قضايا وآراء

تونس وصراع "الخرائط"

عادل بن عبد الله
1300x600
1300x600
بعد انتظار ما يقارب شهرين ونصف، أصبح للتونسيين يوم 11 تشرين الأول/ أكتوبر حكومة تملأ الفراغ الذي أحدثته "الإجراءات الرئاسية" يوم 25 تموز/ يوليو الماضي. ففي ذلك اليوم الذي انقسم التونسيون حول توصيفه - ما بين اعتباره انقلابا على الدستور واعتباره تصحيحا للمسار - اتخذ السيد قيس سعيد عدة إجراءات؛ كان أهمها تجميد البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وإقالة رئيس الحكومة هشام المشيشي، لكن دون إقالة جميع أعضاء الحكومة.

وقد جاء المرسوم الرئاسي عدد 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر ليؤكد أن "خارطة الطريق" الرئاسية تختلف عمّا انتظره جزء هام من "حزام الإجراءات" قبل معارضيه. فقد كان ذلك المرسوم بمثابة قانون منظم للسلطات المؤقتة، أو بمثابة "دستور صغير" لإدارة "حالة الاستثناء" من منظور رئاسي. وسنحاول في هذا المقال أن نفهم علاقة تشكيل الحكومة بـ"خارطة الطريق الرئاسية"، وجدلها مع خرائط الطريق داخل حزامه الداعم (مثل اتحاد الشغل) أو المعارض (معارضة 25 تموز/ يوليو ومعارضة 22 أيلول/ سبتمبر)، والمخرجات الممكنة لهذا الجدل أو الصراع، دون أن نغفل عن تأثيرات خرائط الطريق الإقليمية والدولية المتصارعة على إعادة هندسة المشهد التونسي.
جاء المرسوم الرئاسي عدد 117 المؤرخ في 22 أيلول/ سبتمبر ليؤكد أن "خارطة الطريق" الرئاسية تختلف عمّا انتظره جزء هام من "حزام الإجراءات" قبل معارضيه. فقد كان ذلك المرسوم بمثابة قانون منظم للسلطات المؤقتة، أو بمثابة "دستور صغير" لإدارة "حالة الاستثناء" من منظور رئاسي

بعد فشل حركة النهضة في تمرير حكومة السيد الحبيب الجملي إثر الانتخابات التشريعية الأخيرة، وبعد أن فقدت حق تشكيل الحكومة باعتبارها الحزب الفائز في الانتخابات، انتقل حق تشكيل الحكومة إلى رئيس الجمهورية. ومنذ ذلك الوقت ظهر تعبير "حكومة الرئيس" الذي لم يكن يعني انتقال حق اختيار أحد مرشحي الأحزاب الممثلة في البرلمان أو اختيار الشخصية المتمتعة بأكبر دعم من الأحزاب البرلمانية، بل كان يعني أساسا الحق المطلق للرئيس في فرض اختياره -دون التنسيق مع البرلمان والأحزاب - ولو كانت الشخصية المختارة غير ممثلة في مجلس النواب (السيد إلياس الفخفاخ) أو غير موجودة أصلا في ترشيحات الأحزاب (السيد هشام المشيشي).

لقد استطاع الرئيس أن يوظف الصراعات البرلمانية بصورة جيدة حتى أصبح هو مركز الحياة السياسية، رغم أننا نعيش دستوريا في ظل نظام برلماني معدّل. كما استطاع أن يدفع بأزمة المنظومة الحزبية إلى الأقصى من خلال التعطيل المتعمد للعديد من التوافقات البرلمانية، مثل تعطيل تعديل القانون الانتخابي وتعطيل التعديل الحكومي وتعطيل إرساء المحكمة الدستورية.

واقعيا، كانت تونس منذ حكومة الفخفاخ تعيش نظاما رئاسيا يتحكم فيه قصر قرطاج، رغم كل الصلاحيات الدستورية للبرلمان ولرئيس الحكومة. وهو واقع عاشت تونس ما يشبهه خلال المرحلة الأولى من حكم الرئيس المرحوم الباجي قائد السبسي قبل انقسام نداء تونس. فقد كان المرحوم قائد السبسي خلال تلك الفترة هو المتحكم الأوحد في السلطات التنفيذية والتشريعية، من خلال الأغلبية البرلمانية للنداء. ولكنّ الطابع الاستثنائي للرئيس قيس سعيد كان في قدرته (أو قدرة من يقف وراءه) على التحكم في الحياة السياسية دون الانتماء إلى أي حزب. ولعل الأكثر استثنائية أو الأكثر تعبيرا عن "بؤس" العقل السياسي التونسي هو قدرة الرئيس التونسي على توظيف العديد من الأحزاب في مشروعه السياسي الذي يقوم على إلغاء الحاجة إليها، وقدرته أيضا على التلاعب بخصومه - قبل أنصاره - بصورة جعلتهم لا يحملون مشروعه السياسي على محمل الجد منذ الانتخابات الرئاسية الأخيرة.
لعل الأكثر استثنائية أو الأكثر تعبيرا عن "بؤس" العقل السياسي التونسي هو قدرة الرئيس التونسي على توظيف العديد من الأحزاب في مشروعه السياسي الذي يقوم على إلغاء الحاجة إليها، وقدرته أيضا على التلاعب بخصومه - قبل أنصاره - بصورة جعلتهم لا يحملون مشروعه السياسي على محمل الجد

إن تشكيل حكومة السيدة نجلاء بودن هو في الحقيقة تعبير عن مضيّ الرئيس في "خارطة الطريق" التي كان قد أعلن عنها قبل الانتخابات الرئاسية، كما أن الِسيَر الذاتية لرئيستها وأعضائها تأتي لتؤكد الموقف السلبي للرئيس من الأحزاب كلها، بما فيها تلك الأحزاب الداعمة له بصورة مطلقة أو نقدية.

وهي خارطة طريق تعتبر الديمقراطية التمثيلية ودستورها ووسائطها (خاصة الأحزاب) خطرا "جاثما" على المجتمع التونسي. فالرئيس يعتبر تلك الديمقراطية مجرد "قنطرة" للعبور إلى الديمقراطية القاعدية أو المجالسية التي بشّر بها خلال حملته الانتخابية. ولذلك فإن من دعوا الرئيس إلى توضيح خارطة الطريق لما بعد 25 تموز/ يوليو (أو حتى لما بعد تشكيل الحكومة) إنما يدعونه إلى توضيح علاقة إجراءاته بمشروعه الأصلي، ويعبّرون عن خوفهم من إصرار الرئيس على تعديل المشهد التونسي تعديلا جذريا عبر قرارات أحادية؛ تتمثل أساسا في تعديل الدستور والمنظومة السياسية دون إشراك حتى للحزام السياسي والنقابي والمدني الداعم للإجراءات.

لو أردنا نمذجة الصراع السياسي في تونس حاليا أو تجريده، لقلنا إنه صراع بين خرائط طرق محلية وإقليمية ودولية. فخارطة الطريق الرئاسية التي كرسها المرسوم 117 لا تتحرك بمفردها، بل تتحالف موضوعيا مع خارطة طريق فرنسية بدعم من محور الثورات المضادة المعروف، ولكنها في المستوى المحلي تواجه استراتيجيات مختلفةٍ منها ما يتقاطع معها في بعض المحاور (الموقف من النهضة وائتلاف الكرامة وقلب تونس)، لكنه لا يتماهى معها في غاياتها النهائية (الموقف من الديمقراطية التمثيلية ومن الأحزاب ومن آليات الخروج من الأزمة البنيوية التي تطبع المشهد التونسي في مختلف الأصعدة، وهو أساسا موقف المركزية النقابية)، ومنها ما يعتبرها انقلابا على انتظاراته (تفكيك منظومة الفساد والاستبداد واستهداف النهضة وحلفائها وتعديل المنظومة السياسية بمنطق تشاركي، أي دون احتكار السلطة وإقصاء الأحزاب والشركاء الاجتماعيين، وهو أساسا موقف التيار الديمقراطي وآفاق تونس والتكتل)، ومنها ما يعتبر إجراءات الرئيس انقلابا على الدستور، ويدعو إلى عودة "الشرعية" ومؤسساتها والتحاور حول الإصلاح من داخل تلك المؤسسات (وهو موقف النهضة وحلفائها)، ومنها ما يتقاطع موضوعيا مع الموقف الأخير - وكذلك مع الانتقادات الموجهة لما قبل 25 تموز/ يوليو - ولكنه لا يتماهى معه، وهو موقف الحراك المواطني الذي تمثله مبادرة "مواطنون ضد الانقلاب"، وهو حراك أقرب ما يكون إلى نواة ممكنة لـ"كتلة تاريخية" قد تتحول إلى "طريق ثالث"؛ يتجاوز طرفي الصراع على حكم المنظومة بمنطق الوكالة لنواتها الصلبة ولداعميها الإقليميين والدوليين.
عيّن الرئيس حكومة السيدة نجلاء بودن باعتبارها حكومة "تسيير أعمال" في مستوى إدارة الشأن العام، وباعتبارها حكومة "مؤقتة" لإدارة حالة الاستثناء بعد أن حوّلها الرئيس إلى "مرحلة انتقالية" تمهّد للاستفتاء الشعبي العام على مشروعه السياسي

لقد عيّن الرئيس حكومة السيدة نجلاء بودن باعتبارها حكومة "تسيير أعمال" في مستوى إدارة الشأن العام، وباعتبارها حكومة "مؤقتة" لإدارة حالة الاستثناء بعد أن حوّلها الرئيس إلى "مرحلة انتقالية" تمهّد للاستفتاء الشعبي العام على مشروعه السياسي. وليس ترحيب الشركاء الاجتماعيين بها (الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف) إلا ترحيبا مؤقتا؛ سيتم تعديله انطلاقا من تفاعل رئاسة الجمهورية مع مبادرة المركزية النقابية التي ستكون تعبيرا عن موقف المنظومة القديمة أو النواة الصلبة لمنظومة الحكم.

وفي صورة عدم ظهور خارطة طريق وطنية جامعة لمقاومة الانقلاب (أي خارطة طريق تجمع معارضة 25 تموز/ يوليو ومعارضة 22 أيلول/ سبتمبر في برنامج واضح، لتجاوز هِنات ما قبل 25 تموز/ يوليو وتأسيس مشهد سياسي صحي وغير قابل للارتداد إلى مربعي الانقلاب أو الفوضى)، فإن الصراع السياسي سيكون أساسا بين خارطتي الطريق الرئاسية والنقابية، وهو صراع "انقلابي" في جوهره مهما كانت مخرجاته. فتلك المخرجات لن تكون إلا تكريسا لواقع التخلف والتبعية والانقسام الشعبي، وتأجيلا لانفجار قادم لا محالة إذا لم يتفق التونسيون على "مشترك وطني" أو على "كلمة سواء"؛ تكون قاعدة صلبة لمشروع مواطني اجتماعي قد يخرج البلاد من دائرتي الاستبداد والفساد.. ولو بعد حين.

twitter.com/adel_arabi21
التعليقات (0)