قضايا وآراء

هل نجح الربيع العربي وأفغانستان في نخر النموذج الديمقراطي الغربي؟!

أحمد موفق زيدان
1300x600
1300x600
حين قال الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما، وهو الذي لم يُخفِ احتقاره وازدراءه للعرب في مذكراته وتصريحاته، إن "نتيجة تدخل الإدارات الأمريكية في العراق كانت عاقبته كما ترون، وحين تدخلنا في ليبيا قُتل سفيرنا، وحين لم نتدخل في سوريا كانت النتيجة كما وصلت إليه الأوضاع فيها".. لم يكن أوباما بذلك يُعفي نفسه ودولته التي قدمت نفسها، وهي كذلك الدولة الأعظم في العالم، وإنما باعتقادي كان اعترافاً ضمنياً يشير إلى مدى حضيض العجز الذي وصلته الإدارة الأمريكية في التعاطي مع شؤون العالم، لينعكس على مصالح وشؤون أصدقائها في أوروبا التي تُركت لتُقلّع شوكها وحدها نتيجة طوفان الهجرة عليها؛ إن كان من أفغانستان أو سوريا.

مثال أفغانستان اليوم واضح، فحين تطالع تصريحات المسؤولين الغربيين من برلين إلى لندن فباريس ومدريد وروما؛ تلمس خيطاً وحيداً ينظمها وهو الانزعاج والتبرم من الانسحاب المتسرّع، والذي ترك أوروبا في فم وحش هجرة ولجوء أفغاني غير مسبوق، وتحويله كسندان لتلقي ضربات تقدم طالبان على الحكومة الأفغانية المنصّبة من التحالف الغربي عام 2001.

آخر التصريحات المُدينة للانسحاب وتداعياته أتت من الجنرال ديفيد بترايوس، مهندس مقاومة التمرد في أفغانستان ومن قبله في العراق ومدير المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) سابقاً لصحيفة التايمز البريطانية، واختيار الصحيفة - لفشة خلقه - يعكس دلالة مهمة لا تخفى على المتابعين، إذ إن المسؤولين عادة ما يختارون وسائل إعلامية محددة لتوصيل رسائلهم.. يقول بترايوس: "لقد تخلت أمريكا عن حماية الديمقراطية، وحقوق الإنسان في أفغانستان، وتركت شعبها لمواجهة الحرب الوحشية والدموية والأهلية".

مقابلة بترايوس لا شك تُقرأ في سياق أحد مفرداته رغبة أمريكية بتوريط أوروبا كما تم توريطها بالتخلي الأمريكي عن سوريا. باتت أوروبا اليوم تنتظر تدفق مئات الآلاف الأفغان إليها، وبحسب التقديرات الأفغانية فإن هناك هروب لـ300 ألف أفغاني أسبوعياً، كان من بينهم أخيراً نائبتان لوزير الدفاع والداخلية، لجأت إحداهن لأمريكا والثانية لكندا، فضلاً عن الطوابير الأفغانية الطويلة الواقفة أمام السفارات الغربية في كابول طلباً للتأشيرات، وعلاوة على هذا كله حالات تهريب ضخمة تعبر إلى إيران ثم إلى تركيا التي لجأت لبناء جدران مع إيران لصدّ تدفق اللاجئين الأفغان. وتقدر الأوساط التركية عدد الوافدين الأفغان بشكل غير شرعي يومياً ما بين 500 و1000 شخص، وتقول السلطات التركية إن عدد اللاجئين الأفغان على أراضيها الآن هو الأعلى بعد اللاجئين السوريين.

حين ظهر الربيع العربي ووصل أول رئيس مصري منتحب، محمد مرسي، إلى الرئاسة، وبدأ المصريون يستعيدون حقهم في الانتخاب والحرية والديمقراطية، مما شجعهم على رؤية ضوء في النفق المظلم الذي أدخلهم فيه الاستبداد الناصري واستنسالاته، وقف الغرب مع الاستبداد السيساوي، الذي اعتقل رئيساً منتخباً وحل برلماناً وأطاح بدستور، وهو ما حذر منه رئيس تونس بعدها قيس سعيّد؛ من أن يأكل الحمار الدستور، فكان أن أكله بنفسه بعد سنوات، وأتبعها بالإطاحة برئيس وزراء منتخب، تم ضربه أمام عينيه في قصر قرطاج، مما يشكل سابقة لم تحصل حتى في تواريخ الاستبداد العالمي.

إذن يتحمل الغرب وسيتحمل مسؤولية انسحابه وتخليه عن هذا كله، بل ومشاركتُه في كثير من الأحيان الاستبداد العربي الذي في أُسّه وأساسه ديكتاتور فردي يبحث عن مصالح آنية شخصية وذاتية على حساب مصالح الأمة والشعوب، والكرامة، وحقوق الإنسان التي ظل الغرب يتشدق بها لعقود، لنستيقظ صباحاً على من أكلها تماماً كما أكُلت دساتيرنا.

النخر لم يعد في النموذج الديمقراطي الغربي المُلهم للآخرين، فهذا ربما انتهى زمانه، ونحن نرى حصاده ونتائجه في تدخلات غربية عسكرية كالعراق والصومال وليبيا وأفغانستان، ونرى نتائجه تدخلات سياسية فجّة للوسائل الناعمة في مصر وتونس وغيرهما دعماً للاستبداد والفردانية والديكتاتورية، لتكون النتيجة واحدة في الحالتين: حرمان الشعوب من حق تداول السلطة والكرامة والحرية، وتثبيت أركان استبداد عربي كانت شتلاته بانقلابات عسكرية دعمها الغرب ورعاها منذ بواكيرها في الأربعينيات والخمسينيات.

لقد وصل النخر إلى بنية النموذج نفسه، فحين يتخلى المرء عن النوافل فلا بد أن تكون الضربة المقبلة في الفرائض، وحين تخلى الغرب عن أنموذجه الديمقراطي التسويقي للآخرين، بل وعمل على قتله وأكله، كانت الضربة في بنية النموذج ذاته، لنراه اليوم في حالات اقتتال واحتراب مستترة ومعلنة، وتخلي البعض عن البعض، وتباعد أجندات الأولويات بين فرقائه.. هل لمحاربة الصين أم لمحاربة روسيا؟ فضلاً عن خلافات في ملفات بأفغانستان وسوريا والعراق والمفاعل النووي الإيراني وغيرها من الملفات. لكن ما يمنع الانفجار هو قدرة الغرب الرهيبة على معالجة مشاكله بالحوار والهدوء والصمت لسنوات وربما لعقود، بخلاف طبيعتنا كعرب، وكذلك قدرته على تجزئة الملفات وفصلها، ولكن بالتأكيد لا يمنع ذلك من الوصول إلى محز سكين لا يعدْ فيها مجال للفصل وترف الخلاف.

من الطبيعي مع كل فشل كبير أن تبدأ مرحلة الملامة والتلاوم، وما يجري اليوم وسط قادة أمريكا فضلاً عن قادة الغرب بشكل عام تلاوم إزاء ما يجري في أفغانستان، وقد يستتبعه قريباً ما حصل في مناطق الربيع العربي، وحينها يكون الأنموذج الذي جرى تسويق وهمِه للعرب والعالم؛ وهماً ربما لأصحابه أنفسهم، في ظل عجزهم عن إقناع بعضهم بعضاً بشكل ديمقراطي في حل مشاكلهم يوم أزفت الآزفة؛ إن كان في قرار أفغانستان أو في مناطق الربيع العربي، فانصاعوا جميعاً لقرار أمريكا؛ وهي التي جرّت 38 دولة قبل عقدين للمغرم، لتتخلى عنهم وقت المغنم.
التعليقات (0)