قضايا وآراء

الذكرى الأربعون للتأسيس: حركة النهضة التونسية بين التعبئة والتنشئة

بحري العرفاوي
1300x600
1300x600
أحيت حركة النهضة في 6 حزيران/ يونيو 2021 الذكرى الأربعين لتأسيسها، وفي ظروف مختلفة عن كل السنين السابقة بما فيها سنوات مشاركتها في حكومة الترويكا.

إحياء الذكرى عادة يكون للتقييم "الحاد" ولمراجعة تفاصيل المسيرة ولإحصاء المكتسبات والخسائر، والوقوف على التضحيات والبطولات والإنجازات مهم دائما لتحفيز الهمم ولرفع درجة القناعة بصوابية المسار وعدالة القضية وشرف الرسالة، ولكن الأهم هو الوقوف وبوعي حاد وصرامة نقدية على مواطن الخلل والتقصير ومحطات الزلل، والأهم هو طرح الأسئلة وعرض "الجسم" على التحليل والتشريح دون تردد أو تخوف أو إخفاء لحقائق وتفاصيل؛ ضمن منهج عملي تفاؤلي ومستقبلي يُقر بنسبية العمل البشري ويقبل بحقيقة الخطأ لتجاوزه والاستفادة منه، دون اعتماد مفردة "لو"، وفي الحديث الشريف ".. ولا تقل لو فإن لو تفتح عمل الشيطان"، أيضا - وهو الأهم - دون اعتماد المراجعات كآلية لتصفية الحسابات وإعادة الفرز والتموقع.

أعتقد بأن أسلوب الاستثمار في "التضحيات" - وهي حقيقة ناصعة - قد استنفد أغراضه خلال السنة الأولى من بعد 14 كانون الثاني/ يناير 2011، أثناء وقبل وبعد الحملة الانتخابية الأولى، وقد أثمر فعلا فوزا مهما لقوائم الحركة؛ لا بفعل كفاءة الأشخاص وإنما بفعل الرصيد النضالي ونقاوة الصورة، وبفعل ما يعلقه الناس من آمال في النهضة كعنوان وتاريخ ورموز ونضال..
أثبتت الانتخابات البرلمانية الأخيرة أن ذاك الرصيد المعنوي قد انتقصت منه التجربةُ العمليةُ في الحكم والممارسة الواقعية للشأن العام، والالتحام المباشر بتفاصيل الحياة ومفاصل العلاقات.. إن عامة الناس يعنيهم "طُهرُ" السياسيين لا كقيمة أخلاقية مجردة، وإنما كضمانة لتحقيق العدالة وحماية الحقوق

وقد أثبتت الانتخابات البرلمانية الأخيرة أن ذاك الرصيد المعنوي قد انتقصت منه التجربةُ العمليةُ في الحكم والممارسة الواقعية للشأن العام، والالتحام المباشر بتفاصيل الحياة ومفاصل العلاقات.. إن عامة الناس يعنيهم "طُهرُ" السياسيين لا كقيمة أخلاقية مجردة، وإنما كضمانة لتحقيق العدالة وحماية الحقوق ودفع المظالم، أما إذا ما ترافق ذاك "الطُّهرُ" بضعف أو عجز أو تردد أو فشل فإنه لن يشفع لأصحابه، وسيبحث الناسُ عمن يحقق أهدافهم المتعلقةَ بالمعاش لا بالمعاني حتى وإن لم يعتمد خطابَ "القيم" و"النضال"، وهو ما يجد تأكيداتِه في نتائج انتخابات 2014 و2019 التشريعية والرئاسية.

- خطاب التضحيات والنضال هو خطاب "تعبئة" تعتمده عادة الأحزابُ والحركات السياسية في عملياتها الاستقطابية، توسيعا لقاعدتها الشعبية وتوفيرا لحظوظها الانتخابية. وهو خطابٌ سريع النتائج ولكنه لا يبني وعيا ولا يُنشِّئُ أجيالا مُشبعةً بمشروع حضاري وبرؤية عميقة، وهو خطاب معرض دائما للاختراق وللصدماتِ.. الكُتل البشرية التي تراكمها العواطفُ تشردها العواصفُ.

- حركة النهضة كانت قد تأسست في بداياتها على خطاب "تنشئة" في الحلقات التكوينية داخل المساجد والبيوت، وكانت قد تعلقت في العقد الأول من نشاطها بمختلف التعبيرات الثقافية، مسرحا وشعرا وأغنية ورسما وسينما، وبدأت تتدرب على النشاط في الفضاءات العمومية من دور ثقافة ودور شباب وكشافة ومضايف ومصايف ومنتديات وجمعيات، ولكن الضربات الأمنية هي التي جعلتها "تُضحي" بمختلف الأنشطة لتحافظ قدر الإمكان على "التنظيم"، كضمانة لأي عودة مستقبلية للساحة.
اليوم وقد تغيرت الظروف وأصبحت الحركة حاضرة في ساحة مفتوحة، لم يعد من حقها التعلل بأي مانع لتفسير تقصيرها في مجال "التنشئة" ومجال الأفكار والمعاني والفنون والجماليات، رغم ما يعتمل في المشهد العام من مؤامرات ورغم ما يُخبئه الصمت من فخاخ وألغام

اليوم وقد تغيرت الظروف وأصبحت الحركة حاضرة في ساحة مفتوحة، لم يعد من حقها التعلل بأي مانع لتفسير تقصيرها في مجال "التنشئة" ومجال الأفكار والمعاني والفنون والجماليات، رغم ما يعتمل في المشهد العام من مؤامرات ورغم ما يُخبئه الصمت من فخاخ وألغام.

لم تعد الحركة مجرد كيانٍ سياسي يبحث عن اعتراف أو مجرد طرفٍ في لعبة الديمقراطية والتوافق، وهي أيضا ليست مجرد تنظيم جاهز لسد فراغ أو الحلول محل نظام سابق، إنما هي اليوم تتمدد كتجربة وكممارسة مختلفة وكأفكار ومعان وقيم وكضامن محلي وإقليمي ودولي قوي في استقرار البلاد، وتجنيبها الغرق في الفوضى.

النهضة معنية اليوم بتجاوز خطاب الاستقطاب والتعبئة، وبالتحرر من الشعور بـ"الغربة" السياسية والأيديولوجية داخل المجتمع بفعل عقود الملاحقة والإقصاء، إنها معنية بـ"معايشة" الناس، كل الناس، على قاعدة المواطنة و"تسليمهم" مشروعها ليكون مشروعهم هم يقتنعون به ويدافعون عنه. معركة التنمية والحرية والهوية والسيادة الوطنية ليست معركة حركة النهضة وحدها، وهي ليست تخوضها ضد التونسيين، إنما هي معركة التونسيين أنفسهم يخوضونها ضد الفساد والاستبداد وضد الفقر والجهل والتخلف.
النهضة معنية اليوم بتجاوز خطاب الاستقطاب والتعبئة، وبالتحرر من الشعور بـ"الغربة" السياسية والأيديولوجية داخل المجتمع بفعل عقود الملاحقة والإقصاء، إنها معنية بـ"معايشة" الناس، كل الناس،

- على قيادة النهضة التفكير جديا في حلول عاجلة لمعالجة ظاهرة "شيخوخة" الحركة، وعزوف الشباب عن العمل الحزبي والجمعياتي وعن الانخراط في الشأن العام.. ما هي الأسباب الحقيقية لعدم انجذاب الشباب للعمل السياسي وللأنشطة الاجتماعية والثقافية؟ هل هي أزمة خطاب؟ أم أزمة تواصل؟ أم هي أزماتٌ نفسية يعانيها شبابنا في ظل الأزمات الاقتصادية والأمنية والأخلاقية التي تعم العالم بأسره؟ هذا الشباب الذي تعج به المقاهي ومدارج الملاعب وأرصفة الشوارع؛ ما الذي يجول في خاطره وما هي أحلامه وأسئلته ومشاكله؟

- كما عليها أيضا طرح سؤال عن علاقتها بالمثقفين والمبدعين بما هم مبدعون وفنانون، لا بما هم ذوو ميول إسلامية.. لماذا يتحرز أغلب المبدعين من المشاركة في مناشط الحركة وهي منفتحة فعلا على الجميع؟ لماذا يشعر الكثير منهم بتوجس وقلق وخوف على تجاربهم أمام احتمالات حكم الإسلاميين، وهو ما يفسر احتماءهم عادة بكل طرف يرونه قادرا على مواجهة الإسلاميين والحد من قدراتهم؟

هذه الأسئلة وغيرها سيكون مفيدا للحركة وللبلاد طرحُها والتفكيرُ في أجوبتها تفكيرا معرفيا لا مجرد تفكير سياسي.

وكما أخرج ابن رشد معركة القضاء والقدر من دائرة المتكلمين ومن وضع الإنسان قُبالة مشيئة الله إلى دائرة الفلسفة العملية وإلى وضع الإنسان قُبالة سُنن الطبيعة، فإن على حركة النهضة أن تُخرج التونسيين من وضع اللا إسلامي قُبالة الإسلامي إلى وضع التونسيين قُبالة الفقر والجهل والتخلف والفساد والاستبداد، وكل التهديدات الداخلية والخارجية.

لا يخفى على المراقبين ذوي الخبرة والدراية بأن من حفظ وما زال يحفظ للحركة وجودها هما الجيلان الأولان اللذان تلقيا "تنشئة" معرفية وإيمانية وثقافية وأخلاقية؛ جعلت عناصرهما يظلون أوفياء لفكرتهم ورؤيتهم حتى وإن أتعبتهم القبضة الحديدية أو أحنتْ قاماتهم العواصف أحيانا.. إن الأفكار والمعاني لا تُنتزع ولا تغرس بالقوة، أما الحماسة فتُوقِدُها بلاغة الخطابة وتُبرّدُها الشدائد.

twitter.com/bahriarfaoui1
التعليقات (0)