قضايا وآراء

أفول التطبيع وسطوع الصمود

عمر المرابط
1300x600
1300x600
منذ نشأة دولة إسرائيل قبل أكثر من سبعة عقود، لم يستنكف الكيان الصهيوني عن محاولة تجزئة العالم العربي والإسلامي وتقسيمه، إن لم يكن إلى دويلات تشبه فترة حكم ملوك الطوائف في الأندلس، فإلى تفريقه وتقطيعه سياسيا وفكريا مستندا في ذلك على خلق وتأجيج النعرات الطائفية والدينية واللغوية التي تجعل الوحدة العربية طموحا بعيد المنال صعب التحقيق.

من أجل تحقيق هذا المبتغى المراد منه الحفاظ على كيانها في محيط معاد فكريا وسياسيا وثقافيا، لم تأل دولة الاحتلال جهدا بكل الوسائل المتاحة في خرق الصف العربي وضرب التضامن الإسلامي، وبلغت مقصدها مع ذهاب الجيل الأول من الحكام العرب الذي شهد النشأة وعاش النكبة لكنه لم يرض بالمذلة والمهانة، وحافظ على العزة والكرامة، وبقيت الغصة في حلقه حاجزا لا يسمح بتطبيع العلاقات، حتى جاء جيل جديد لم يتربّ على القضية، ونسي المهمة وأصبح همّه الأساس الحفاظ على الكرسي؛ في ظل ربيع عربي غيّر المعادلة وأعطى للشعوب مكانتها، إذ أظهر أن ضميرها حي، وتعطشها للحرية والعدالة حاضر وموجود، فظن بعض هذا الجيل أن اللجوء إلى كيان المحتل الغاصب معينٌ على كبح رغبات الشعب ومُجير من غضب الغرب.

هي دولة أنشئت لأغراض عدة وتقوم بأدوار مختلفة، تتلاقى فيها طموحاتها مع خدمة مصالح الدول الراعية لها، هي دولة نشأت وولدت ولادة قيصرية بإرادة غربية، وترعرعت بإرادة من كبريات العواصم الغربية. فإن كانت بريطانيا هي الدولة التي سهرت على التأسيس، فإن أمريكا تبنتها وقامت بالحضانة، وفرنسا حققت لها السبق العسكري وحبَتها بالتفوق النووي. أما روسيا فهي وريثة الاتحاد السوفييتي، وهو أول من اعترف بها ودعمها وساهم أبناؤه في تأسيسها، وألمانيا ما زالت لم تتخلص من عقدة المحرقة والنازية التي قتلت ظلما وعدوانا الملايين من اليهود، ونكلت بهم أشد تنكيل، ما جعلها اليوم رهينة تاريخ الأمس، وتقف موقف الحامي المدافع عن إسرائيل مهما فعلت، ومهما طغت وعربدت.

أما العرب فمع تأسيس إسرائيل سنة 1948 أصبحت قضية فلسطين قضيتهم الأولى ولو ظاهريا، خاصة وأنهم تجرعوا مرارة الهزيمة أكثر من مرة، وعقدوا القمم المنددة والمليئة بالوعيد والتهديد، دون أن تكون لهم القدرة الفعلية على الانتصار العسكري أو السياسي سوى ما حققته حرب رمضان سنة 1973، وهي الحرب التي وإن سمحت لكبرى الدول العربية باسترجاع أراضيها المحتلة سنة 1967، فإن ذلك تم عبر استفراد القوى الغربية بها، وإبعادها عن محيطها العربي وعزلها عنه، خاصة بعد التوقيع على اتفاقية كامب ديفيد سنة 1979 وزيارة السادات للقدس، وهي أول اتفاقية تطبيع خرقت الإجماع العربي الرافض رسميا آنذاك أي نوع من التعامل مع دولة إسرائيل، مما أدى إلى تعليق عضوية مصر في الجامعة العربية لحوالي عقد من الزمن.

من هنا بدأ التطبيع لكنه لم ينته، تبعت مصر أنظمة أخرى سرا وجهرا، حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي الذي عرف اتفاقيات أخرى، لكن وجب علينا وللأمانة، ولو أن التطبيع هو التطبيع ولا يمكن تصنيفه إلا من باب الخيانة وهو ما حدا بالعرب إلى نبذ مصر كبرى الدول العربية، التفريق بين الذي أقدم عليه مكرها وقلبه مطمئن بالنضال ومن فتح له صدره.. يجب التمييز بين منظمة التحرير الفلسطينية التي كيد لها وظنت أنها بإقدامها على اتفاقيات أوسلو ستسترد الأراضي المحتلة وتستطيع استرجاعها بالتفاوض، واعتقدت أن هذا الطريق سيوصلها إلى تشكيل الدولة الفلسطينية على الأراضي التي احتلت سنة 1967، وهو وهم انفضح مع مرور الأيام، وبين الدول التي سارت إليه رغبة لا رهبة، رجاء لا خوفا..

قد يلتمس المرء للأولى عذرا ويرحم ضعفها وقد يدخلها في باب المكره المضطر أو المجبر المغصوب، لكن من شرح بالتطبيع صدرا دون اضطرار وأصبح يروج له ويتهم إخوانه من الفلسطينيين بالتطرف وسوء التدبير، ويبرر العدوان الصهيوني عليهم، ويعتبر الاعتداء عليهم مجرد تصاعد أعمال عنف، مساويا بين الضحية والجلاد، فهذا لا يمكن تصنيفه إلا بما يستحق في خانة مصفوفة ترتب وتميز بين الصمود والمقاومة وبين الخنوع والخذلان، حتى لا نقول الغدر بل والشماتة.

يمكننا أن نعرج هنا للحديث عن حالة المغرب وعما يمكن تسميته بلعبة تقاسم الأدوار، حيث كان من اللافت للنظر إعلان سعد الدين العثماني في بيان لرئاسة الحكومة المغربية عن اتصاله بإسماعيل هنية، رئيس الكتب السياسي لحركة حماس، وتصريحه بأن المغرب يدعم القضية الفلسطينية ويضعها في مرتبة قضية الصحراء المغربية، ثم خروجه يوم 16 أيار/ مايو الماضي على قناة الجزيرة، منددا بالعدوان الممنهج وبالانتهاكات الإسرائيلية ضد المسجد الأقصى، وواصفا ما قام به الكيان الصهيوني - حسب تعبيره - بأنه جرائم حرب. كما أنه حذر من التهويد المستمر لمدينة القدس. وهو الخروج الإعلامي الذي لا يمكن أن يصدر إلا بإذن، في مجال سيادي محفوظ للملك تاريخيا ودستوريا.

نقول هذا بغض النظر عن العلاقات السرية التي طبعت العلاقات المغربية الإسرائيلية منذ ستينيات القرن الماضي، وهي العلاقة التي وإن ورثها ملك المغرب عن والده إلا أن مواقفه تحلت بقدر من التريث والتروي في تطوير هذه العلاقة، وجعلها محل مقايضة وتفاوض من أجل الصحراء المغربية.

مع العدوان الصهيوني الأخير اتضح للعالم عامة وللعرب خاصة مدى عنصرية دولة تمارس الأبارتايد بامتياز، ولا عجب فهي دولة قامت على منطق الانتماء الديني الصهيوني الذي يجعل شعب الله المختار فوق كل الشعوب، ويعتقد أن أرض فلسطين التاريخية هي "إرتس إسرائيل"، أي أرض إسرائيل الموعودة لليهود منذ آلاف السنين، ويتعامل مع غير اليهود من ملل أخرى بمنطق الأغيار الأميين "الغوييم"، وهو المنطق الذي لا يفرق بين مناضل ومطبع، فالموت للعرب جميعهم حُلْوهم ومُرِّهم.

مع العدوان ظهر جليا أن التطبيع لا يرسي السلام مقابل السلام، ما دام يتجاهل الحق الفلسطيني الخالد، وظهر أن كعبه سافل، ونجمه لا محالة آفل، لأن للصمود والمقاومة شمسا بازغة تسطع وبريقا يلمع وشعاعا يضيء الدرب وينير الطريق.
التعليقات (0)