قضايا وآراء

عابرون ضد النسيان.. يوميات معتقل (18)

ماهر البنا
"المعيشة نفسها أكبر تعذيب" في السجن- الأناضول
"المعيشة نفسها أكبر تعذيب" في السجن- الأناضول
لم أشاهد وجه "الواد 28" أبدا، ومع ذلك ظل محفورا في ذاكرتي عصيا على النسيان، وهذا ما حدث مع آخرين التقيت بهم لقاءات عابرة: في سيارة الترحيلات، أو قاعة الحجز انتظارا للتحقيقات في نيابة أمن الدولة، أو على مقاعد الانتظار في الممر الرخامي المفروش بالسجاد أمام مكتب وكيل النائب العام.

في الأيام الأولى للتحقيقات، كان هناك حرص شديد على ترحيلي منفردا في سيارة خاصة، لا أرى أحدا ولا يراني أحد، وبعد أيام صعدت إلى السيارة وجلست وحيدا على الحديد البارد في نهار يوم شتوي من شهر شباط/ فبراير، وبعد دقائق توقفت السيارة، وسمعت صرير الباب الحديدي وصعد شاب نحيف في منتصف العقد الثالث من عمره (24 سنة تقريبا)، ألقى التحية وجلس على مسافة مقعدين مني.

بعد دقائق من الصمت قام من مكانه وجلس بجواري وسألني بخجل: حضرتك فلان الفلاني؟

* نعم أنا.

- قبضوا عليك إمتى وازاي؟

* مش تعرفني بنفسك الأول؟

- أنا اسمي خضر جميل المنياوي، خريج السنة اللي فاتت من جامعة الأزهر، ومسجون انفرادي في سجن العقرب.

* إخوان يا خضر؟

- ماليش قي السياسة، أنا بتاع ربنا.

* مالكش في السياسة ومسجون انفرادي في العقرب؟

- قدر الله.

* قبضوا عليك ليه وفي أي ظروف؟

- أنا بشتغل في مؤسسة طبية إنسانية لرعاية المرضى من كبار السن، وكل أسبوعين أسافر الصعيد لزيارة والدي، أطمئن عليه خميس وجمعة وأرجع السبت نهارا، لأن عندي مناوبة في الشغل مساء السبت. ركبت من ميدان رمسيس إلى "عين شمس"، لوضع شنطتي وتغيير ملابسي والاستعداد للعمل، نزلت قبل السكن بشارعين، وفي أول الشارع الذي أسكن به لحقتني ببطء سيارة ميكروباص، كانت متوقفة إلى جانب الرصيف في أول الشارع، وتوقفت إلى جواري تماما ونزل منها اتنين بملابس مدنية ودفعوني بقوة إلى داخل السيارة، وحدثت لي كدمات في جبهتي وركبتي وكتفي، لكنني لم أشعر بها إلا بعد ذلك، حالة الصدمة والذهول ألغت تفكيري وإحساسي بالألم..

- خير يا أسيادنا؟.. انتو اكيد قاصدين حد تاني..

تجاهلوا سؤالي، وسألني أحدهم بلهجة آمرة: الشنط دي فيها إيه؟

كنت أحمل شنطة في يدي، بها طعام وملابس مغسولة ومستلزمات زيارة البيت، إلى جانب شنطة الكتف الذي أذهب بها للعمل، وتتضمن متعلقات خاصة لاستخدامها أثناء الشيفت وبعض المستلزمات الطبية البسيطة: ترمومتر وأجهزة قياس أكسجين وضغط الدم وبعض أنواع المراهم والدهانات.

جاوبت بكل صراحة، ولم أقاومهم في شيء، حتى وصلنا إلى مقر الأمن الوطني وبدأ الضابط التحقيق معي:

* تعرف فلان؟

- نعم أعرفه.. زميلي المناوب في العمل.

* بينكم اتصالات؟

- نعم بيننا اتصالات؟

* آخر مرة اتكلمتوا امتى؟

- امبارح اتصل يؤكد عليّ عدم التأخير، لأنه مرتبط بموعد مهم بعد انتهاء مناوبته، والمفروض أستلم منه اليوم.

* بتتكلموا في إيه تاني غير الشغل؟

- الموبايل معاكم، اقرأوا الرسائل، كلها عن الشغل وبس.

* بس هو بيقول انك عضو معاه في الخلية..

- خلية إيه؟.. يمكن قصده الجمعية

* خليك كويس واعترف بكل حاجة عشان نساعدك، لأن زميلك معانا جوه واعترف بكل حاجة، ولو أنكرت واستدعيته هنا لمواجهتك، وكشف كذبك، العقاب هيكون شديد.

- والله لا أعرف خلية ولا بيني وبينه أي حاجة غير الشغل.

رموني مغمى العينين يوما ونصف، ثم عادت التحقيقات والأسئلة تتكرر لمدة 93 يوما بلا جديد.

والدي المسن لا يعرف عني أي شيء، وكذلك المديرون في العمل، وليس لي اختلاط بجيران، ولا أحد يمكنه أن يعرف عني شيئا، ولن يقلق أحد بسبب غيابي، لأن طبيعة عملي قد تبرر للجيران والقليل من الأصدقاء غيابي وانشغالي.

بعد شهور الاحتجاز في الأمن الوطني عرضوني على نيابة أمن الدولة، ورحلوني إلى "العقرب".. وجدت نفسي في زنزانة انفرادية مع بطانيتين وزجاجة ماء ووعاء بلاستيك لقضاء الحاجة، والتعيين اليومي خبز أسود وعلبة من الجبنة وعمود حلاوة طحينية في حجم "قضمة"، والغداء إما "أبلونج" أو "طبخة سودا".

* إيه الطبخة السودا دي؟

- باذنجان مطبوخ في صلصة وأحيانا يكون معه قطعة لحم يصعب مضغها.

* وإيه الأبلونج؟

- فاصوليا سودا برضه.

* هل تأتيك أي زيارات من الخارج؟

- مفيش أي زيارات.. محدش يعرف أصلا إني محبوس، والدي رجل عجوز يعيش في الصعيد وما يستحملش بهدلة السفر وزيارة السجن، ولو عرف الخبر ممكن يقضي عليه.

* عايش ازاي في الظروف دي؟.. بتقضي يومك ازاي لوحدك بطعام قليل، وعدم تواصل؟

- عايش مع الله، من كرم ربنا معايا إنهم سابولي مصحف صغير كان معي في شنطة الكتف، بقضي الوقت في قراءة القرآن والتسبيح والدعاء.

 * بتتعرض لتعذيب أو تهديدات جوه السجن؟

- المعيشة نفسها أكبر تعذيب، وإن الإنسان مرمي في النسيان مش عارف مصيره إيه، لولا القرآن والإيمان بالله كان الحل هو الانتحار. جاوبني حضرتك على أسئلتي وطمني على أحوالك في السجن..

طمأنته وعرضت عليه المساعدة بإبلاغ الأهل أو الجمعية التي يعمل بها أو محامين أو أصدقاء، وعرضت عليه تدبير طعام يعود به إلى محبسه بعد التحقيق، لكنهم رفض كل ذلك: بيفتشوني عند الخروج وعند الرجوع وبيصادروا أي حاجة، غير البهدلة والعقاب لو وجدوا أي شيء.

لم أقابل خضر بعد ذلك أبدا، لكن صوته الخفيض المؤدب لا يزال مسموعا في رأسي، ووجهه الطفولي الشاحب محفورا في ذاكرتي، لا أنساه، حتى أنني حلمت به في منامي أكثر من مرة، يجلس في ظلام زنزانته وصوت ترتيل القرآن مبلل بالأسى والرجاء.

وجه آخر على النقيض من خضر لا أنساه، إنه عادل عبد الحميد.

في نفس عمر خضر تقريبا أو أكبر قليلا، كان ممددا على ظهره فوق سجادة صغيرة عندما دخلت غرفة الحجز في نيابة أمن الدولة، تحت رأسه زجاجة مياه معدنية وبجواره كيس بلاستيك تظهر منه أكياس الشيبسي وروائح أطعمة، ويرتدي بلوفر أحمر مبهجا على بنطلون من البلو جينز الفاتح، وحذاء رياضيا أبيض ناصعا.

عندما دخلت اعتدل بتؤدة، ورد تحيتي بحياد، لم أتجه نحو المكان الذي يجلس فيه، وبدأت حركتي المعتادة في المشي بمحاذاة جدران الحجز، وبعد 10 دقائق شعرت بحركته وسمعت أصوات فتح الكيس البلاستيك وأكياس رقائق البطاطس، وخرج صوته مصحوبا بالصدى الناتج من القاعة الكبيرة الفارغة: اتفضل معايا.

لم يقتنع بالشكر الذي رددت به عليه وأنا أواصل المشي، فقام من مكانه وجاء نحوي وأمسك بيدي وهو يقول: طيب على الأقل لو مش هتفطر معايا، اقعد استريح شوية ونتكلم مع بعض.. الوقت هنا ممل.

قلت بما يشبه الاستنكار: ممل ليه؟.. انت شكلك مش محبوس.. ملابسك بتقول انك جاي من البيت.

- لأ.. انا جاي من قسم الشرطة.

* محتجز جديد في القسم، ودي أول عرض على النيابة؟

- لأ.. لما بيحتاجوني في التحقيق بيبلغوا القسم، فأروح اسلم نفسي، يوصلوني هنا، ولما التحقيق يخلص، يرجعوني القسم ومنه للبيت.

قلت بلهجة تمزج السخرية بالمزاح:

* إيه التحضر ده؟.. الكلام ده عندنا في مصر؟.. انت قضيتك إيه؟

- أنا عادل عبد الحميد "كاتب نيابة".. موظف هنا.

* موظف في النيابة وللا متهم؟


- موظف ومتهم.. انت ما بتقراش جرايد؟

* لا للأسف.

- أنا متهم في قضية كبيرة بتهمة إني أخذت رشوة من نائب مجلس شعب ورجال أعمال كبار، عشان أسرق ملف قضية متهم فيها ناس جامدة، ولما ملف القضية ضاع، ضموني للقضية بتهمة تبديد الملف ووقفوني عن العمل لحين انتهاء التحقيقات، وكل فترة يستدعوني للتحقيق ولا بيحصل أي حاجة، ممكن اليوم يعدي ولا أحضر تحقيق ولا وكيل النيابة ييجي من بيتهم أصلا، وبعد الانتظار والملل أرجع البيت.. مش بقول لك حاجة مملة!

سألته بطريقة مباشرة:

* انت مش خايف من إثبات التهمة عليك وضياع مستقبلك وفصلك من العمل؟

- ضياع مستقبلي؟.. انت بتعتبر ان مرتب كاتب النيابة ده مستقبل؟ ولا هيقدروا يثبتوا حاجة، وإذا أثبتوا، كبيرهم إهمال في حفظ مستندات رسمية ويخصموا، ولا حتى يفصلوا من العمل، وندخل في قضايا وتعويضات، وبيني وبينك كل ده تضييع وقت وشغل فاضي، لأن تأمين المستقبل إن الإنسان لما تيجي له الفرصة الصح يمسك فيها، ويعمل اللي المفروض يعمله..

* شكلك مرتاح وضميرك مرتاح ومش قلقان من القضية.

- أنا موقفي في القضية حتة "بساريا" صغيرة وسط حيتان، رأيك البساريا هتخاف على مستقبلها وهي عارفة ان أي ضرر، أو إثبات يؤذيها، لازم يضر الحيتان قبلها؟

تحدث عادل كأنه بطل عبثي في مسرحية من أعمال "ألبير كامي"، نصف الاعتراف الذي ألقاه على سمع رجل لا يعرفه إلا قبل نصف ساعة، يبدو نوعا من التفاخر بالذكاء والشطارة في اقتناص الفرصة.

بعد ساعة من الدردشة الكاشفة للحالة الدرامية العبثية التي تعيشها مصر ومؤسساتها من نيابة وبرلمان وإعلام وقضاء، نادى الحارس اسم عادل بحميمية وهو يفتح الباب: ياللا يا عادل..

- إيه يا عم علي.. البيه الوكيل وصل؟

* لا يا عادل، هتروّح.. البيه الوكيل اتصل وبلغهم مش هييجي النهارده.

وبقيت وحدي في الحجز البارد تنتابني رغبة مزدوجة في الضحك وفي البكاء.

وفي المقال المقبل أواصل حكاية السجن.

[email protected]
التعليقات (0)