قضايا وآراء

قيس سعيد يهدد الوحدة الوطنية والسلم الأهلي

بحري العرفاوي
1300x600
1300x600
الاهتمام بالشأن العام في بلادنا منذ مجيء قيس سعيد لرئاسة الدولة، أصبح مهمة صعبة جدا لعدة أسباب لعل أهمها:

- غياب المعايير المحددة للحق والباطل، الخطأ والصواب، المعقول واللامعقول، الخير والشر، خاصة في ظل اعتماد قيس سعيد خطابا "مانويا" يقسم الناس بين أخيار وأشرار، صالحين وفاسدين، صادقين ومنافقين، بل وصل به الأمر حدّ اعتبار مخالفيه "شياطين"، وهو ما يحيل إلى استنتاج كونه ينظر إلى نفسه ومن معه من جنس "الملائكة". وهذا التقسيم يجعل الحوار مستحيلا لغياب فرضية الحق والصواب في الجهتين، وهو ما يحصل فعلا، حيث أصبح الحوار غائبا بين أبناء الوطن الواحد، وصار التخوين هو السلاح الفتاك ضد كل من يخالف الرئيس.

- ارتباط السياسة بالرغبة في الحكم وبتحقيق مغانم حزبية وفردية، وهو ما جعل منخرطي السياسة - إلا قليلا - يبيحون لأنفسهم كل انتهاك ومكر وكيد وتلبيس من أجل تحقيق مآرب آنية وشخصية، بل تفشت الخصومات والمؤامرات حتى داخل شركاء مشروع أو رؤية وتاريخ وتجربة. لقد فجّر "ضغط" الرئيس وتهديداته المنتظم السياسي، حتى أصبحت التحالفات الحزبية في دائرة "الشبهة"؛ يتعرض أصحابها إلى سيل من الشتائم والنعوت السيئة يطلقها أنصار الرئيس، لا يراعون كرامة ولا أعراضا ولا تاريخ رجال ونساء.
فجّر "ضغط" الرئيس وتهديداته المنتظم السياسي، حتى أصبحت التحالفات الحزبية في دائرة "الشبهة"؛ يتعرض أصحابها إلى سيل من الشتائم والنعوت السيئة يطلقها أنصار الرئيس، لا يراعون كرامة ولا أعراضا ولا تاريخ رجال ونساء

- هيمنة عقلية الـ"مع" و"الضد" وغياب التنسيب، وهو ما جعل الصدور تضيق بالاختلاف، فيدّعي كل ذي فكرة أو شهوة امتلاك الحقيقة واحتكار الصدق والنزاهة والوطنية، ثم يصف غيره بالجهل والضلالة والنفاق والخيانة. لقد عمق قيس سعيد هذا الشّرخ المخيف في المجتمع التونسي، وغذّى خطاب الحقد والكراهية والضغينة، بل وشجع على العنف المادي، حتى رأينا أنصاره في وقفتهم الداعمة له يستعرضون صاروخا كرتونيا، وهي إشارة عنيفة لم يتبرّأ منها قيس سعيد، بل عبر عنها بكونها عملية "رجم للشياطين"، وهي أسوأ عبارة سمعها التونسيون طيلة تاريخ بناء الدولة الوطنية منذ الاستقلال.

- ضعف القيم وغياب التواضع واستنكاف السؤال والتعلم، وهو ما فتح باب التطاول والتحقير والشتيمة والسباب، ما ترتب عنه خسارة الجميع - إلا قليلا - لأصدقائهم وأقربائهم وجيرانهم من أجل فكرة أو حزب أو زعيم. وقد فجرت "زعامة" قيس سعيد "حربا" كلامية غير مسبوقة بين التونسيين قد تمهد لمواجهات في الشوارع، كما حدث أكثر من مرة حين داهم بعض أنصاره وقفات احتجاجية نظمها معارضو الرئيس، وقد استعملوا الرشق بالحجارة وإطلاق العبارات النابية والحركات الاستفزازية البذيئة.

إن المراقب العاقل لا يمكن إلا أن يجترع ألما وهو يتابع معارك على هذا الفضاء الافتراضي بين أناس كثيرا ما يكونون على معرفة سابقة ببعضهم؛ دفاعا عن أناس هم في الغالب لا يعرفونهم من قبل، وإنما تعرفوا عليهم افتراضيا من خلال ما يقولونه عن أنفسهم من مدح وما يقولونه عن غيرهم من قدح تماما، مثلما هو الحال مع قيس سعيد الذي يقدم نفسه "مهديا منتظرا" يواجه منافقين من بني سلول.
إننا نخسر وطننا حين لا نبقي فينا على القوة الروحانية المؤلفة بيننا كتونسيين؛ نتحرك في مسارب شتى وتحت سقف واحد هو الوطن، الذي لا يكون سيدا إلا بسيادتنا على غرائزنا وأنانيتنا وأحقادنا

إننا - بسبب ظاهرة قيس سعيد - بصدد خسارة أصدقائنا وأهلنا وخسارة أنفسنا حين نستفرغها من الاحترام والحب والتواضع والتسامح، لتتلبسنا غريزة البطش والهتك واللمز والإيذاء. إننا نخسر وطننا حين لا نبقي فينا على القوة الروحانية المؤلفة بيننا كتونسيين؛ نتحرك في مسارب شتى وتحت سقف واحد هو الوطن، الذي لا يكون سيدا إلا بسيادتنا على غرائزنا وأنانيتنا وأحقادنا.

إننا بصدد الاقتراب من حالة "توحد" عبثي هو نتيجة حتمية لعدوانياتنا وضيق صدورنا وانقلابنا على كل مفاهيم التضامن والتعارف والتواضع، إننا نتجه نحو أن يكون كل منا "ذئبا منفردا" أبلها تافها، أدنى قيمة وأقل دهاء وأضعف قدرة من "ذئب توماس هوبز".

قيس سعيد بالنسبة لكثير من التونسيين، هو "المنتقم" لهم من خصم أيديولوجي هو حركة النهضة. هؤلاء ليسوا مقتنعين بقيس سعيد، إنما هم يتخذون منه "واقيا" مجهزا بأجهزة الدولة ضد طرف سياسي عجزوا عن منازلته انتخابيا وديمقراطيا.

وهو بالنسبة للكثير من التونسيين في الجهة الأخرى خطر حقيقي على السلم الأهلي والوحدة الوطنية، بسبب مفردات قاموس خطابه المشحون عنفا وتحريضا وحقدا وكراهية وتجريحا.
يبدو أن مواجهة سلمية حتمية سيكون المجتمع المدني مضطرا لخوضها لإجبار قيس سعيد على مراجعة نفسه، وعلى التخلي عن أسلوبه المتعجرف في التعامل مع مخالفيه

هل تكون حشود الأحد (10 تشرين الأول/ أكتوبر) رادعة لعجرفة قيس سعيد؟ حشود اليوم غير مسبوقة، وقد تابعتها صحف عالمية وتابعت التضييقات الأمنية التي أوصى بها قيس سعيد شخصيا عند استقباله المكلف بوزارة الداخلية. ولعل هذه الحشود هي التي أجبرت سلطة الانقلاب على رفع الإقامة الجبرية عن عدد من الأسماء، وفيهم وزير سابق ونائبان في البرلمان ورئيس سابق لهيئة مكافحة الفساد.

يبدو أن مواجهة سلمية حتمية سيكون المجتمع المدني مضطرا لخوضها لإجبار قيس سعيد على مراجعة نفسه، وعلى التخلي عن أسلوبه المتعجرف في التعامل مع مخالفيه ممن أعطوه أصواتهم في الدور الثاني من رئاسية 2019، بل ورقصوا فرحا عند فوزه واعتبروا انتصاره انتصارا لأشواق الثورة، وها هم يعضّون أصابعهم من الندامة، ويكفّرون عن خطيئتهم تلك بالتصميم على إسقاطه قبل نهاية عهدته.

twitter.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)