فقرة شهود العيان تكشف طبيعة الوعي الاجتماعي: "سمعوا أصوات بكاء متواصل من المنزل وفى البداية ظنوا أن المنزل "مسكون"!
لكن تبين أنه صوت بكاء الطفلة، الضحية.
ماذا كان يمكن للموقع أن يفعل مع خبر ومقطع مصور وصور حصل عليها من "آخرون"؟
أغلب الظن أن أحدا أرسلها: "الذي تلقي"، أو "الذي انتقل"، أو "شهود العيان الذين ظنوا أن المنزل مسكون".
مشكورين.
ماذا فعلت الصحافة؟
هل سألت خبيرا قانونيا عن الموقف، وتكييف الجريمة، والعقوبة؟
هل سألت خبيرا نفسيا؟
هل بحثت عن الأم؟
هل بذلت أي جهد؟
هل لهذا الانحطاط من قاع؟