ترافقت أزمة المقاصة التي
مرت بها السلطة
الفلسطينية منذ بداية العام ٢٠٢٠ مع أزمات حكومية عديدة، وكان من
أبرز تلك الأزمات أزمة دفع الأقساط الجامعية لأبناء العاملين في القطاع العام ممن
تقاضوا أنصاف رواتبهم فقط تبعا لتلك الأزمة.
الجدير بالانتباه في هذه الأزمة أن الحديث حول
صعوبات تسديد الطلاب الفلسطينيين لأقساطهم الجامعية هو جدل قديم أنعشته الأزمة مع
تسليط الضور على أبناء العاملين في القطاع العام، حيث اجتهدت الحكومة ووزارة
التعليم العالي وإدارة
الجامعات الفلسطينية بالبحث عن مخارج لتغطية تلك الأقساط؛
تضمنت الطلب إلى الجامعات بقبول ما نسبته ٥٠ في المئة من أقساط أبناء العاملين في
القطاع العام، كذلك السماح لأبناء العاملين في القطاع العام بتقسيط دفعات الأقساط
الجامعية.
الحديث تركز حينها على أبناء العاملين في
القطاع العام، لكن الأزمة تشمل الطلاب الجامعيين الفلسطينيين من أبناء العاملين في
القطاع العام وغيرهم، بسبب محدودية خيارات العمل داخل الأراضي المحتلة واعتماد
شريحة كبيرة من الفلسطينيين على أعمال تتسم بعدم الأمان الوظيفي وعدم شموليتها ضمن
قانون العمل الذي يحفظ حقوق العاملين، بخاصة أولئك العمال الفلسطينيون من أرباب
الأسر الذين يعملون في قطاع الخدمات داخل الأراضي المحتلة لعام ١٩٤٨.
نرى بداية كل فصل دراسي جامعي انتشار ظاهرة
المناشدات من أجل تسديد أقساط طلاب فلسطينيين متفوقين لكن عائلاتهم تقبع تحت خط
الفقر ولا تستطيع تأمين تكاليف دراستهم أو مصروفهم الشخصي. واللافت في الأمر أن
هنالك تجاوبا انتقائيا حكوميا أحيانا وأحيانا يتم تسديد تلك الأقساط ضمن منظومة
تكافل اجتماعي محدودة لا يمكنها الوقوف على حالة كل طالب بشكل منفرد.
اللافت أيضا في موضوع المناشدات في كل قطاع
على حدة وهنا الحديث حول قطاع التعليم العالي تعكس جزءا كبيرا من الأزمات الحكومية
المتلاحقة. فعلى الرغم من انتشار تلك الظاهرة قديما على الصحف المحلية وحديثا ضمن
وسائط التواصل الاجتماعي، إلا أن هذه الظاهرة لم تدفع الحكومة ووزارة التعليم
العالي للبحث عن حلول أكثر جدوى في سبيل محاصرة الأزمات المالية التي ترهق الطالب
الفلسطيني، وتدفع شريحة كبيرة منهم للاستنكاف عن الدراسة لصالح الالتحاق للعمل في
قطاع الخدمات غالبا داخل الأراضي المحتلة لعام ١٩٤٨، وما يتبع ذلك من عملية تعطيل
طاقات عقلية وفكرية من الممكن في حال تم الالتفات لقضيتها والتخطيط والاستثمار
الجيد في تلك الطاقات أن تشكل جزءا من عملية تنمية مستدامة داخل فلسطين المحتلة؛
قادرة على التصدي للاحتلال وتفوق دولته في قطاع التعليم والبحث العلمي في جامعاته
ومؤسساته الأكاديمية.
هنالك من الخبراء الماليين من دعا الجامعات في
سبيل حل تلك الأزمة إلى الاقتراض مرة ومرة أخرى تفعيل شبكة دولية لحصد المزيد من
المساعدات لدعم قطاع التعليم. والملاحظ في ذلك أن هنالك عدة منح تغذيها المساعدات
والقروض، مثال ذلك منحة الرئيس محمود عباس، كذلك مجلس الوزراء الذي يقدم ٨٠٠ إلى
ألف منحة للطلاب، أيضا منح وزارة التعليم العالي التي تشكل ما عدده ١٠ إلى ١٥ منحة
للطلاب في كل جامعة فلسطينية، بالإضافة لمنحة جميل الشامي التي قيمتها مئة ألف
دولار.. تلك المنح معايير نزاهة توزيعها ومحدوديتها في الوصول لشريحة واسعة من
الطلاب قد تؤثر في فرص الكثيرين من الطلاب الفلسطينيين المتفوقين في الحصول عليها،
وبالتالي يخضع جزء كبير منها لعملية المحاصصة والعلاقات العامة.
عند النظر لتوزيع ميزانيات حكومات السلطة
الوطنية الفلسطينية على القطاعات كافة، نستطيع إدراك أولويات تلك الخطط المالية،
حيث في تقرير صادر عن شبكة السياسات الفلسطينية تم توضيح ما يتم إنفاقه على القطاع
الأمني الفلسطيني مثلا في الضفة وغزة فكانت هذه المعطيات:
عدد عناصر أجهزة الأمن الفلسطينية في الضفة
الغربية وقطاع غزة يبلغ قرابة 83.2 ألف عنصر، موزعين بين 65.463 ألف عنصر في الضفة
الغربية، و17.813 ألف عنصر في غزة تحت راية حماس.
وفي مقارنة بين عدد عناصر الأجهزة الأمنية
بالنسبة للمواطنين بين فلسطين والولايات المتحدة الأمريكية، التي أظهرت أنه يوجد
206 رجال شرطة لكل 100 ألف مواطن أمريكي، و5 جنود فاعلين لكل 100 مواطن أمريكي.
وأشارت الدراسة إلى وجود 232 عميدا لدى
الأجهزة الأمنية في الضفة الغربية، مقابل 30 عميدا لدى حماس، بينما يوجد 410 عميدا
موزعين على الجيش الأمريكي وأسطولها البحري والجوي.
يذكر أن فاتورة وزارة الداخلية والأمن
الفلسطينية تشمل سنويا ما نسبته 29-31 في المئة من موازنة الحكومة الفلسطينية،
بقيمة متوسطة تبلغ مليار دولار أمريكي سنويا.
عند تحليل تلك المعطيات يتبين أن النسبة التي
تخصصها الخطط الحكومية لدعم قطاع التعليم لا يشكل لديها نفس معدل الدعم والتركيز
الذي تصرفه على الأجهزة الأمنية، سواء لدى حكومتي غزة أو رام الله. فالأقساط
الجامعية تمثل ٨٠ في المئة من
ميزانية تشغيل بعض الجامعات الفلسطينية وتساهم
الحكومة مثلا في جامعة بيرزيت بما قيمته ٧٥٠ ألف إلى مليون دينار أردني حسب تصريح
لمساعد رئيس جامعة بيرزيت عبد العزيز شوابكة، فإن جامعة بيرزيت مثلا لم تحصل على
ذلك الدعم والإيفاء بهذا الالتزام، وأشار إلى أن الجامعة مثقلة بالديون حسب تقرير
نشرته صفحة الاقتصاد الفلسطيني.
قبل أو بعد أزمة المقاصة، فإن خطط الحكومات الفلسطينية
المتعاقبة ومقدار تركيزها على قطاع التعليم مقارنة بقطاع الأمن يعكس حالة من خلل
كبير في التخطيط، حيث هنالك فجوة واسعة في الدعم المقدم للقطاعين، وهذا يعمل على
تكريس الأولوية للقطاع الأمني تماما كما تفعل الأنظمة العربية الأمنية والقمعية،
فهي غالبا ما تركز على بناء قطاع الأمن بسبب هواجس قمع المعارضة لا الأعداء
الفعليين، وهذا ما كان واضحا في نشاط الأجهزة الأمنية الذي تركز في قمع المعارضين
وزجهم في السجون بتهم الانتماء لتنظيمات محظورة أو نشاطات محظورة، وغيرها من التهم
الأمنية كقذف مقامات عليا.
وتشكل تلك الأجهزة الأمنية جزءا من منظومة
التنسيق الأمني بين حكومة رام الله وحكومة الاحتلال من أجل ضمان أمن الاحتلال، وزج
المعارضين لأوسلو ممن ينشطون في المقاومة الشعبية للاحتلال في السجون الأمنية
بالتناوب بين السلطة وإسرائيل.
تحرس السلطة الوطنية بذلك استمراريتها فقط
وحماية أمنها الخاص، في حين تعرض أجيال واسعة من الشباب الفلسطيني الفقير لعملية
تجهيل ودمج في سوق العمل بشكل مبكر في الأراضي المحتلة لعام ١٩٤٨، وبالتالي خسارة
الكثير من العقول الفلسطينية الواعدة التي في حال تم الالتفات بخطط جدية لتسديد
تكاليف تعليمها الجامعي لأمكن أن تشكل علامة فارقة في التصدي المستدام للاحتلال،
عبر المعرفة وطريق العلم الذي يتم قطعه بسبب التركيز على دعم قطاع الأمن وترك قطاع
التعليم والتعليم العالي لماكينة التكافل الاجتماعي والمناشدات والأعمال الخيرية؛
التي ليس بإمكانها وحدها دعم الطالب الفلسطيني في حل أزماته المالية في حال قرر
الالتحاق بالتعليم الجامعي.
المطلوب من الحكومات الفلسطينية أن تعمد ضمن
خططها وموازناتها السنوية للانتباه لقطاعي التعليم والتعليم العالي، وخص الطلاب
الفلسطينيين بخطط تنمية اجتماعية ودعم اجتماعي ممنهج، خاصة أولئك الذين تقبع
عائلاتهم تحت خط الفقر، وعدم ترك الأمر لمجهودات تكافل اجتماعي متفرقة ومناشدات
ترهق الطالب وتخرجه من الاعتقاد بجدوى التعليم الجامعي. ترك الأمر للمنح
الانتقائية التي توزعها المؤسسات لا يحل مشكلة شريحة عريضة من الطلاب الجامعيين
الفلسطينيين، فالمطلوب هو استحداث طرق لدعم ميزانيات الجامعات التي يعتمد عليها
سوق العمل الفلسطيني في تخريج كفاءاته بحيث لا تشكل أقساط الطلاب النسبة الأعلى في
الميزانيات التشغيلية لتلك الجامعات. والسلطة الفلسطينية تملك الموارد التي قد تحل
جزءا كبير من تلك المشكلات في حال تم التركيز على قطاع التعليم مقابل تخفيض
التركيز على قطاع الأمن.