قضايا وآراء

المغرب بعد عشر سنوات على خطاب 9 مارس: ماذا تحقق وماذا لم يتحقق؟

عمر المرابط
1300x600
1300x600
بعد عشر سنوات من خطاب 9 آذار/ مارس 2011 الذي أعلن فيه ملك المغرب محمد السادس عن إصلاحات دستورية عميقة، استجابة للمطالب التي رفعت في المظاهرات العارمة التي عرفها المغرب في كل أرجائه، والتي طالبت بالإصلاح ومحاربة الفساد والاستبداد وبالحرية والعدالة الاجتماعية، قد يتساءل المرء: ماذا تحقق من هذا الخطاب؟ وكيف عملت السلطات المغربية على تنزيله وتطبيق مقتضيات الدستور الجديد الذي تلاه؟

خطاب الملك كان ضربة معلم، استطاع بها أن يستجيب فيها لأهم المطالب الشعبية دون أن التنازل عن جوهر صلاحياته الموروثة أبا عن جد في ظل ملكية يناهز عمرها الأربعة قرون؛ منذ تأسيس الدولة العلوية التي جاءت لتخلف دولا أخرى حكمت المغرب بعد مجيء المولى إدريس الأول للمغرب في سنة 169ه/786م، فارا من موقعة فخ التي نكل فيها العباسيون بأبناء عمومتهم العلويين.

الدولة المغربية دولة عريقة تضرب جذورها في التاريخ الممتد لأكثر من اثني عشر قرنا، وبالتالي فكل سلطان أو ملك همه الأكبر المحافظة على ملكه، خاصة ونحن في زمن لا تعرف فيه كل دول أفريقيا إلا الجمهوريات عدا المغرب ودولتين صغيرتين جدا في جنوب أفريقيا.

ومن هنا قام الملك بهذه المبادرة التي استطاعت ان تمتص جزءا كبيرا من الغضب الشعبي وتستجيب لبعض المطالب؛ إما بالقيام بإصلاحات حقيقية على أرض الواقع وإما بتقديم بعض الوعود والآمال التي لا زال المغاربة ينتظرون تطبيقها لحد الآن.

ننطلق أولا من مسلّمة لا ينكرها إلا جاحد أو منافق أو متملق: في المغرب الملك يسود ويحكم وما عداه هوامش يُترك جزء منها للأحزاب السياسية؛ تلعب فيها بمقدار لكن في المكان المخصص لها، وهو هامش متحرك بطبيعة الحال وقابل للصعود والهبوط، مثل هامش المصعد الذي يتحرك فيه دون السماح له بالصعود إلى الأدوار العليا إلا بمفتاح يملكه من بيده الأمر.

فاق خطاب الملك في مضمونه كل التوقعات، وخاصة توقعات الأحزاب السياسية التي حارت في أمرها آنذاك بين موجة حركة 20 فبراير وبين الموقف الرسمي، وقدم وعودا نجملها في ما يلي:

"أولا، ترسيخ دولة الحق والمؤسسات، وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية وضمان ممارساتها؛ ثانيا، الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة؛ ثالثا، توطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها؛ رابعا، تعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين بتقوية دور الأحزاب السياسية، في نطاق تعددية حقيقية؛ خامسا، تقوية آليات تخليق الحياة العامة، وربط ممارسة السلطة والمسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة؛ سادسا، دسترة هيئات الحكامة الجيدة، وحقوق الإنسان، وحماية الحريات".

عدا هذا، وفي نفس الخطاب أعلن ملك المغرب عن مراجعة الدستور وهو الشيء الذي تحقق بالاستفتاء على دستور تموز/ يوليو 2011؛ الذي وإن قلص من اختصاصات الملك الواسعة، فإنه أبقى على أهم ركائزها وصلاحياتها، حيث أن الدستور كتب في إطار ثوابت حددت مسبقا وهي "الإسلام، إمارة المؤمنين، النظام الملكي، الوحدة الوطنية الترابية، والخيار الديمقراطي"، وهي ثوابت لا تشكك فيها إلا الحركات السياسية المعارضة للنظام الملكي، والتي في الأصل اختارت مبدأ المقاطعة وعدم المشاركة، في حين اختار أغلب المغاربة منطق الإصلاح في ظل الاستقرار.

دعونا من النص الدستوري، فبعض الدول كتبت أجمل الدساتير وتغنت عن الديمقراطية الحقة في الوقت التي كرست فيه أعتى الدكتاتوريات، وبعض الدول لا دستور لها لكنها استطاعت تحقيق العدالة الاجتماعية وثقافة ديمقراطية يضرب بها المثل. وهيا بنا كي نرصد الممارسات ونتابع الاختلالات، فلا قيمة للإعلانات دون تطبيق ودون ضمانات.

لا ينكر ناكر أن المغرب احترم نتائج الانتخابات وطبق المقتضيات الدستورية، وسمح لحزب ذي مرجعية إسلامية بترؤس الحكومة لمدة عشر سنوات متتالية، بل إنه قاوم كل الضغوطات العربية التي كانت تدعوه لإنهاء التجربة، خاصة وأنها تجربة تحول دون وضع كل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في خانة التطرف والإرهاب، بدون تفريق أو تمييز بين المتشددة منها والمعتدلة.

لكن وبالرغم من هذا، فيمكن أن نقول إن المغرب كان في أمسّ الحاجة إلى الحزب "غير" الحاكم؛ لا للحفاظ على الاستقرار فحسب، لكن لتمرير كل الإصلاحات الهيكلية العميقة التي كان المغرب بحاجة إليها، من قبيل إصلاح صندوق المقاصة الذي أثقل كاهل الخزينة العامة، أو إصلاح التقاعد أو غيرهما، وهي إصلاحات ما كانت لتُمَرّر بسلام لولا تواجد أحزاب ذات بعد شعبي أو رمزي في الحكومة، مثل حزب العدالة والتنمية "الإسلامي" وحزب التقدم والاشتراكية "الشيوعي".. الخ.

مرت عشر سنوات في ظل أربع حكومات، كل حكومة تأتي ترجع خطوة إلى الوراء بعد التي سبقتها. ويكفي أن نلاحظ كيف أنه مع كل حكومة جديدة يتقلص نفوذ الوزراء الحزبيين، ويتسع نفوذ الوزراء التكنوقراط التابعين مباشرة للمحيط الملكي والذين يأتمرون بأوامره؛ دون مراعاة لرئيس الحكومة الذي أصبح في بعض المجالات لا يدري عنها شيئا، ولا يعلم ما يدور فيها بل يأتي أحيانا ليبصم على قرارات لا ناقة له فيها ولا جمل، بل وصل حد أن رأينا مؤخرا رسالة من وزير الخارجية يأمر فيها رئيسُه رئيسَ الحكومة؛ دون مراعاة ولا اعتبار لا للشخص ولا للمنصب.

تكريس ضعف رئاسة الحكومة تجاه السلطة اتضح جليا مع مصادقة البرلمان المغربي يوم 4 آذار/ مارس الجاري على تعديلات في القانون الانتخابي؛ جاءت باقتراح "مزعوم" من طرف المعارضة، صوتت عليها كل الأحزاب رغم أنها لا تصب في مصلحة الكبيرة منها، تاركة حزب رئيس الحكومة فاقدا الأغلبية في التصويت ومعارضا للمشروع، في أغرب قرار يمكن أن تدرس حالته في كليات القانون!

هو مثال واحد نكتفي به، يظهر الفرق بين شعار تقوية الأحزاب وبين الممارسة التي تضعف كل الأحزاب، بل وتختار لهم رؤساءهم ليُتَحكّم فيهم كما يتحكم المشاهد في التلفاز بجهاز التحكم عن بعد. ومن هنا نلاحظ أن السلطة في المغرب لها من الحنكة السياسية والعبقرية الاستراتيجية ما يجعلها تقوم بمأسسة "النكوص الديمقراطي" والتراجعات في ميادين عدة ذكرناها آنفا، وكل هذا لا من حيث إرادتها بل بطلب حثيث من الأحزاب السياسية المغربية، ولا يسع المرء هنا إلا أن يقف إجلالا لها، فهي تعرف حق المعرفة من أين تؤكل الكتف.
التعليقات (0)