هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تحتل المرجعية الدينية في الأوساط الشيعية الإثني عشرية مكانة مهمة ومركزية، لما تضطلع به من مهام الإفتاء والإرشاد والتوجيه الديني، ما يضفي على توجيهاتها وتعليماتها صفة دينية ملزمة عند مقلديها من جمهور الشيعة، وبما تقوم عليه كذلك من إدارة الشأن التدريسي الحوزوي، وبما تتلقاه من أموال الزكاة والخمس والتبرعات من داخل العراق وخارجه.
المرجعية الدينية للشيعة الإمامية الإثني عشرية في العراق لعبت تلك الأدوار عبر العقود السابقة، ولم يكن لها دور وتأثير في الحياة السياسية حتى عام 2003، إذ أقامت بعد ذلك سلطة موازية فاعلة ومؤثرة، يخطب الساسة العراقيون ودَّها، ويسعون لكسب تأييدها ومباركتها، وبات قرارها يمثل كلمة الفصل في تعيينات الساسة وإسناد الوظائف الهامة لهم وفق مراقبين.
تلك الصلاحيات السياسية الهائلة التي أضحت المرجعية الدينية العليا في العراق تمتلكها بعد 2003، دفعت باحثين للتساؤل عن كيفية تشكل ذلك الدور، وحيازة تلك الصلاحيات، فوفقا للكاتب السياسي العراقي، كرم نعمة "فإن السؤال الذي بات يتردد في العراق منذ عام 2003: من أضفى على السيستاني رجل الدين المعني بأصول الفقه الشيعي، تلك الشرعية السياسية، لا إجابة واضحة وكافية عليه، هذا إن لم يصادر حق السائل في السؤال وتتم تصفيته من قبل المتشددين الشيعة".
وأضاف: "وفي أفضل الأحوال تأتي إجابات باردة في مشهد سياسي عراقي ملتهب، حينما تزعم بثقة أن السيد السيستاني لا يتدخل في الشأن السياسي، وأنه يقوم بدور النصح، لكن الحقيقة أن ذلك ما يعبر عن طبيعة الدولة الدينية الموازية القوية والثرية معا في العراق".
كرم نعمة.. باحث سياسي عراقي
ولفت في حديثه لـ"عربي21" إلى أن المرجع الأعلى في العراق، السيد علي السيستاني، الذي يقيم في منزل عتيق في زقاق ضيق في أحد أحياء مدينة النجف، لعب دورا هاما ومؤثرا في الحياة السياسية والدينية في العراق، على كل ما مرّ به العراق منذ احتلاله عام 2003 من قبل القوات الأمريكية.
وعن المرجعية الدينية وما تمتلكه من سلطة وصلاحيات هائلة إن كانت خاضعة للدولة العراقية، قال نعمة: "سلطة مرجعية النجف التي تدير أموالا تعادل ميزانيات دول، وتمتلك مؤسسات اقتصادية ومعاهد ومشاريع كبيرة، لا تخضع أبدا للدولة العراقية، هذا إن وُجدت دولة وفق مفهومها الصحيح".
من جهته أوضح الباحث المختص في الشأن الأمني والسياسي في العراق، مجاهد الطائي أن "مرجعية السيستاني وأي مرجعية عليا لا تتشكل بسهولة، بل تأخذ سنوات لتمتلك النفوذ والشعبية، أولها المصدر المالي كوكيل شرعي يحصل على أموال الخُمس، وهناك مؤسسات تتبع المرجع السيستاني ويقودها رجال دين تربطهم علاقة أسرية معه كمؤسسة الإمام وأهل البيت، تمتلك نفوذا هائلا داخليا وخارجيا، وتوسع دائرة التأثير والأتباع والوكلاء".
وأردف: "وتمتلك الأحزاب الشيعية صلات إيجابية بالمرجعية، ويوفرون لبعضهم البعض غطاء وشرعية وتأثيرا لدى الجمهور الشيعي في العراق، كدعوة المرجعية في 2005 لانتخاب وتبني قائمة شيعية "التحالف الوطني"، ولا يتم تمرير أي رئيس وزراء إلا بعد موافقة المرجعية بطريقة مباشرة وغير مباشرة، ناهيك عن فتوى إنشاء الحشد الشعبي المعروفة والتي وُظفت في غير سياقها".
مجاهد الطائي.. كاتب وباحث سياسي عراقي
وردا على سؤال "عربي21" حول مرجعية السيستاني إن كانت مستقلة أم أنها خاضعة للتوجهات الإيرانية، قال الطائي: "مرجعية السيستاني مستقلة، لكنها تتأثر بإيران وطلباتها وضغوطها في القضايا المهمة، خاصة وأن المرجع إيراني الأصل، لكن فشلت إيران في السيطرة عليها رغم محاولاتها".
وتابع: "المرجعية في العراق ليس لديها موارد اقتصادية فقط، وذات تأثير سياسي وفقهي فحسب، إنما أصبحت ذات تأثير ونفوذ عسكري كبير بعد إنشاء حشد العتبات، الذي فصلوه عن الحشد الولائي الذي يتبع المرجع خامنئي والذي يقدر عدد أعضائه بـ13 ألف عنصر يقلد مرجعية السيستاني".
وفي ذات الإطار نبه الكاتب المصري، المختص بالشأن الإيراني، وشؤون المرجعيات الشيعية، أسامة الهتيمي إلى "ضرورة التمييز بين الدور والصلاحيات، فمن ناحية الدور لا يمكن أن نغض الطرف عن بعض الدور السياسي الذي لعبته المرجعية الدينية الشيعية في العراق قبل الغزو الأمريكي عام 2003، خلال تاريخ العراق الحديث، خاصة ما يتعلق بالقضايا المصيرية".
وتابع لـ"عربي21": "فقد كان للمرجعية موقف معروف من ترشيح فيصل الأول لتولي العرش في العراق في ثلاثينيات القرن الميلادي الماضي، فضلا عن الموقف من القضية الفلسطينية والذي كان داعما، وقضية التقريب والوحدة الإسلامية وغير ذلك، مما لا يُعد عملا سياسيا مباشرا".
أسامة الهتيمي.. كاتب وباحث مصري
وواصل: "لكن في مقابل ذلك ونتيجة لإسقاط الرئيس العراقي صدام حسين ونظامه، فإن الدور السياسي للمرجعية تنامى بشكل مطرد، وهنا أصبح لهذه المرجعية صلاحيات سياسية واسعة، تجاوزت بها الحدود الدينية والفقهية التقليدية، إذ لا يمكن اتخاذ أية قرارات سياسية دون العودة للمرجعية واستشارتها كونها كانت الراعي الرئيسي للعملية السياسية في العراق بعدما قرر المكون الشيعي الانخراط في هذه العملية دون المكون السني الذي آثر في بداية الأمر خيار المقاومة المسلحة ضد الأمريكيين".
ولفت الهتيمي إلى أن "تنامي هذا الدور كان له تداعياته المتعلقة بانتزاع المرجعية لحقوق ربما لم تمنح لها من قبل، ما ساهم في انخراط مؤسساتها في أنشطة تجارية ومشاريع اقتصادية، أصبحت موردا ماليا كبيرا يُضاف إلى ما تتحصل عليه من أموال عبر وكلاء المرجعية العليا (يُقدرون بنحو ألف وكيل)، مثل الزكاة والخمس وسهم الإمام، وهو ما مكنها من دعم وتمويل فصائل أو عناصر تدافع عن الدور الذي تلعبه المرجعية في الحياة السياسية".
وعن مدى تأثير إيران على قرارات المرجعية في العراق وتوجهاتها السياسية، أوضح الكاتب المصري أنه "رغم ما تتمتع به المرجعية في العراق من قدرات مالية ضخمة، ودور سياسي فاعل ومعارضتها لما يسمى بنظرية الولي الفقيه التي يقوم على أساسها النظام الإيراني إلا أنه لا يمكننا القول باستقلالية تامة للمرجعية في العراق".
بدوره أكدّ أكاديمي وباحث عراقي مقيم في العراق، فضل عدم الكشف عن اسمه، أنه "لا خلاف في أن دور المرجعية الدينية قد اختلف عما كان عليه عام 2003، حيث كان دورها إفتائيا وتعليميا محضا، أما بعد الاحتلال فقد باتت تتمتع بدور مؤسساتي كبير من حيث الإشراف المباشر على الشأن السياسي في العراق، وقد ساعدها في ذلك الفاعل الخارجي والفاعل الداخلي (الأتباع)".
وأضاف في حديثه لـ"عربي21": "إضافة إلى الإمكانيات المالية الضخمة المتأتية من أموال الخمس، وإضافة العتبات إلى مسؤولية المرجعية، وكذلك ديوان الوقف الشيعي، الأمر الذي مكنها من السير في مشروعها السياسي، ناهيك عن الجانب العسكري المتمثل بالحشد الشعبي الذي تأسس بفتوى المرجعية، كل ذلك سهل قيام دولة سلطة المرجعية الموازية داخل العراق".
وأكدّ في ختام كلامه على أن "للمرجعية العليا في العراق كلمة الفصل في تعيين رؤساء الوزراء، والمسؤولين المهمين الآخرين، فولاية الفقيه حقيقة موضوعية، وإن كان الرأي السائد بأن السيد السيستاني لا يأخذ بها".