قضايا وآراء

لماذا تغيب العدالة الجنائية الدولية عن ملاحقة قادة الاحتلال الإسرائيلي؟

محمود الحنفي
1300x600
1300x600
بعد قرار الغرفة التمهيدية في محكمة الجنائية الدولية امتداد الولاية القانونية على الأراضي الفلسطينية المحتلة، بات يطرح سؤال كبير: لماذا تغيب العدالة الجنائية الدولية عن ملاحقة قادة الاحتلال الإسرائيلي، وما هي مسؤولية الجانب الرسمي الفلسطيني بهذا الخصوص؟

نحاول في هذا المقال الإجابة عن هذا التساؤل.

* * *

مما لا شك فيه، أن أي نظام قانوني - كي يكون فاعلاً - إنما يحتاج إلى وجود جهاز قضائي مستقل ودائم يعمل على تأكيد احترام هذه الأحكام ويحدد مسؤولية كل من يخرج عنها. هذا ما افتقده المجتمع الدولي لفترة طويلة من الزمن، حيث لم يوجَد خلالها جهاز قضائي ذو مستوى فعّال لتطبيق قواعد القانون الدولي بصفة عامة وقواعد القانون الدولي الإنساني بصفة خاصة، ولا سيما ما يتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة؛ نظام قانوني يستند إلى ضمانات دولية حقيقية وفاعلة وذات صدقية تدعمه.

هناك اختلاف بين وجود القانون وطبيعته الملزمة أو غير الملزمة أو القطعية من جهة، وتنفيذه واحترام الالتزامات المستمدة منه من جهة أخرى. فالقانون الدولي الإنساني يعاني من النقص نفسه الذي يعاني منه القانون الدولي عموماً، الافتقار إلى آلية التنفيذ. في حال القانون الدولي الإنساني، يبدو هذا النقص بنحو أكثر وضوحاً وحدّة، حيثُ يعنى هذا الفرع من القانون بحماية الشخص الإنساني في أكثر الأوقات صعوبة، أي في النزاعات المسلحة، سواء كانت دولية أم داخلية.

ولعل ما تشهده الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 من تطورات خطيرة، وانتهاكات لحقوق الإنسان، يؤكد بوضوح مدى حاجتنا إلى معرفة قواعد القانون الدولي الإنساني على المستوى الرسمي العربي والفلسطيني، وعلى المستوى الثقافي الشعبي. إن أي معرفة تتعلق بالحقوق الواردة في القانون الدولي الإنساني، بما فيها حق الشعوب في مقاومة الاحتلال، يعني بالتأكيد الاستفادة في المعركة الواسعة مع الاحتلال، بما فيها المعركة القانونية. إن الاطلاع على التكييف القانوني للظروف التي تمرّ بها الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 ليس أمراً سهلاً، ففي ذلك يتداخل السياسي مع القانوني بشكل كبير.
ثمة تقصير كبير من قبل المسؤولين الفلسطينيين، جعل المجتمع الدولي ينظر باستضعاف إلى الشعب الفلسطيني واستخفاف بمطالبه. إن القضية الفلسطينية قضية قانونية دولية بامتياز، إن هذا التقصير مثله مثل من يضع قضية ناجحة في يد محامٍ فاشل

ثمة تقصير كبير من قبل المسؤولين الفلسطينيين، جعل المجتمع الدولي ينظر باستضعاف إلى الشعب الفلسطيني واستخفاف بمطالبه. إن القضية الفلسطينية قضية قانونية دولية بامتياز، إن هذا التقصير مثله مثل من يضع قضية ناجحة في يد محام فاشل. ثمة استخفاف فلسطيني رسمي متواصل بالجوانب القانونية للقضية الفلسطينية، لعل أشهر حلقاته ظهرت حين أبرمت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية دولية عام 1993 مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، من دون وجود قانوني دولي واحد في الوفد الذي قاد المفاوضات في الجانب الفلسطيني، فيما كان الوفد الإسرائيلي يضم فريقاً من أشهر المحامين الدوليين.

انظروا مثلا إلى رسائل التبادل بين الرئيس ياسر عرفات وإسحاق رابين..

رسالة الرئيس ياسر عرفات المطولة (9 أيلول/ سبتمبر 1993):

"تعترف منظمة التحرير الفلسطينية بحق دولة إسرائيل في الوجود بسلام وأمن. وتقبل المنظمة قراري مجلس الأمن 242 و338. وتشجب منظمة التحرير استخدام الإرهاب وأعمال العنف الأخرى. وتتحمل تبعة كل عناصر المنظمة والعاملين فيها من أجل ضمان امتثالهم ومنع العنف وضبط المخالفين..".

أما رسالة رابين الجوابية المقتضبة في التاريخ ذاته فتنص على ما يلي:

"جوابا على رسالتكم في 9/9/1993، أود أن أؤكد لكم، في ضوء الالتزامات التي وردت في رسالتكم، أن حكومة إسرائيل قررت أن تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً الشعب الفلسطينيين وأن تبدأ المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط" (1).

إن رسالة الرئيس ياسر عرفات تضمنت الاعتراف بإسرائيل مع تعهّد في أن تعيش بسلام وأمن، وهذا أمر لم يكن مطلوباً أصلاً وفقاً للقانون الدولي. وقد أصبح التزاماً على عاتق الجانب الفلسطيني الذي تعهد أيضاً بعدم القيام بأي عمل من أعمال العنف، أي كان شكله، وتحمل مسؤولية ذلك، وهذه المسؤولية مستمرة حتى يومنا هذا ومثاله الصارخ هو استمرار التنسيق الأمني.

كما تضمن التزاما كاملا بالقرارين 242 و338، علما أن الجمعية العامة للأمم المتحدة شرّعت الكفاح المسلّح من أجل تحقيق تقرير المصير.

واضح أن الرسالة الفلسطينية فرطت بمكتسبات هامة وفّرها القانون الدولي، وأنها كانت رسالة سياسية ارتجالية غير مدروسة البتة.

أما رسالة رابين الجوابية فقد كانت قانونية مدروسة للغاية، كل كلمة فيها أعدت بعناية بالغة، حيث حصرت اعتراف إسرائيل بمنظمة التحرير الفلسطينية بالمفاوضات فقط وضمن عنوان عملية السلام في الشرق الأوسط، من دون أي التزام إسرائيلي ببنود القرارين 242 و338.

وواضح أيضا أن الرسالة الفلسطينية كانت استجابة للضغوط الأمريكية الإسرائيلية من أجل قمع الانتفاضة الفلسطينية. وقد دفعت هذه الضغوط أيضا الجانب الفلسطيني إلى حذف عبارة "الكفاح المسلح" التي كان يؤكدها الميثاق الوطني الفلسطيني.

وبعد إبرام اتفاقية أوسلو عام 1993، استمر الجانب الفلسطيني في تخبطه القانوني من دون الرجوع إلى أهل الخبرة في القانون الدولي، حتى إذا أراد الرئيس الراحل ياسر عرفات أن يعلن قيام الدولة الفلسطينية في ربيع عام 2000، كما كان مقررا له بموجب اتفاقية أوسلو، واجه تحديا عارما من الجانب الإسرائيلي، ليكتشف لاحقا أن ذلك الإعلان مرتبط بشروط قانونية في ملحقات الاتفاقية الدولية، يكاد يستحيل تحقيقها على أرض الواقع. فبدلا من أن يطالب بتفعيل المادة 22 من ميثاق الأمم المتحدة في الجمعية العامة، بعد كل اعتداء يقوم به الإسرائيليون، ليتمكن من محاكمة المسؤولين الإسرائيليين في محاكم دولية، يكتفي المسؤولون الفلسطينيون بتكرار طلبهم، السياسي لا القانوني، في مجلس الأمن ليُواجه بفيتو أمريكي في كل مرة، أو يحصل على مجرد تنديد من المجلس في أحسن أحواله من خلال بيان رئاسي أو ما شابه.
يكتفي المسؤولون الفلسطينيون بتكرار طلبهم، السياسي لا القانوني، في مجلس الأمن ليُواجه بفيتو أمريكي في كل مرة، أو يحصل على مجرد تنديد من المجلس في أحسن أحواله من خلال بيان رئاسي أو ما شابه

وبدلا من اللجوء إلى محكمة العدل الدولية من أجل استصدار فتوى بمشروعية الحصار الجائر على غزة، طبقا للمادة 65 من نظام محكمة العدل الدولية، على غرار الفتوى التي أصدرتها المحكمة بشأن الجدار العازل، ترفض قيادة منظمة التحرير الفلسطينية كل اقتراح بهذا الشأن.

وبدلا من متابعة فتوى محكمة العدل الدولية تجاه الجدار العازل، من أجل إرهاق الشركات الأوروبية والأجنبية التي تورطت في المشاركة في بناء الجدار العازل، مخالفة بذلك اتفاقية جنيف الرابعة 1949، التي وقّعتها حكومات دولها وإجبارها على دفع تعويضات للمتضررين، لا يحرك المسؤولون الفلسطينيون ساكنا بشأن هذا الأمر.

وبدلا من أن تستغل قيادة منظمة التحرير علاقاتها الطيبة مع بعض الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة إسرائيل على انتهاكاتها القانونية الفاضحة، ترفض تفويض حكومات أخرى لأجل القيام بذلك، وكأن الأمر لا يعنيها.

في 2 كانون الثاني/ يناير 2015، انضمت فلسطين كدولة عضو بموجبه اختصاص المحكمة الجنائية الدولية بموجب المادة 12 (3) من نظام روما الأساسي للمحكمة، وفي 16 كانون الثاني/ يناير 2015، باشر مكتب المدَّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية من تلقاء نفسه، دراسة أولية للحالة في فلسطين لا تزال تُجرى حتى الآن.

وبدلا من تشكيل هيئة وطنية قانونية يرأسها قانوني مستقل ومحايد ويمنح صلاحيات واسعة في ملفه وتوفر له كل الإمكانات المالية والبشرية، أصدر رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مرسوما رئاسيا بتشكيل اللجنة الوطنية العليا المسؤولة عن المتابعة مع المحكمة الجنائية الدولية يرأسها المفاوض الفلسطيني الراحل الدكتور صائب عريقات، حيث لم يسجل أن هذه اللجنة قامت بدور فاعل ومثمر.

وبدلا من أن يطالب المسؤولون الفلسطينيون مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتكوين لجنة مستقلة تدرس آثار كل انتهاك قانوني دولي تقوم به إسرائيل، لتحديد المسؤولية القانونية الدولية، ومن ثم طلب إحالة ذلك على المحكمة الجنائية الدولية، يقف محامي القضية عند أعتاب المنظمة الدولية، مكتفيا بتنميق الخطابات السياسية.

وفيما كان ينبغي لقيادة منظمة التحرير الفلسطينية أن تستثمر تقرير بعثة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق بشأن الحرب على غزة، المعروف اختصارا باسم "تقرير غولدستون"، من أجل إحالة نتائج التقرير الذي اعترف بارتكاب إسرائيل جرائم حرب إبان حربها على غزة، تصرف قيادة منظمة التحرير الفلسطينية نظرها إلى الجهة الأخرى، وكأن الخيار الجنائي غير مطروح أصلا.

وبدلا من مقاضاة المجرمين الإسرائيليين تحت مبدأ الاختصاص العالمي (المادة 146 من اتفاقية جنيف الرابعة)، من طريق تحريك مكاتب محاماة في الدول الأوروبية، لكون ممارسات دولة الاحتلال تعتبر خرقا جسيما لاتفاقية جنيف الرابعة 1949، يراوح القائمون على قيادة الشعب الفلسطيني مكانهم، مكتفين بفقاعات إعلامية لا تسمن ولا تغني من جوع.
الأحداث التي تمرّ بها فلسطين عموماً إنما هي أحداث سياسية في الأساس يتداخل فيها التاريخ مع الجغرافيا والدين مع السياسة، والمحلي بالإقليمي بالدولي. ويجب ألّا يخفى أيضا أن الصراع العربي الفلسطيني إنما هو صراع دولي بكل معنى الكلمة، أدواته متنوعة

مع بدء عملية المفاوضات السياسية مع الاحتلال، أصبح الأمر مثيرا للسخرية حقا حين أصبح تعنت الاحتلال أكثر وأشد: لا لحلّ الدولتين، لا لإيقاف الاستيطان، لا لهدم الجدار العازل، لا للمبادرة العربية، لا لعودة اللاجئين، لا لفكّ الحصار عن غزة، لا لإنهاء احتلال القدس والضفة الغربية، لا للاعتراف بنتائج الانتخابات الفلسطينية. ومع هذا التعنت الإسرائيلي، تتمسك قيادة منظمة التحرير بالمفاوضات حلا وحيدا، وترفض خيار المقاومة بل وتعتبر ذلك إرهاب تجب مواجهته (التزاما باتفاق أوسلو وملحقاته الأمنية).

يجب ألاّ يخفى على أي باحث أن الأحداث التي تمرّ بها فلسطين عموما إنما هي أحداث سياسية في الأساس يتداخل فيها التاريخ مع الجغرافيا والدين مع السياسة، والمحلي بالإقليمي بالدولي. ويجب ألّا يخفى أيضا أن الصراع العربي الفلسطيني إنما هو صراع دولي بكل معنى الكلمة، أدواته متنوعة بين عسكرية واقتصادية وإعلامية وثقافية واجتماعية.. كل هذه القضايا تشكل المكوّن الرئيسي للقضية الفلسطينية. وأمام هذه المعطيات الهائلة، يصبح الجهد القانوني مسألة معقدة إن لم تؤخذ هذه المعطيات في الاعتبار، وتصبح الأدوات القانونية عاجزة عن تلبية ما يبحث عنه الشعب الفلسطيني منذ عقود طويلة. إنّ لكل معركة رجالا، ولكل ميدان أدوات، وأي استخدام خاطئ إنما يضرّ بالقضية الفلسطينية. إن الباحث القانوني عندما يبحث في القضية الفلسطينية يجب أن يضع كافة هذه المعطيات على طاولة النقاش والبحث، وأي إغفال لها يجعل الجهد القانوني عبارة عن أمنيات وأحلام، وخصوصا إذا تعلق الأمر بالقضية الفلسطينية، فكيف إن كان الجهد القانوني الرسمي متعثراً أساسا.

إن تحرير القرار السياسي الفلسطيني من القيود والضغوطات والتصرف بمهنية وجدية في المعركة القانونية، واستثمار الطاقات الفلسطينية الهائلة من خلال إشراكهم في القرار القانوني هو الذي يجعل العدالة الدولية الجنائية ممكنة جدا. غير ذلك، فنحن أشبه بمن يحمل سيفا من خشب وينزل إلى ساحة الميدان.
___________
(1) راجع الرسالتين بالعربية في: مجلة دراسات فلسطينية – خريف 1993 وشتاء 1994.
التعليقات (0)