هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كان من المفروض في الحوار التلفزي الأخير لرئيس الحكومة التونسية، أن يبعث برسائل طمأنة للشعب التونسي، وأن يجيب على تساؤلات الرأي العام بصورة ترسّخ "الوحدة الوطنية" والثقة في "الدولة القوية العادلة"، ولكنه أثار سجالا عموميا كبيرا يرتبط في جزء منه بسياسات "زمن كورونا"، ويرتبط جزء آخر بقضايا أبعد غورا في بنية السلطة وخياراتها الاستراتيجية، المتعلقة بإصلاح الإعلام وبالشركاء الاجتماعيين وملف"مكافحة الفساد". وإن شئنا التجريد، فإننا سنقول (اعتمادا على الجملة السياسية لرئيس الحكومة ذاته)، إن السجال العمومي قد ارتبط بكيفية إدراة الحكومة "للحرب" على كورونا، وعلاقة تلك الحرب بالملفات الكبرى التي لم تستمد هذه الحكومة مشروعيتها، إلا من وعودها في التعاطي معها بصورة مختلفة عن الحكومات السابقة.
يتذكر التونسيون جيدا ما
قاله رئيس الحكومة الأسبق مهدي جمعة (وهو الذي جاء به الحوار الوطني بعد إسقاط
حكومة الترويكا)، عندما تحدث بسخرية عن أصحاب"القضايا الكبرى". كان مهدي
جمعة يقصد بالسخرية أصحاب السرديات الكبرى من الإسلاميين والقوميين واليساريين، الذين يطرحون مواقف مناهضة للتطبيع ولسياسات التبعية، ولكل خيارات المنظومة
القديمة المعادية للتحرر ولبناء مقومات السيادة الوطنية. فقد كان يرى في تلك
"القضايا الكبرى" مجرد ترف أيديولوجي لا يعني "حكومة
التكنوقراط"، التي عليها مواجهة المشاكل الحقيقية للشعب وإيجاد الحلول لها.
وبصرف النظر عن التهافت
البيّن في منطق رئيس الحكومة الأسبق (وهو تهافت يشهد عليه أداء حكومة التكنوقراط
ومحصولها الواقعي)، فإن مقارنته بخطاب رئيس الحكومة الحالي يجعلنا أمام مفارقة
عجيبة. فإذا كان مهدي جمعة القادم من شركة "توتال" والغريب عن السرديات
الأيديولوجية المتنازعة قد رذّل "القضايا الكبرى" وأصحابها، فإنه لم
ينكر أهمية "القضايا الصغرى" المتعلقة بإدارة الشأن العام. أما رئيس
الحكومة القادم من حزب يساري اجتماعي (والمسنود بحزام حزبي أغلبه مؤدلج)، فإنه
ينكر على المواطنين حتى الاهتمام بـ"القضايا الصغرى" المتعلقة بالحَوكمة
والشفافية ومحاربة الفساد، فيكون من العبث أن نطالبه بمواقف ثورية في
"القضايا الكبرى".
رغم وجود نماذج دولية
مختلفة في مواجهة وباء كورونا، فإن الحكومة التونسية قد اختارت أن تتبع المقاربة
الفرنسية التي هي محل جدل حتى في الداخل الفرنسي. ونحن لا يعنينا من هذه الواقعة
إلا "الفلسفة السياسية" المشتركة التي تعتبر أن على الدولة أن تتعامل مع
جائحة كورونا بمنطق "حالة حرب"، حرب غير تقليدية، ولكنها رغم ذلك لا
تستدعي البحث عن مفهوم جديد لإدارة الوباء بعيدا عن الاستعارة العسكرية.
منذ أن طالب بالتفويض من
مجلس النواب وتحصل عليه لمدة شهرين، أصبح رئيس الحكومة هو "القائد الأعلى"
للحرب على كورونا، أو رئيس أركان الجيش التونسي في هذه الحرب. فهو الآن يتمتع
بسلطة استثنائية تجعله قادرا (عبر إصدار المراسيم) على التدخل التشريعي في كل ما له علاقة
بـ"الحرب على كورونا". ولذلك؛ فإننا لن نجانب العدل إذا ما تعاملنا نقديا
مع رئيس الحكومة انطلاقا مما ألزم به نفسه.
ولا يخفى على كل عاقل أن
الحرب تستوجب تقوية الجبهة الداخلية عبر التخلص من كل "العناصر
اللاوظيفية" التي قد تحول دون تحقيق النصر، كما لا تخفى أيضا أهمية "هيئة
الأركان" المشرفة على إدارة الحرب (وهي هنا الفريق الحكومي وأجهزته التنفيذية
أساسا)، تلك الهيئة التي يجب أن تكون فوق الشبهات وبعيدة عن كل ما من شأنه أن يضعف
الحالة المعنوية للجنود (أي عامة الشعب)، أو ينسف ثقتهم في الدولة وفي تعاملها مع فئات الأمة كافة، دون محسوبية أو زبونية أو تمييز.
إن "حالة الحرب"
تستوجب قرارات استثنائية، ولكنها تستوجب قبل ذلك شجاعة استثنائية تختلف عن معدل
الشجاعة في حالات السلم. ولكنّ رئيس الحكومة بدا في حواره أبعد ما يكون عن تحقيق
هذين الشرطين. فبصرف النظر عن الحاجة إلى "إعلام حربي" يكون سندا للدولة
في حربها ضد كورونا، دون أن يكون ناطقا رسميا باسمها (وهو أمر لا يبدو أن رئيس
الحكومة يقدّر أهميته؛ لأننا نراه يوظف الإعلام "المشبوه" والمدجّن، في
طرح قضايا أبعد ما تكون عن قضايا الشعب)، فإن السيد الفخفاخ قد أظهر فهما متهافتا
لمعنى حالة الحرب، حتى في رده على أسئلة تتعلق بـ"القضايا الصغرى" التي
تشغل الرأي العام زمن كورونا.
في رده على قضيتي وزير
الصناعة ووزيرة الثقافة (وهما قضيتان تتعلق الأولى منهما بشبهة فساد بين الوزير
وأحد النواب عن حزب البديل، بينما تتعلق الثانية بالحكم الاستعجالي الصادر عن
المحكمة الإدارية بإيقاف الترخيص، الذي منحته وزيرة الثقافة لبعض التلفزات بمواصلة تصوير
المسلسلات، في خرق واضح للحجر الصحي العام)، أجاب رئيس الحكومة بصورة غلب عليها
منطق "التضامن الحكومي"، البعيد عن واجب التحفظ وعدم التأثير على سير
القضاء أو لجنة التحقيق الحكومية، وهو ما جعله يبدو منحازا إلى "شبهات
الفساد" أو مشاركا في التغطية عليها. ولا شك في أن "رئيس أركان"
الحرب على كورونا لم يكن محتاجا إلى وضع نفسه موضع الشبهة، فقد كان يكفيه الامتناع
عن الرد احتراما لسلطة القضاء واستقلالية لجنة التحقيق.
أما في ما أسماه رئيس
الحكومة بالمد التضامني السابق لمرحلة التضحية التي ستأتي لا محالة، فقد أظهر رئيس
الحكومة انحيازا ضمنيا لرؤوس الأموال. فالكلفة المادية أو الاجتماعية للحرب على كورونا
يتحملها إلى حد الآن الأجراء والموظفون والفئات الأكثر هشاشة في المستوى
الاقتصادي. أمّا رجال الأعمال (خاصة أصحاب الثروات الطائلة منهم)، فإن مساهتمهم في
الكلفة المادية تظل دون المأمول. ورغم أن الشعب لا يدعو إلى تأميم ثروات هؤلاء،
فإنه ينتظر من رئيس حكومته أن يصدر مراسيم تجبر أصحاب الثروات الكبرى على المساهمة
الفعّالة في "الحرب"، كما ينتظر الشعب من رئيس حكومته فتح ملفات الفساد
التي تحوم حول هيئة الحقيقة والكرامة وملفات المصالحة، وفتح ملفات الفساد الإداري
والنقابي والأمني والديواني، وملفات التهرب الضريبي التي يُجمع كل الخبراء على أنها
حرمت الدولة من آلاف المليارات، ومن عدة نقاط نمو سنوية منذ الثورة.
ختاما، فإن استعارة الحرب
التي يصرّ رئيس الحكومة على استعمالها في كل تدخلاته الإعلامية تستدعي "حكومة
حرب" حقيقية. وهي حكومة لا ينبغي عليها التعامل بمكيالين؛ أحدهما "للأثرياء"
وأصحاب الحصانة البرلمانية والحزبية والنقابية، والآخر لعموم المواطنين. وإذا ما
كانت آلهة القانون كما نعلم "عمياء" كي لا تفرق بين الناس، فإن
"حالة الحرب" يجب أن تزيدها عمى لا أن تجعلها تفتح عينيها حينا وتغمضهما
حينا آخر، ترضية لأولئك الذين قد يُحوّلهم التفويض ومراسيمه إلى أكبر حليف موضوعي للكورونا،
أي إلى أكبر عدو داخلي للشعب، مهما كانت تبريرات "رئيس هيئة أركان الحرب"
للدفاع المستميت عنهم.
قراءة في مواقف السلطة و"القوى الديمقراطية" التونسية من الثورة السورية