تقارير

قصة لاجئ من يافا.. أربع سنوات عجاف في غزة

قصة لاجئ فلسطيني من يافا في مخيمات اللجوء بقطاع غزة ومصر  (الأناضول)
قصة لاجئ فلسطيني من يافا في مخيمات اللجوء بقطاع غزة ومصر (الأناضول)

عبد القادر ياسين، كاتب فلسطيني ينحدر من مدينة يافا، التي تم تهجيره منها رفقة عائلته وآلاف الفلسطينيين، عقب حرب 1948، يعيد في سلسلة حلقات خاصة بـ "عربي21"، كتابة تاريخ اللجوء الفلسطيني، في دول الشتات.. وهو يسلط الضوء اليوم على تاريخ قطاع غزة مع الاحتلال..

 

قصة القطاع

ضاق قطاع غزة بمن فيه، وهو المنطقة الفقيرة، التي لطالما طردت أبناءها، إلى مدن أخرى، تتوفر فيها فرص العمل.

لكن من أين أتى "قطاع غزة"؟ ومن الذي استحدثه؟!
 
كانت مدينة غزة، وما حولها من مدن، وقرى، تحمل اسم "قضاء غزة"، ويشترك هذا القضاء مع قضاء بئر السبع، الملاصق، في اسم "لواء غزة". وحين توقفت الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى (1948)، أصدرت القيادة العامة للجيش المصري، من القاهرة، تعليماتها إلى اللواء أحمد فؤاد صادق، قائد القوات المصرية في فلسطين، التي قضت بضرورة الإسراع بسحب كل قواته من فلسطين. 

إلا أن صادق ماطل، وتمسَّك بما تبقى بأيدي تلك القوات من مدن، وقرى، وأراض، فكان قطاع غزة (يمتد على مساحة نحو 350 كم2، بطول 41 كم، وعرض تفاوت ما بين 5، 15 كم، تحده إسرائيل من الشمال والشرق، ومصر من الجنوب، والبحر المتوسط من الغرب، الذي ضم مدينة غزة نفسها، وقراها (جباليا، بيت لاهيا، وبيت حانون)، وبلدة دير البلح، ومدينة خان يونس، وقراها (عبسان، الكبيرة والصغيرة، وبني سهيلة)، وأخيراً بلدة رفح، على الحدود مع مصر، وأطلقت الإدارة المصرية على القطاع اسم "المناطق الخاضعة لرقابة القوات المصرية"، ووُضع القطاع تحت الأحكام العُرفية، لنحو تسعة عشر عاماً، لم يقطع اتصالها سوى الاحتلال الإسرائيلي الأول لقطاع غزة (2/11/1956 ـ 7/3/1957)، و قبل أن ينتهي هذا الوضع، تمامًا، بمجرد وقوع قطاع غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي الثاني، في سياق حرب حزيران / يونيو 1967.

تململ مواطنو قطاع غزة، بعد أن ازدادت معيشتهم سوءًا، بإضافة كل هذا الكم من أشقائهم، الذين وفدوا إلى القطاع. وتناقلت الألسن طُرفة، مؤداها أن مواطنًا غزيًا كان يسوق حمارًا، فاستعصى الأخير على الرجل، الذي لم ير بدًا من ضربه بالسوط، ومع ذلك، فإن الحمار لم يتزحزح، واصل الرجل ضربه بالسوط ثم قال له، مؤنبًا: "حا! ياللي وجهك زي وجه اللاجئ".

 

مدارس القطاع


اقتسم تلاميذ اللاجئين مدارس القطاع الابتدائية، مع التلاميذ المواطنين، بحيث كان الأخيرون يشغلون المدرسة، على مدى الفترة الصباحية، بينما يشغلها تلاميذ اللاجئين، على مدى فترة ما بعد الظهر، بمدرسين جدد، وناظر مختلف. وكانت "وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين"، هي من حدَّد ميزانية مالية لتعليم أبناء اللاجئين، الذين كانوا موضع حسد التلاميذ المواطنين؛ لأن "وكالة الغوث" كانت توفر الكتب، والدفاتر للتلاميذ اللاجئين، مجانًا، عبر "الأونروا". وفي مخيمات اللاجئين الثمانية (جباليا، الشاطئ، النصيرات، البريج، المغازي، دير البلح، رفح)، أقامت "الأونروا" مدارس خاصة باللاجئين، من المقيمين في كل مخيم، على حدة.

لعل ما زاد من حسد المواطنين للاجئين، حصول الأخيرين على مخصَّصات تموين، وحليب صناعي، من "وكالة الغوث".

دأب معظم تلاميذ اللاجئين على الحضور إلى مدارسهم، حفاة، لضيق ذات اليد، وقلَّ من أسعده الحظ بحذاء، وكنت ضمن سعداء الحظ هؤلاء، وإن دأبت على خلع الحذاء، ووضعه في حقيبة كتبي، بمجرد ابتعادي عن بيتنا، وأعود لارتدائه في قدميّ، بمجرد اقترابي من بيتنا، في طريق عودتي من المدرسة؛ أغلب الظن حتى لا أنعزل عن زملاء الدراسة، وينفرون مني! 

في غزة، انقلبت مهنة والدي، من بيع الخضار والفاكهة، إلى مطعم، يبيع الفول، والحمُّص. وكنا في يافا، عائلتين تحملان اسمًا واحدًا، هو "ياسين"، و لم يُفرِّق بين العائلتين، سوى المهنة الرئيسية لرجال كل منهما؛ نحن "بتوع الخضار والفاكهة"، وهم "بتوع البيض". وكانت الحِرف، والمهن، في فلسطين، قبل العام 1948، يتم توارثها، في الأغلب الأعم.

بعد أن أنهيت دراستي الابتدائية، في "مدرسة الإمام الشافعي الابتدائية للاجئين"، جاءت قُرعتي، في مدرسة الزيتون الإعدادية، التي ضمت مواطنين، ولاجئين، جنبًا إلى جنب، وهي تبعد عن "الإمام الشافعي" نحو أربعة كيلومترات، وعن منزلنا، في حي الرمال، نحو ثمانية كيلومترات، أقطعها مشيًا على الأقدام، مرتين، يوميًا، عدا يوم الجمعة.

 

حين توقفت الحرب العربية ـ الإسرائيلية الأولى (1948)، أصدرت القيادة العامة للجيش المصري، من القاهرة، تعليماتها إلى اللواء أحمد فؤاد صادق، قائد القوات المصرية في فلسطين، التي قضت بضرورة الإسراع بسحب كل قواته من فلسطين.

 



حين كنا في بداية السنة الثانية الإعدادية، طلب إليَّ محمد حمتو، زميل الدراسة، أن نمر بسراي غزة، لمحاولة رؤية شقيقه، رضوان، المدرس في "الإمام الشافعي للاجئين"، والموقوف على ذمة انتسابه إلى "عصبة التحرر الوطني" اليسارية السرية، فوافقته، ونادينا على الأستاذ رضوان، فصعد إلى الطاقة الموجودة في زنزانته، وتبادل الحديث مع شقيقه محمد. 

وكان الأستاذ رضوان قد اعتُقل، مع ثلاثة آخرين من زملائه المدرسين، في المدرسة نفسها (سعاد حنا الصايغ، عبدالله زقوت، ورشدي دبيكة)، بينما نجح في الإفلات من حملة الاعتقال هذه مدرسان آخران، في المدرسة نفسها، هما: عصام سيسالم (إلى سوريا)، ومحمد عبود أبو كميل (إلى الكويت). 

إضافة إلى اثني عشر طالبًا، في الإمام الشافعي الابتدائية للاجئين، كان سيسالم قد جنَّدهم للعصبة، أذكر منهم: محمد عيسى جابر، عمر عوض الله، عبد الرحمن عوض الله (النوري)، عبد الله زقوت، محمد عيسى جابر، عبد الخالق أبو عطوان، إبراهيم هارون، ومحمد أبو حمدة.

 

كانت مدينة غزة، وما حولها من مدن، وقرى، تحمل اسم "قضاء غزة"، ويشترك هذا القضاء مع قضاء بئر السبع، الملاصق، في اسم "لواء غزة".

 



لعل من باب الصدفة أن قضية هؤلاء "المتهمين"، من قبل محكمة عسكرية مصرية، تولاها الصاغ (الرائد) لطفي واكد، وهو عضو سابق في منظمة "حدتو" اليسارية المصرية. لذلك، تساهل في الأحكام التي أصدرها، في حق "المتهمين" الستين، فنال معظمهم ما بين ثلاثة، وستة أشهر، وبُرِّئ ثلاثة، أولهما "شاهد مَلَك"، أما الاثنان الآخران، فهما: رشدي دبيكة، الذي تأكد للمحكمة بأنه كان مجرد مرشح لعضوية العصبة، وصبحي سليمان، الذي ثبت للمحكمة بأن الاتصال الحزبي قد انقطع معه، منذ "النكبة". 

وبقي سبعة أعضاء، نالوا أحكامًا أعلى؛ حيث نال رأس "العصبة"، فخري مكي ست سنوات، ونال كل من عبد المجيد كحيل، وحسن أبو شعبان، وسعيد الطحطاوي، أربع سنوات، بينما نال كل من عبد القادر المغربي، وشقيقه محمد، ورئيس عشائر الوحيدات، فايز الوحيدي، وعبد الرحمن عوض الله (النوري)، ثلاث سنوات. وبلغ تساهل واكد مع المتهمين حد إصدار أحكامه بالحبس المخفَّف، بحيث تُحسب سنة سجن تسعة أشهر، فقط، وهذه هي المرة الأولى، والأخيرة، التي تصدر فيها محكمة عسكرية مصرية حكمًا بالحبس غير المشدَّد.

دخلت مدينة غزة في ضائقة اقتصادية أشد، وتضاءل دخل والدي المالي من مطعمه، فسافر إلى العريش، عاصمة سيناء، لتُفتح صفحة جديدة في سجل اقتلاع أسرتنا من مسقط رأسها.

 

إقرأ أيضا: يافا الفلسطينية.. كانت مهدا للصحافة والثقافة قبل النكبة

 

إقرأ أيضا: "يافا" في ذاكرة لاجئ فلسطيني.. تاريخ لا يبلى

 

إقرأ أيضا: فلسطينيو يافا.. سياحة خاطفة فلجوء مديد

 

إقرأ أيضا: لهذا سقطت يافا.. وهُزّمت الجيوش العربية

التعليقات (0)