هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
تصدير: "الناس
يطالبون بحرية التعبير للتعويض عن حرية الفكر التي نادرا ما تُستخدم" (سورين كيركغارد)
رغم سعي الدستور التونسي الجديد (26 كانون الثاني/ يناير
2014) إلى توفير أفضل الضمانات لحرية التعبير، بما يتوافق مع القانون الدولي لحقوق
الإنسان، فإن غياب المحكمة الدستورية (أو تعمد تغييبها إلى هذا الوقت) قد جعل
تعامل المؤسسات القضائية مع الفصول الدستورية المتعلقة بالحقوق والحريات محل تنازع
وسجال عموميين.
فغياب المرجع النهائي في تأويل الدستور وفي ضبط علاقته
بالقوانين النافذة؛ أخضع قضايا الحقوق والحريات لموجّهات ترتبط بموازين القوى
السياسية وبالأيديولوجيا، وبالنفوذ الخارجي أحيانا. وهو ما أفقد طائفة كبيرة من
المواطنين الثقة في القضاء من جهة أولى، وفي التعاطي الإعلامي مع قضايا حرية
التعبير من جهة ثانية. فقد أثبتت العديد من القضايا أن هاتين "السلطتين"
تتعاملان مع حرية التعبير بسياسة المكيالين أو بازدواجية مشبوهة، ولا يمكن لأي عقل
مبدئي أن يتماهى مع ما يؤسسهما.
في المجال العام التونسي، تكفي الملاحظة العفوية لتصديق
ما أشار إليه عالم النفس المعروف ألفرد أدلر من أن الدفاع عن القيم أسهل من العيش
بها. فأغلب المتصارعين على إدارة الشأن العام والتصدر للناس محليا وجهويا ووطنيا؛
لا يختلفون في ادعاء "التحقق" بالقيم الجماعية وبالمبادئ الدستورية،
خاصة ما تعلق منها بحقوق الإنسان، بل هم لا يختلفون إلا قليلا في ادعاء احتكارهم
لتلك القيم ونفيها عن سواهم ممن "لا يشبهونهم" أو لا يصطفون خلفهم. وهي
ملاحظة لا تنحصر في ما يُسمّى بـ"العائلة الديمقراطية" أو "القوى
الحداثية"، بل تتجاوزهم لتصدق على ألدّ خصومها، أي حركة النهضة.
بين البذاءة والإبداع: حدود فنية أم سياسية؟
منذ أيام، أعادت الحملة الشرسة التي شنها الإعلام
والكثير من سدنة "النمط المجتمعي التونسي" على المسرحي والإعلامي لطفي
العبدلي؛ قضية حرية التعبير إلى واجهة السجال العمومي. فخطأ هذا المسرحي
"المشاكس" أو "خطيئته" أنه تحدث في عمله الأخير بأسلوب
"هزلي" عن الملابس الداخلية لوريثة التجمع المنحلّ وزعيمة الحزب
الاستئصالي المعروف قانونا باسم "الحزب الدستوري الحر". ورغم أنه لم
يسلم منه بعد الثورة أي فاعل جماعي، ورغم ذكره في العمل ذاته زعيم حركة النهضة
راشد الغنوشي ورئيس حزب قلب تونس نبيل القروي ورئيس الجمهورية، انحصر الهجوم الممنهج
عليه في امتهانه لـ"كرامة المرأة" واعتدائه بذلك على
"الأخلاق"، مما أخرج عمله من مجال الإبداع إلى مجال "الابتذال".
ونحن لا يعنينا في هذا المقال بيان تهافت هذا النقد
الجندري للعمل الإبداعي (فكأن كرامة الرجل بلا قيمة، أو كأن التأثير النفسي للتنمر
على الشخصيات العامة من الذكور هو أمر تافه، أو كأن مهاجمة النساء من المحجبات
مثلا لا يستحق إجراء المقاربة الجندرية ذاتها)، بل منتهى ما يعنينا هو فضح
ازدواجية المعايير وسياسة المكيالين واللامبدئية، التي تؤسس الطرح الإعلامي ومواقف
الكثير من "النخب" من القضية.
فأغلب الذين يهاجمون المسرحي لطفي العبدلي لا يهاجمون
موقفه من النساء (فقد هاجم المحجبات.. وأضحكهم)، ولا يهاجمون بذاءته (فقد دافعوا
عنها عندما كان ضحاياها ممن لا "يشبهونهم")، ولا يهاجمونه لأنه ابتعد عن
نقد الأفكار والأطروحات السياسية (فهم شركاء في الترذيل الممنهج للعديد من
السياسيين، وأشهرهم الرئيس الأسبق منصف المرزوقي بإشاعات لا علاقة لها بالفكر
أصلا)، ولا يهاجمونه أخيرا لأنهم يعترفون بضوابط أخلاقية أو دينية للعمل الإبداعي
(فقد دافعوا عن انتهاك المقدسات ومعارضة القرآن بسورتي"الكورونا"
و"الويسكي"، ودافعوا عن التعري الكامل على خشبة المسرح، ودافعوا قبل ذلك
كله عن الكلام/ المشهد الفاحش في الأعمال التلفزية والسينمائية).
عبير موسي أو آخر قلاع النواة الصلبة للمنظومة القديمة
وإذا لم يكن الهجوم على لطفي العبدلي مردودا إلى الأسباب
المذكورة أعلاه، فإننا سنتساءل عن سبب "عودة الروح" والأخلاق إلى أولئك
الذين لطالما أنكروا أن يكون الإبداع مشروطا بأية منظومة قيمية، أولئك الذين لم
يترددوا في الدفاع عن كل من انتهك المقدس الديني وكرامة كل الشخصيات العامة
المعارضة لهم.
إن الإجابة عن هذا السؤال تستدعي الحديث عن "المقدس
العلماني" (مثلما استدعى الحديث عن التكفير الديني الحديث عن "التكفير
المعلمن"). فغياب الإحالة على المرجعية الدينية لا يعني بالضرورة خروج الخطاب
من دائرة القداسة وما تبنيه من ثنائية "لا متكافئة" و"خطيرة"،
على حد عبارة الفيلسوف جاك دريدا (الخير/ الشر.. الحق/ الباطل.. الجميل/ القبيح.. إلخ إلخ).
بحديثه عن الملابس الداخلية لوريثة التجمع المنحل
والواجهة الأقوى للمنظومة القديمة؛ انتهك لطفي العبدلي مقدسا من مقدسات
"النمط المجتمعي التونسي"، أو لنقل هدّد بنسف ما راكمته زعيمة الحزب
الدستوري من رأسمال رمزي بحربها الوجودية ضد الثورة والديمقراطية، وضد حركة النهضة
على حد سواء. فالوعي الشعبي الذي رذّل الرئيس الأسبق منصف المرزوقي بإشاعات لا
حقيقة تحتها (استعمال الحمص عند شرب الخمر)، لن يستنكف عن ترذيل وريثة الاستبداد
بجملة مسرحية "مبتذلة" وذات إيحاءات جنسية.
ولا شك في أن أعظم ما تخشاه المنظومة القديمة وملحقاتها
الوظيفية، هو أن تتحول المرأة/ الرمز (رمز كره "الخوانجية" وتبييض نظام
المخلوع) إلى موضوع للسخرية والتندر (على ملابسها الداخلية) مما يفقدها الكثير من
"هيبتها"، ومن ثم يفقدها شيئا من قدرتها على التأثير، بل جزءا من قاعدتها
الانتخابية في مجتمع ما زال، رغم عملية التحديث الفوقي، مجتمعا شرقيا ذكوريا.
عندما نتذكر أن المحدد الأساسي للصراع السياسي في تونس هو
المحدد الثقافي لا المحدد الاقتصادي، وعندما نتذكر أيضا أن التناقض الرئيسي للعائلة
الديمقراطية بشقّيها (الاستصال لايت والاستئصال الصلب) هو مع حركة النهضة وليس مع
المنظومة القديمة، فإننا نفهم سبب هذا الالتقاء العابر للأيديولوجيات بين نخب
"النمط"؛ دفاعا عن زعيمة الحزب الفاشي دون سواها. فترذيل عبير موسي هو
ترذيل للمنظومة القديمة بأكملها، وهو أيضا ترذيل لخطاب ولطريقة في الفعل السياسي.
إنه خطر "وجودي" قد تستفيد منه النهضة (رغم
أنها لم تسلم من لطفي العبدلي وغيره)، ولذلك لا مجال للدفاع عن حرية التعبير وعن
حق المبدع في انتهاك كل المقدسات، بما فيها المقدسات الدينية. وهنا كان لا بدّ أن
تسقط كل مبدئية وكل ادعاء، فلا يبقى أمامنا إلا "مشاعر" ومصالح يُشبّه
لأصحابها أنها أفكار أو قيم تسعى.
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية