قضايا وآراء

مخاطر الانتخابات "العصبوية".. من فلسطين إلى أمريكا

خلدون محمد
1300x600
1300x600

ذات يوم من عام 1992؛ جرت في إحدى قرى رام الله انتخابات لنادي القرية، ولطالما كانت تجري هذه الانتخابات بشكل سنوي منذ تأسيس النادي عام 1966، لكن بسبب بسبب انتفاضة 1987 تعطلت الانتخابات لمدة خمس سنوات، كما تعطّلت أمور أخرى آنذاك. وبسبب حالة التسييس العالية التي انتشرت في المجتمع الفلسطيني، وشملت كل الفئات، كان بالإمكان النظر إلى كل يوم من هذه السنوات الخمس، وكأنه يوم دعاية انتخابية من حشد وتعبئة وبيانات وكتابة على الجدران واستخدام المنابر، فضلا عن استثمار الرصيد النضالي من شهداء وجرحى وأسرى وبيوت مهدومة وحقول مجرّفة ومظاهرات ومسيرات وفعاليات.. الخ.

لذلك شهدت انتخابات نادي القرية درجة عالية من الاستقطاب السياسي؛ الأفقي والعمودي، لا سيما أن الساحة الفلسطينية آنذاك كانت على مفترق طرق: إما الاستمرار في المقاومة والانتفاضة التي كانت وتائرها وإبداعاتها في حالة من الدحرجة النوعية نحو مسار آخر، خاصة مع نهاية العام المذكور (1992)، والتي شهدت ظاهرة عمليات عماد عقل في غزة، وخطف الجندي توليدانو، والإبعاد إلى مرج الزهور، مع ظاهرة يحيى عياش.. وإما الذهاب نحو مسار الحل السلمي الذي بدأ في مدريد 1991، ثم تحوّل إلى مسار واشنطن.

انتهت تلك الانتخابات بفوز قائمة "حماس"، وكان ملاحظا أن "فتح" وهي المنافس الموضوعي هنا كالعادة، خسرت الانتخابات رغم أنها لم ترشّح رجالها المباشرين لعدم شعبيتهم، بل تسترت خلف أشخاص كانوا محسوبين في غالبيتهم بهذه الصورة المباشرة أو تلك على التيار الإسلامي، لكن الملاحظة المدهشة؛ والتي تحدث لأول مرة، هي تلك التي تمثلت في الشعور العميق بمرارة الهزيمة، والذي استمر لوقت غير قصير، وأخذ صفة غرائزية وكأنها خسارة عائلة أمام أخرى، رغم حالة التسييس العالية.

يمكن الحديث عن تشجنات أكثر حدة، شهدتها بعض الانتخابات النقابية في تلك المرحلة. ففي جامعة بيرزيت، التي جرت فيها أول انتخابات طلابية، أيضا بعد إغلاق دام ست سنوات في 1993 وفاز فيها التحالف الطلابي الذي تقوده الكتلة الإسلامية (حماس) وهو أول فوز لها في هذه الجامعة؛ كانت ردة فعل الطرف الخاسر (الشبيبة- فتح) هي حرق سيارة رئيس الجامعة وتكسير زجاج أبنية ومرافق الجامعة، ثم العمل بشكل موازٍ في أجسام غير رسمية من خارج مجلس الطلبة والعمل على المشاغبة والتشويش.

وعندما عقدت الانتخابات التشريعية الفلسطينية عام 2006 التي جاءت بعد عقدين من الاستقطاب والتنافس الشديد، كان رد فعل الخاسرين من ذلك النوع الغرائزي المثقل بالمرارة والإحباط والحزن المُعقد (لدرجة أن عددا من مناضلي حركة فتح في السجون مثلا، اعتكفوا في غرفهم لأسابيع عدة، لم يخرجوا فيها لساحة السجن ولم يمارسوا الحياة الطبيعية)، فضلا عن القيام بكل أعمال المشاغبة والاستفزاز، مثل اقتحام مقر المجلس التشريعي أو بعض الوزارات والمؤسسات العامة وإطلاق النار عليها كنوع من العربدة الشوارعية وإثبات الذات. وفي غزة أخذت أجهزة السلطة (الفتحاوية) بوضع الحواجز ونقاط التفتيش أمام رموز التيار الإسلامي الفائز، كما نفذت اغتيالات وجرائم عديدة آل تدحرجها المؤسف إلى ما حدث من انقسام في 2007، والذي ما زال يفعل فعله إلى الآن.

وقد تبنى التيار الخاسر (حركة فتح) سياسة الانشغال بالفائز والبرهنة على أنه فاشل، ولو تطلب ذلك التآمر عليه من خلال التواطؤ مع أعداء الشعب الفلسطيني، كما قامت هذه السياسة على خلق إطار موازٍ (الرئاسة) وصل به الحال أخيرا إلى حلّ المجلس التشريعي الذي لم يتمكن من العمل أصلا، ولم يمارس نشاطه المفترض، وذلك استكمالا للسياسة نفسها القائمة على سلب الفائزين فوزهم.

أي انتخابات تجري في المجتمعات التي تعاني من استقطاب حاد، تنتج في العادة "ميكانيزمات" ومتواليات من التشنّج والشروخ والمواجهات، وربما الوصول إلى حالة الاحتراب الأهلي، وهنا تتحول تلك الانتخابات من آلية لتنظيم اختيار القيادات والتداول السلمي على السلطة، إلى آلية لتفجير الاحتقانات وبعث الخلافات وتسميم المناخات

وبعد هذه التجربة المريرة، وحيث يُجمع الباحثون والعقلاء على أن الانقسام هو النتيجة التي أسفرت عنها انتخابات 2006، فإن من بؤس المقاربات الحالية وعورها في المحاولة التصالحية الأخيرة بين فتح وحماس هي العودة للحديث حول نقطة الانتخابات كمدخل للمصالحة وإنهاء حالة الانقسام، مع أن هذا النوع من الانتخابات في بيئات شديدة الاستقطابية لن يورّث إلا مزيدا من التمزق والفراق والشقاق!! وفي حال كانت هناك انتخابات فينبغي أن تسبقها خطوات وخطوات، لا أن تكون وصفة لانقسام جديد!!

إن أي انتخابات تجري في المجتمعات التي تعاني من استقطاب حاد، تنتج في العادة "ميكانيزمات" ومتواليات من التشنّج والشروخ والمواجهات، وربما الوصول إلى حالة الاحتراب الأهلي، وهنا تتحول تلك الانتخابات من آلية لتنظيم اختيار القيادات والتداول السلمي على السلطة، إلى آلية لتفجير الاحتقانات وبعث الخلافات وتسميم المناخات، وهي متوالية من الفعل ورد الفعل قد لا تهدأ إلا بعد مواجهة كبرى، قد تحرق معها الأخضر واليابس.

وقد يعتقد البعض أن هذه الحالة ربما تنطبق فقط على أحوال مجتمعات العالم الثالث التي استوردت "أدوات" الديمقراطية، التي لم تتواءم مع موروثات وتقاليد راسخة سابقة على الديمقراطية. غير أننا شهدنا شيئا من ذلك خلال الحملات الانتخابية الأمريكية في العقدين الأخيرين، لا سيما نسختها الأخيرة التي تنذر بضرب أسس العملية الديمقراطية والمؤسسات القائمة عليها. وهو نموذج يذكّرنا في جانب منه بصعود هتلر وحزبه النازي عن طريق ذات الآليات الديمقراطية.

ولقد شهدت الولايات المتحدة الأمريكية متواليات انتخابية "انقلابية". فعندما جاء بوش (الابن) بترسانته من "المحافظين الجدد" وبإدارته ذات السياسات الهوجاء والحروب "الصليبية" ضد العالم الإسلامي، وكان مجيئه محفوفا بالشكوك في فوزه الانتخابي، فقد ساهم في رأينا بأن يأتي نقيضه أوباما؛ ليس فقط بلون البشرة، وإنما أيضا في أسس البرنامج السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وربما كان ذلك سببا في فوز العنصري الأبيض ترامب في عام 2016، وذلك بسياساته الانعزالية والعدائية. والآن نقف أمام حالة من تلك الحالات شديدة الانقسام والاستقطابية التي نتوقع معها على الأقل، الاستمرار في تعميق الشروخ العميقة في صفوف الشعب الأمريكي ومكوناته العرقية والاجتماعية والسياسية، وهو مرشح ربما لانقسام الولايات على بعضها إذا ما تصاعد الموقف.

وقد مرّ العام الأخير بحوادث فارقة لها ما بعدها، ولن تستوقفنا هنا صورة ضابط الشرطة الأبيض وهو يخنق بركبته رقبة المواطن الأسود "فلويد" وما لحق بالحادث من حركة وتداعيات، بل في مستواه الأعلى: منظر نانسي بيلوسي (رئيسة مجلس النواب الأمريكي الديمقراطية) وهي تمزق نسخة من "خطاب الاتحاد" السنوي الذي ألقاه ترامب أمامها وأمام نواب الكونغرس، ردا على إهانته لها برفض مصافحتها بعد أن مدت يدها. كان المنظر شديد الدلالة، كانت وهي تمزّق أوراق الخطاب تعكس في الحقيقة تمزّق أمريكا، فيما كان المجلس منقسما بين مصفق لترامب وبين جالس غير متفاعل مع الخطاب.
لا يمكن استبعاد عدم تسليم ترامب بالخسارة، وفي حال اعتصم في البيت الأبيض فلربما ينعكس ذلك في الشارع أولا، ثم في المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية، وإذا بلغت الأمور هذا المبلغ، فإما أن تكون النتيجة حربا أهلية أو البحث عن تسوية، ولربما يكون الذهاب للأمام في إشعال حرب

اليوم يترقب العالم مآلات هذه الصراعات، والتي قد تجر خلفها حرائق خارج أمريكا، لأنه حسب نظرية السياسي النمساوي ميترنخ، والتي كانت محور أطروحة كيسنجر للدكتوراة، فإن السياسة الخارجية تحدوها أساسا السياسة الداخلية لدولة من الدول، ولذلك فإن خطورة الانتخابات الأمريكية ونتائجها وتفاعلاتها الداخلية، يمكن أن تنعكس على العالم، خاصة لدولة لها ذلك الاشتباك الكبير بأقاليم العالم وقاراته.

لا يمكن استبعاد عدم تسليم ترامب بالخسارة، وفي حال اعتصم في البيت الأبيض فلربما ينعكس ذلك في الشارع أولا، ثم في المؤسسات السياسية والأمنية والعسكرية، وإذا بلغت الأمور هذا المبلغ، فإما أن تكون النتيجة حربا أهلية أو البحث عن تسوية، ولربما يكون الذهاب للأمام في إشعال حرب مع أطراف معادية كالصين أو إيران أو روسيا، وإن حدث مثل ذلك، فهذا يرينا كم هي الانتخابات العصبوية مؤذية وعمياء.

وحتى لا نطيل، فإننا نرى أيضا، في الانتخابات الصهيونية التي ستنعقد للمرة الرابعة في ظرف عامين في آذار/ مارس القادم، هي من هذا النوع الخطر من الانتخابات العصبوية التي نلمس شرارتها الإقليمية في حركة الضرب والاغتيالات التي تسير على حافة الهاوية، من جهة، وبين محاولة تسجيل الإنجازات السياسية (الموافقة الأمريكية على ضم القدس والجولان والاقتراب من ضم مستوطنات الضفة، بالإضافة إلى الإتيان بدول العجز العربية إلى التطبيع والاعتراف.. الخ). كل ذلك في حالة من تلبية تفاعلات الداخل.. ما يعني أن الانتخابات العصبوية هنا، قد تؤدي في نهاية المطاف إلى دخول الكيان في حالة شديدة من الارتباك والفوضى.

التعليقات (0)