هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
دعا شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب مؤخرا إلى عدم إطلاق مصطلح أهل الذمة على مسيحيي اليوم، لأنه لم يعد يتناسب مع أوضاعنا الحالية، ولا بد من استبداله بالمواطنة التي تكفل الحقوق والواجبات للجميع بشكل متساوٍ.
واعتبر الطيب بحسب جريدة الأزهر الناطقة باسمه أن مفهوم أهل الذمة مثله مثل الجزية "كان لهما سياق تارخي وانتهى"، ذاكرا أن النبي عليه الصلاة والسلام وضع أول دستور نفاخر به العالم عندما قامت دولة الإسلام في المدينة المنورة على مبدأ المواطنة، ونص فيه على أن سكان المدينة أمة واحدة..".
دعوة شيخ الأزهر لاقت قبولا واستحسانا في أوساط من يلحون على تجديد الخطاب الديني، بوصفها تفتح المجال واسعا لإعادة النظر في جملة الأحكام والمفاهيم الشرعية المرتبطة بسياقات تاريخية معينة، وهو ما يثير تساؤلات حول مدى اتساع دائرة الاجتهاد الإسلامي لمثل هذه الأطروحات أو أنها تضيق بها متشبثة بما قرره الأئمة السابقون؟.
ووفقا للأكاديمي والباحث المغربي في الفكر الإسلامي، الدكتور حفيظ هاروس فإن "أهم ما يثار حول هذه القضية إشكالية هل (غير المسلمين) في بلاد المسلمين هم أهل ذمة أم مواطنون، وكذلك مشكلة أداء الجزية".
وأضاف: "ترتبط إثارة هذه الإشكالات التي لا أثر لها في الواقع بفئتين من الناس التي تتبين القصد الحقيقي لأحكام الإسلام المتعلقة بـ"غير المسلمين" فهناك من جهة أطراف تعادي الإسلام وتسعى إلى تشويه صورته من خلال اعتبار أحكام الإسلام المتعلقة بهذه الفئة من الناس قائمة على التمييز والاحتقار".
وواصل حديثه لـ"عربي21" بالقول: "ومن جهة أخرى هناك بعض الحَرفيين من الدعاة ممن يتشبث بحَرفية الأحكام الفقهية التقليدية، ويسعى إلى إحيائها من خلال الحديث عن ضرورة تفعيل أحكام الشريعة بما فيها الأحكام المتعلقة بأهل الذمة المقررة في كتب الفقه التاريخية".
ولفت هاروس إلى أن "الحقيقة الغائبة عن الطرفين هي أن عقد الذمة وما ارتبط به من أحكام في كتب الفقه عقد تاريخي وقانوني ذو وجهين: أحدهما سياسي يتمثل في توفير الحماية السياسية والاقتصادية والاجتماعية لغير المسلمين من طرف الدولة مقابل أداء مقدار من المال، وذلك ضد أي اعتداء ينالهم، أو هشاشة اجتماعية يمكن أن تلحق بهم، لهذا شددت النصوص الشرعية الوعيد على الاعتداء عليهم".
وأردف: "كما وفرت الدولة لهم الحماية الاجتماعية عند العجز كما هو صنيع عمر مع اليهودي الضرير عندما قال قولته المشهورة: "والله ما أنصفناه إن إكلنا شبيبته ثم نخذله عند الهرم"، ولم تكن أبداء جزاء إقرار غير المسلمين على حريتهم الدينية كما يُفهم من بعض التوجيهات الفقهية لهذه المسألة، ولعل الدليل على ذلك هو إقرار الرسول ليهود المدينة على دينهم ابتداء دون جزية".
أما الوجه الثاني بحسب هاروس "فيتمثل في أن غاية الفقه الإسلامي في معالجته لقضايا هذا العقد كانت تحكمه الرغبة في دعوة "غير المسلمين" إلى الإسلام، وتيسير دخولهم إليه، ولم يكن مراده الأصلي إذلال "غير المسلمين، كما انتهت إليه بعض الصور التطبيقية الغريبة لهذا المبدأ، والدليل على ذلك هو توسيع الفقهاء، وخصوصا المالكية والأحناف لهذا العقد ليشمل غالبية غير المسلمين ـ وليس أهل الكتاب فقط ـ رجاء دخولهم في الإسلام".
وخلص هاروس إلى القول: "بما أن الظروف والسياقات التي ارتبطت بوجود هذا العقد لم يعد لها أثر في الواقع مع التطورات الهائلة التي شهدها الاجتماع السياسي الحديث" معتبرا أنه "لم يعد من الحكمة التشبث بالمصطلح، ويمكن الاستعاضة عنه بغيره مثل عقد المواطنة، خصوصا وأن تصرفات السلف تدل على جواز التخلي عنه واستبداله بما تتحقق به المصالح وتندفع به المفاسد".
من جهته رأى أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، الدكتور محمد السعيدي أن "الإشكالية ليست في مصطلح أهل الذمة ولا في مصطلح المواطنة، لكن المشكلة تكمن في فهم كلا المصطلحين على وجه صحيح".
وتابع: "حين نتأمل في مصطلح المواطنة نجده لا يُعطي حامله أي التزام لا منه ولا من الدولة ولا من الناس، لأنه تحصيل حاصل، فكل إنسان يقيم في بلده فهو مواطن، سواء أخذ حقا له أم لم يأخذه وسواء التزم بواجباته أم لم يلتزم، فمصطلح المواطنة لا يتضمن أي معنى حقوقي".
وأردف في حديثه لـ"عربي21": "ولذلك تتنازع النُخب في كثير من البلدان في إعطاء الحقوق لبعض مكونات الشعب مع الاتفاق على وصفهم بالمواطنين، وهذا هو سبب جميع الأفكار العنصرية في مختلف دول العالم، لا سيما الولايات المتحدة والدول الغربية، وعليه فمصطلح المواطنة ليس بعاصم من الانتهاك الحقوقي لأنه كما قدمنا لا يحمل أي معنى حقوقي" على حد قوله.
أما بخصوص مصطلح "أهل الذمة" فهو بحسب السعيدي "له معنى حقوقي في اللغة والاصطلاح به يصير الإنسان أهلا لوجوب الحق له ووجوب الحق عليه، وأهل الذمة هم أهل الحقوق التي تلتزم به الدولة، ويلتزم بها الشعب وهي مفروضة من قبل الله تعالى، فأهل الذمة بذلك هم أهل حق خاص من الله ومن المؤمنين".
وقال السعيدي: "لكل ذلك فإن جعل مصطلح المواطنة بديلا لمصطلح أهل الذمة ـ فيما يظهر لي والله أعلم ـ هو من استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولذلك لا يصح أن يكون محلا للاجتهاد، لأن الاجتهاد يرتقي بالجانب التشريعي ولا يهوي به".
وأضاف "أما الذي يمكن الاجتهاد فيه فكثير من أحكام أهل الذمة التي دليلها العرف، أو يُمكن تنزيل أدلتها على اختلاف أحوال الزمان والمكان، ومن أمثلتها تمييز أهل الذمة بلباس خاص، وكذلك الجزية إذا رأت الدولة إشراك أهل الذمة في الجهاز الأمني والعسكري فإن الجزية لا تؤخذ منهم، وهذا مقتضى المواثيق التي أخذها الخلفاء الأربعة على النصارى كعهد خالد بن الوليد لنصارى الحيرة، حيث نص العقد على أننا إن لم نحميكم فلا جزية عليكم".
وفي قراءته لمعنى ودلالات مصطلح أهل الذمة رأى الكاتب والباحث المغربي المختص في الدراسات القرآنية وقضايا الفكر، الدكتور مولاي أحمد صابر أن تطبيقات موضوع أهل الذمة متصل بسياقات تاريخية وظرفية، وبمحيط سياسي اقتضى شروطا معينة ترتبط بحكام معينيين، وبخلفية سياسية معينة، فهو يرتبط بذلك الزمن الذي تشكل وتبلور فيه هذا المصطلح".
وأضاف "أما اليوم فلم يعد هذا المصطلح ينسجم مع المحيط الذي نعيش فيه ومع السياق السياسي سواء منه المحلي أو الدولي، وبالتالي لم تعد له قيمة معينة تبعا لما عليه الإنسانية اليوم من وعي علمي ومعرفي في مختلف الميادين وسائر المجالات".
وأردف في حواره مع "عربي21": "وبناء على ذلك كله فإنه لا فائدة من جر هذا المصطلح إلى محيطنا الذي نعيش فيه اليوم، وإسقاطه على فئة مجتمعية تتدين بغير دين آخر ربما المسيحية أو اليهودية أو غيرها م الديانات".
ولفت الباحث المغربي إلى أن مصطلحي أهل الذمة والجزية يتصلان بالتشريع الإسلامي الفقهي بحسب فهم أئمة الفقه والتفسير، وهي اصطلاحات تتسع للمراجعة، وهي بالفعل بحاجة للمراجعة، وهي لا تنسجم مع روح عصرنا، وروح الحضارة المعاصرة، على عكس مصطلح المواطنة فالوطن للجميع، أما الديانات فهي مختلفة ومتنوعة".
ونبه صابر إلى أن مجموعة الاجتهادات الفقهية التي صاغها الفقهاء وفق فهمهم واجتهاداتهم، ليست قطعية وهي تقبل المراجعة، حتى ما يتعلق بأفهام المفسرين واجتهاداتهم في فهم النص القرىني فهو يقبل المراجعة كذلك".
وأكدّ أن "اجتهاد الأئمة السابقين له احترامه وتقديره في سياقاته التاريخية وظروفه الزمانية، أما نحن فيجب أن تكون لها اجتهاداتنا وتأويلاتنا المنسجمة مع روح زماننا، ومعطيات الحضاره الراهنة".
بدوره أوضح الداعية المصري والباحث الأزهري، الدكتور أحمد الدمنهوري أن "العبرة بالمسميات لا بالأسماء" لافتا إلى أنه "ليس في مصطلح أهل الذمة ما يشين لا في الواقع ولا في التاريخ، لكنه حُمل بدلالات تاريخية معينة حتى صار الأخوة المسيحيين يأنفون منه، فكلمة أهل الذمة تعني: الداخلون في ذمة الله ورسوله".
وأضاف: "فالكلمة تخاطب في المسلم دينه وإيمانه لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتذكره أن يراعي الله في التعامل مع إخوانه هؤلاء، ومن المعروف أننا لا نتعبد بالمصطلحات إلا إذا كانت شرعية توقيفية أو كان في تغييرها ضررا أو هدما لقاعدة من قواعد الدين، وهذا المصطلح لم يرد في كتاب الله ولا سنة رسوله، وإنما استخدمه الفقهاء للتعبير عن رعايا الدولة الإسلامية من غير المسلمين".
وأكدّ في حواره مع "عربي21" أن "هذا المصطلح محمل بكل معاني الاحترام والمحبة فلا يعاب إطلاقه ولا يعاب من أطلقه، وبناء على ذلك فمصطلح أهل الذمة إن كان الأخوة يأنفون منه فلا مشكلة في تسميتهم بما يحبون، وقد أنف بني تغلب من تسمية الجزية بهذا الاسم وطلبوا من عمر أن يسميها صدقة فقبل عمر منهم ذلك بمحضر من الصحبة دون نكير من أحد منهم".
واستدل الدمنهوري بما رواه أبو عبيد القاسم بن سلام بسنده أن النعمان أو زرعة بن النعمان قال لعمر: يا أمير المؤمنين إن بني تغلب قوم عرب، يأنفون من الجزية وليست لهم أموال، إنما هم أصحاب حروب ومواشٍ، ولهم نكاية في العدو، ف تعن عدوك عليك بهم، قال: فصالحهم عمر بن الخطاب على أن أضعف عليهم الصدقة، واشترط عليهم أن لا ينُصّرُوا أولادهم".
وأنهى حديثه بالإجابة عن كون هذه الأحكام قطعية أم ليست كذلك بقوله: "التسمية ليست قطعية، بل هي اصطلاح والعبرة بالمعاني وليست بالألفاظ، أما ما انطوى عليه الاسم من المعنى فهو قطعي، فأهل الذمة سيبقون كذلك في ذمة الله ورسوله، علينا حمايتهم والدفاع عنهم كما نحمي وندافع عن أولادنا سواء سموا بهذا الاسم أو غيره".