الذاكرة السياسية

مذكرات جار الله عمر: الإمام البدر فتح أبواب اليمن على العالم

جار الله عمر: الإمام البدر في اليمن كان يشبه محمد علي في مصر والأمير اليساري سوفانا فونغ في لاووس (فيسبوك)
جار الله عمر: الإمام البدر في اليمن كان يشبه محمد علي في مصر والأمير اليساري سوفانا فونغ في لاووس (فيسبوك)

تعرفت إلى قحطان الشعبي (أول رئيس لليمن الجنوبي) في صنعاء عام 1963، عندما كانت حركة القوميين العرب تعقد اجتماعاتها في أماكن مختلفة، ومن بينها فندق دار البشائر الذي كان سابقا قصرا للإمام البدر ثم تحول إلى فندق. شهد هذا الفندق اجتماعات عديدة لقيادة حركة القوميين العرب، وكنا نحن الجيل الثاني أو الثالث من الحركيين نتردد إلى الفندق للعناية بالقادة أو لتقديم الخدمات لهم أو للحراسة أي لحمايتهم، وكانوا حينذاك يستعدون لإطلاق الجبهة القومية وإعلان الكفاح المسلح في جنوب اليمن

قحطان الشعبي

كان قحطان الشعبي شخصية بارزة في ذلك الاجتماع، شأنه شأن عبد الله محمد المجعلي وناصر السقاف وعلي أحمد السلامي (تشديد اللام في الجنوب ولفظها مخففة في الشمال). كان فرع الشمال مشاركا في التحرير، لكن القيادة واحدة شمالا وجنوبا، وكانت تسمى قيادة الإقليم وكان من ضمنها فيصل عبداللطيف الشعبي وأحمد قاسم دماج وعبد القاسم قايد وسلطان أحمد عمر وعبد القادر سعيد وآخرون. اتفق حينئذ على تشكيل الجبهة القومية. 

كنا نتابع هذا النشاط عن قرب ولم نكن أساسيين فيه، لم يكن أحد في حركة القوميين العرب معارضا للكفاح المسلح، لا بل إن الحركة في بيروت وفي الكويت وفي سائر أماكن وجودها العربي كانت مؤيدة. أنشئت الجبهة القومية وكانت علاقاتنا مع إخوتنا في الجنوب علاقات تضامن وتعاون، نقدم لهم الذخائر والسلاح والمأوى، وكان المصريون يساندوننا في المرحلة الأولى.

كان قحطان الشعبي رجلا متحمسا وذا مكانة اجتماعية وسياسية كبيرة، ينتمي إلى وادي شعب في منطقة الصبيّحة ما بين الشمال والجنوب. استمرت العلاقة بيننا وكانت علاقات تعاطف وتواد. كان قحطان خطيبا مفوها، ولكنه عصبي المزاج عندما يستفز، بيد أن القيادة الفعلية في الحركة وفي الجبهة القومية كانت منعقدة لفيصل عبداللطيف الشعبي، ابن عم قحطان ومؤسس الحركة في اليمن. هو الذي أدخل قحطان إلى الحركة ومعه مجموعة كبيرة من الناشطين. العلاقات السياسية استمرت بين فرع الشمال وفرع الجنوب علاقات تعاطف ودعم، وتراجعت العلاقات التنظيمية وصارت تشبه علاقات حماس في غزة بالإخوان المسلمين في الأردن اليوم.

قبل حصار صنعاء في السبعينيات؛ خلال الحرب الأهلية، كان بوسعنا تجميع كميات من الأسلحة والذخائر، خصوصا بعد أن تمكنت الحركة والحزب الديمقراطي الثوري من بعد أن يسيطر على وحدات عسكرية في الجيش الشمالي. كنا نعمل على إدخال الذخائر والأسلحة للجبهة القومية، وكنت أعرف سالمين وقحطان وفيصل وصالح مصلح وعلي شايع هادي عن قرب، وكنت أعرف أيضا محسن ناجي ومحمد البيشي وسيف الضالعي وخالد عبد العزيز وعرفت علي البيض وعوض الحامد ومحمد علي هيثم وعلي ناصر محمد، من بعد.

مؤتمر زنجبار 

عندما تسلمت الجبهة القومية السلطة بعد الاستقلال، كنا مؤيدين لقحطان ومرحبين به، وأنا كنت في صنعاء يومها. كنا نريد وحدة بين الشمال والجنوب، ولكن صودف أن صنعاء كانت محاصرة والصراع بيننا في الجناح الجمهوري كان شديدا. وكانت تمارس ضغوط على حركة القوميين العرب، وقد أثرّ انقلاب 5 تشرين الثاني (نوفمبر) (بزعامة القاضي عبد الرحمن الإرياني) سلبا على مشروع الوحدة وأعاقها.

عندما كنا في السجن عام 1969 حدث استيلاء على السلطة من طرف الحركة التصحيحية في الجنوب وأقصي قحطان الشعبي. كنا في السجن أنا وعبدالله الخامري وعبدالعزيز عبدالولي. مع نجاح الحركة التصحيحية، أطلق سراح الخامري والولي بضغط وبطلب من المنتصرين الذين اتصلوا بحكومة صنعاء وطالبوا بالإفراج عنهما. ليست لدي تفاصيل كشاهد مباشر على هذه العملية. ما أعرفه أن انقساما وقع بين اليمين واليسار في الجبهة القومية، وكان فرع الحركة الشمالي أو الحزب الديمقراطي الثوري قد شجب يمين الجبهة القومية وأيد اليسار ووقف إلى جانبه.

اغتيال فيصل الشعبي 

أصيبت الحركة السياسية في اليمن بخسارة سياسية كبيرة جراء اغتيال فيصل عبد اللطيف الشعبي (اختير سالم ربيع علي رئيسا من بعد)، كان قائدا فذا ومؤسسا عظيما، ولكن الصراع الذي دار في حينه على السلطة ترتبت عنه خسائر كبيرة. هذه الأعمال انتقدت فيما بعد، لكن القضية لا تنحصر فيما سمي بالعمل الفردي وإنما في المنهج، طالما أنه لم تكن توجد إمكانية لتداول السلطة داخل التنظيم ومع الآخرين سلميا.

ننظر إلى هذا الصراع اليوم ونشجبه ولكن لا بد أن نراه بظروفه وزمنه. من المؤسف أن كل زعيم كان  يأتي يمسح أثر الذي قبله في الجنوب والشمال على حد سواء. وإذا أردت أن تأخذني إلى ما هو أوسع أقول لك؛ إن هذه ظاهرة يمنية سيئة وسلبية جدا، وقد أثرت على تطور اليمن الثقافي والسياسي والاجتماعي؛ لأنها لم تسمح بترابط وتراكم في المعارف والخبرات والثقافات منذ التاريخ القديم وحتى الآن. علي عبد الله صالح مسح أثر الحمدي مسحا كاملا ولم يسمح بذكر الحمدي في وسائل الإعلام. حجر الأساس الذي وضعه الحمدي مسحه صالح بالكامل، وهو أن اعترف بالأرياني والسلال؛ فلأنهما كانا على حافة القبر وهو يعرف أنهما لا يشكلان خطرا عليه. وكان السلال قانعا بأي شيء؛ لأن مصر كانت تطلب منه الرحيل (كان لاجئا في القاهرة منذ انقلاب 5 تشرين الثاني / نوفمبر 1967) وعودته إلى اليمن كانت مبادرة طيبة لكنها رمزية. 

 

البدر كان يشبه محمد علي باشا في مصر. هذا الرجل هو الذي فتح أبواب اليمن على العالم وهو الذي مد جسورا ـ عندما كان وليا للعهد ـ بين اليمن ومصر وروسيا، وأسس الموانئ ومنها ميناء الحديدة، وهو الذي أسهم في الإنفاق على طريق صنعاء ـ الحديدة وفتح العديد من المدارس، وعمل على تخفيف وطأة القمع الذي مارسه أبوه على الأحرار

 



المقياس في سلوك علي عبدالله صالح في طريقة التعاطي مع إرث الحمدي وليس السلال والإرياني. وإن أراد النظام الحالي برئاسة علي عبدالله صالح أن يكون منصفا، يمكنه أن يقول إن الإمام البدر كان إماما إصلاحيا. سجل عن لساني أن البدر كان يشبه محمد علي باشا في مصر. هذا الرجل هو الذي فتح أبواب اليمن على العالم، وهو الذي مد جسورا ـ عندما كان وليا للعهد ـ بين اليمن ومصر وروسيا، وأسس الموانئ ومنها ميناء الحديدة، وهو الذي أسهم في الإنفاق على طريق صنعاء ـ الحديدة وفتح العديد من المدارس، وعمل على تخفيف وطأة القمع الذي مارسه أبوه على الأحرار. ولكن إذا سألت أيّا من الأحرار المعارضين الآن ما هي مؤاخذاتكم على البدر؟ يقولون؛ إنه كان ضعيفا بمعنى أنه لم يكن قادرا على قطع الرؤوس ولم يكن مستبدا كأبيه. كان إماما متحضرا ومعاصرا، ولو تركت له فرصة لربما كان سيخطو في هذا البلد خطوة إلى الأمام. آمل أن يأتي يوم ينصف فيه ويعترف بأهمية هذا الرجل. 

ما الذي كان يمنع من التعاون مع البدر كما تم التعاون مع الأمير اللاوثي اليساري من طرف الباتيت لاو في لاوس؟ أمراء لاووس الثلاثة توزعوا على اليمين واليسار والوسط (المقصود هم الأمراء بوناوم وسوفانا فوما وسوفانا فونغ في مملكة لاوس خلال الحرب الأهلية بين عام 1959 و1975). وجاء الثوار ووضعوا الأمير اليساري في الطليعة على رأسهم. ما الذي كان يمنع الثوار في اليمن من الوقوف ضد الأمير الحسن ودعم الإمام البدر. الأستاذ أحمد محمد النعمان كان يفكر هكذا وكان على حق.

سالمين 

كنت في العام 1973 في عدن وكان سالمين أول من دعاني إلى مكتبه واستقبلني. كنت قد رأيته في صنعاء قبل يوم من دخولي إلى السجن. تغدينا مع بعض عام 1968 حين كان هاربا إلى الشمال. في هذا اللقاء، طلبنا منه ومن رفاقه أن يغادروا صنعاء لأن الجو كان غير طبيعي في المدينة، وبالفعل وقعت أحداث آب/ أغسطس في اليوم التالي. نحن دخلنا إلى السجن وهم هربوا إلى تعز وحاولوا ملاحقتهم، لكن سالمين ومطيع هربا واعتقل عبدالله الخامري وعبد العزيز عبد الولي. عندما استقبلني سالمين في عدن كان رئيسا للدولة.

هو رجل دينامكي متابع وسريع البديهة وجريء وقادر على اتخاذ القرار، ولا أستطيع أن أقول إنه قبلي. كان وطنيا ومقاتلا وسياسيا في الوقت نفسه. يؤخذ عليه أنه كان ذا نزعة فردية، وهو كان ماوي الميول، وإن خفف ماويته من بعد. لم يكن مثقفا مع أنه كان يقرأ كثيرا. كان موقفه من المثقفين سلبيا ويعتقد أنهم كسالى وثرثارون وغير عمليين. وكان يميل إلى اتخاذ القرارات بسرعة، وأكاد أن أقول القرارات الفردية. هذه النزعة كانت تقابل بهتافات وتصفيق من الناس الذين يحبونه. كانوا يهتفون: سالمين نحن أشبالك وأفكارك مصباحنا. كنت أؤيد انتفاضاته الشعبية في تلك الأيام، وكنت في أعماقي أميل إليه أكثر من عبد الفتاح إسماعيل. أعتقد أنه ذو نزعة محلية متناسبة مع تطلعاتنا وأحلامنا وعمرنا السياسي والزمني.

كنا نريد أن نحرق المراحل ونحقق إنجازات سريعة وأن يسود العدل بسرعة. كان سالمين يجسد هذا الميل ويحقق طموحنا، وكان عندما نقابله واضحا سريع البديهة وشعبيا إلى أقصى الحدود. كنت أقابله في مكتبه، وكان يصطحبني بسيارته من بعد ويقودها بنفسه إلى المكان الذي أسكن فيه في خور مكسر. هكذا كان يفعل مع كل الناس. كان متواضعا وصاحب قرار ويتعاطف معنا نحن الشماليين ويتوق لتوحيد اليمن، وكنا نطمح أن يكون رئيسا لليمن الموحد.

 

كنا نريد أن نحرق المراحل ونحقق إنجازات سريعة وأن يسود العدل بسرعة. كان سالمين يجسد هذا الميل ويحقق طموحنا، وكان عندما نقابله واضحا سريع البديهة وشعبيا إلى أقصى الحدود.

 



كنا في حينه حزبان ولم يكن لدينا قيادة واحدة. نحن نزلنا إلى الجنوب وأسسنا الجهة الوطنية من ستة أحزاب، هي: البعث والحزب الديمقراطي والطليعة وحزب العمل، وكان الخط السياسي للجبهة القومية مستقلا، ولكن بعد مقتل الحمدي بدأنا نناقش توحيد كل الحركة السياسية، وهي كانت أصلا موحدة قبل انقساماتها. جاء ذلك بسبب تطور أوضاع الشمال ووحدة الفصائل في الجنوب وبسبب التحول نحو اليسار؛ لأنه كان قد اتفق أن يستقيل سالمين وهو استقال جراء الصراع على السلطة، وتقرر أن يذهب إلى إثيوبيا وجهز نفسه للسفر، لكن أحد حراسه رفض الخضوع وأطلق النار على المكان الذي كان يجلس فيه عبدالفتاح إسماعيل وعلي ناصر محمد في حي التواهي، فرد حراس علي ناصر وعبدالفتاح على النار بالمثل واشتعلت المعركة، وأدى ذلك إلى ما أدى إليه، وهذا معروف عند الناس كلهم.

نعم، لو خرج سالمين إلى إثيوبيا كان الجميع سيطالب بعودته لأنه يتمتع بتأييد شعبي. ولكن أريد  الاستنتاج بالقول؛ إن الوضع الأفضل كان يقضي بأن يستمر عبد الفتاح بأفكاره التنويرية والفلسفية ومنهجه و"تنظيراته"، وأن يستمر علي ناصر بقدرته على الإدارة وتوظيف الكفاءات وسالمين بشخصيته الكاريزمية والقيادية. كان هذا الثلاثي مناسبا يومها للحكم والمرحلة. لم أكن أتمنى الانشقاق بين أطراف الحكم في الجنوب. لم يكن حزبنا مؤيدا للخلاف بين سالمين وعبد الفتاح. 

حكم المنتصرون على سالمين بالإعدام وأخبرني من بعد صالح مصلح أنه كان مستعدا لتحمل المسؤولية كاملة نيابة عنه، وقال لهم بأنه يتحمل المسؤولية في موضوع الغشمي وإرسال المبعوث الفدائي أيضا، لأن هذه هي القضية التي أثيرت ضد سالمين. رفض خصومه هذا العرض واعتبروا سالمين مسؤولا عن إخراج اليمن من الجامعة العربية والإساءة لعلاقات اليمن العربية (تدخلت الجامعة العربية في حينه وجمدت عضوية اليمن الجنوبي؛ جراء مقتل الغشمي بحقيبة دبلوماسية مفخخة حملها مبعوث يمني فدائي من عدن، بتكليف من الرئيس سالم ربيع علي المعروف بسالمين).

 

اقرأ أيضا: القائد الاشتراكي اليمني الذي كان سيطلق سراح قاتله لو بقي حيا

 

اقرأ أيضا: جار الله عمر: عقلانية المعتزلة مهدت طريقي إلى الماركسية

 

اقرأ أيضا: جار الله عمر: هكذا تم إنقاذ الجمهورية في اليمن من السقوط

 

اقرأ أيضا: جار الله عمر: شاهدت قرار اغتيال الغشمي بأم العين








التعليقات (0)