قضايا وآراء

إنسانية الرئيس واستجداء المستشار

ماهر البنا
1300x600
1300x600
العملية الأكثر إدهاشا بالنسبة لي، التي تقوم بها الذاكرة هي التصنيف والتبويب. ممتن، بالطبع، لما تقوم به ذاكرتي من تسجيل وتخزين واسترجاع للمعلومات، لكني لا أرغب أن تكون سائلة رجراجة غير مصنفة ومبوبة؛ لأنها تفقد الكثير من قيمتها وفاعليتها. وأكثر ما يكون التصنيف مفيدا حين تظهر بوضوح الروابط بين التصنيفات المختلفة ظاهريا المرتبطة عضويا، وذلك بلا شك وفق تطور معرفتي وخبراتي.

منذ أيام قليلة استرجعت بعض أحداث وصور وكلمات وتواريخ وشخصيات لا جامع واضحا بينها، فلا رابط بين السيسي وهلموت كول، إلا ما قامت به ذاكرتي من استدعاءات بدت للحظة متنافرة، وبجهد بسيط انتظمت.

كان العنوان الصحفي فجا بوضوح: "إنسانية الرئيس.. السيسي يطمئن على مواطن تعرض لحادث على الطريق.. فيديو"، والمشهد يرجع لصيف العام الماضي، ودارت الآلية النفسية بصورة تلقائية، فاستدعت عشرات العناوين والمقاطع المصورة السابقة على ذلك التاريخ، وكان أبرزها: "بالفيديو والصور.. تواضع الرئيس يكسر الحواجز مع الشعب في 2016.. يتناول الإفطار مع أسرة بسيطة بالإسكندرية.. يفتح باب السيارة لـ"فتاة العربة".. يقف في طابور"الكارتة" على الطريق.. ويقبل رأس أم أحد الشهداء".

كل هذا تم تسجيله وتصنيفه برابط مع كول، السياسي الألماني الذي شغل منصب المستشارية (رئيس  الوزراء) في ألمانيا الغربية من 1982 حتى 1990، ثم استمر به بعد إعادة توحيد ألمانيا حتى 1998.

الحدث الذي حفظته الذاكرة للرجل الذي تعد السنوات الست عشرة التي عمل فيها مستشارا لألمانيا هي الأطول بعد بسمارك، ويعدّ على نطاق واسع العقل المدبر لإعادة توحيد ألمانيا. كان حدثا كرويا بامتياز، إنه المباراة النهائية لكأس العالم عام 1986، لكن ذاكرتي صنفته حدثا سياسيا بامتياز أيضا.

تلك البطولة، التي توجت أسطورة مارادونا، كانت ممتعة للغاية، وبها من الطرائف الكثير. وهناك مكان خاص لواقعة "يد الله"؛ وهو الهدف الذي أحرزه اللاعب في شباك المنتخب الإنجليزي، وقد سجله بيده اليسرى، لكن الحكم حسبه هدفا صحيحا سجل بالرأس. للبطولة تأريخ آخر حزين، فقد أقيمت في المكسيك التي كانت قد تعرضت لحادث مأساوي، قبل إقامتها بعدة أشهر، وتسبب بأضرار جسيمة في مدينة مكسيكو الكبرى، ونجم عنه وفاة ما لا يقل عن 5000 شخص، وتشريد الملايين من السكان.

المباراة النهائية بين ألمانيا الغربية والأرجنتين.. ألمانيا خسرت النهائي السابق (1982) لصالح إيطاليا، وهي تلعب للفوز بالكأس وتعويض الخسارة السابقة، أما الأرجنتين فتريد الكأس بطعم الديمقراطية، فقد فازت بالكأس الذي نظمته عام 1978، في ظل نظام الحكم العسكري الفاشي، وسط امتعاض عالمي واسع. في المقصورة، يجلس قادة ألمانيا والأرجنتين والمضيف، المكسيك، وتنتهي المباراة بفوز الأرجنتين. في مراسم التتويج، يظهر كول سلوكا "قياديا" لافتا: مبتسم رغم الخسارة، يتقدم منتخبه لتلقي ميداليات الوصيف، وهو يحيي أفراد الفريق بحرارة مبالغ فيها أيضا، يوقفهم لالتقاط الصور، وحين يأتي الدور على رومنيجه الذي تبدو عليه الحسرة والغضب بصورة ظاهرة، يستوقفه كول، ويصر على الصور، من هذه الزاوية ومن تلك، واللاعب الذي يخسر النهائي الثاني على التوالي غير مكترث للرجل الضخم المبتسم.

كول هنا يظهر بمظهر رجل الدولة الحديث، هذا حدث جماهيري، الملايين يتابعونه، والنجم هنا هو اللاعب، المستشار هنا شخص ثانوي، يريد أن يعزز شعبيته، مكانته، ربما تكون صورة مع ذلك اللاعب دافعا للمصوتين له لإعادة انتخابه، المدهش أنه فعل الشيء نفسه مع مارادونا.

تلك الدقائق محفوظة جيدا في الذاكرة، كول في الشوط الأخير من الحرب الباردة، والانتخابات على الأبواب والمنتخب يخسر للمرة الثانية، هو هنا مجرد مشجع يجلس على مقعد مميز ويفكر: ماذا أكسب لو فازت بلادي، وماذا أخسر لو خسرت، وكيف أتصرف في الحالتين؟ كل قواه العقلية والحسية تفكر في مواطنيه باعتبار أن كل واحد منهم حر في اختياره، وسيقرر عن قريب هل يمد في بقائه بدار المستشارية أم يذهب به إلى البيت، لذلك يبدو وكأنه يستجدي الصورة.

استدعت ذاكرتي الغالبية العظمى من مقاطع وصور وأخبار "إنسانية الرئيس"، وعرضتها على سؤال: من يقابلهم الرئيس مصادفة؟ إنهم دائما في حاجة له، يظهر بصورة مفاجئة، عارضة، ليجد دائما إنسانا مصريا في حاجة لأن يمنحه الرئيس من فيض كرمه وعطائه.. مرضى يشكون، فلا يسأل لماذا قصرت حكومته في علاج تلك المواطنة؟ لماذا رفض المستشفى استقبالها؟ لماذا يرفض تطبيق الدستور الذي يلزم الدولة برفع نسبة الإنفاق على الصحة والتعليم؟

الأهم أن لا أحد ممن يقابلهم الرئيس يجرؤ على الحديث عن الآخرين، لا حديث عن موضوع عام يخص المجموع. ما نراه بسطاء، مرضى، يصادفون واهب النعم والعطايا، وعلى بساطتها تبدو الشكوى هائلة في إطار علاقة الاستجداء والمن.

تقول السيدة المسنة: "عندي قلب وسكر وكبد وضغط وأحتاج إلى رعاية، وعندما ذهبت لبعض المستشفيات رفضوا قبولي". لا يسأل كيف ولماذا ترفض المستشفيات، لا يطلب تحقيقا، لا يؤسس لمنهج أن علاجها حق هو مسؤول عن الجور به، الغريب أن السيدة التي قابلت الرئيس مصادفة كانت تمسسك بأوراق بها طلبات أخرى!

مظهر كول يبدو طبيعيا للغاية، به كل عناصر المفاجأة والتشويق، مقاطع الرئيس وإنسانيته مفرطة في التصنع والفجاجة، والمقارنة التي تعقدها الذاكرة هي سؤال شخصي قبل أن تكون مسألة سياسية عامة، سؤال شخصي بمعنى هل موقف كول ورومنيجه صنعته إرادة السياسي أم اللاعب أم الجمهور؟

في ظني أن الجميع محكومون بواقع اجتماعي وسياسي يحدد سلوكهم، الذي يفضى إلى ذاكرة جمعية لا بد أن تصنف جيدا مثل تلك المواقف. فالأزمة في علاقة الرئيس بالشعب تبدأ من النظر إلى فعل من نوعية "السيسي يرتدى كاب و"جاليه" وجينز"، باعتباره تملقا واستجداء للشعبية، وليس فعلا إنسانيا يمدح عليه.
التعليقات (1)
انقلابي خائن وليس رئيساً
السبت، 24-04-2021 07:42 ص
جاءت في المقال عدة مرات الإشارة إلى "الرئيس" وهو ليس برئيس بل انقلابي خسيس انقلب على إرادة الناخبين (25 مليون ناخب) قرروا انتخاب الرئيس الشهيد محمد مرسي الذي قتله الخسيسي في المعتقل بالإهمال الطبي وبالتسميم البطيء وإساءة المعاملة. يجب أن يوصف بانه زعيم عصابة الانقلاب الفاشي والسفاح بما قتله من آلاف المصريين في مجازر بشعة لم تشهد مصر لها مثيلاً من قبل في الحرس الجمهوري والمنصة ورمسيس والنهضة ثم رابعة وما أدراك ما رابعة. وسيبقى رغم تصالح تركيا معه سفاحاً انقلابياً خائناً غادراً قاتلاً ظالماً حقوداً أنانياً يبغضه كل من لديه ذرة من الإنسانية والكرامة والعزة والمبادئ.