هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم تحظ التيارات السلفية في المغرب بالاهتمام الكثيف من قبل الباحثين والدارسين حتى فرض السياق الإقليمي وضعها في دائرة التركيز الأمني والإعلامي، فانعطفت الأولويات البحثية لمراكز الأبحاث ومستودعات التفكير المؤثرة على القرار السياسي الأمريكي والأوروبي لهذا الموضوع جاعلة منه أولوية تتصدر عناوين الأجندة البحثية، وصارت تأثيرات الفكر السلفي وعلاقته بالظاهرة الإرهابية المعولمة اتجاها بحثيا مطردا.
وقد شكلت لحظة أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 عقدة بحثية لدى عديد من مراكز الأبحاث ومستودعات التفكير التي حاولت الاقتراب من تحولات التيارات السلفية ومراجعاتها، إذ تأطر منطقها في التتبع والرصد بكثير من الشك في صدقها وجدواها، وما إذا كانت جدية، أم مجرد تكتيكات ظرفية للانحناء للعاصفة، في حين قاربت مراكز أخرى تحولات السلفيين بنفس النموذج المعرفي التي درست به الحركات الإسلامية في قياس التحولات والمراجعات إلى المرجعية الليبرالية، وبخاصة الموقف من الديمقراطية والحريات الفردية والمشاركة السياسية والتعددية وقضايا المرأة وغيرها، واتجهت بعض المراكز المعنية أساسا بفكرة اندماج التيارات الإسلامية بمختلف مكوناتها في النسق السياسي.
التيار السلفي في المغرب... أربع بدايات
يرجع عدد من الباحثين الإٍرهاصات الأولى لدخول الفكرة الوهابية للمغرب إلى ملكين من ملوك الدولة العلوية، وبالتحديد المولى محمد بن عبد الله في القرن الثامن الهجري، الذي نسب إليه منع قراءة كتب التوحيد على القواعد الكلامية المحررة على مذهب الأشاعرة، ودعوته الناس إلى التشبث بمذهب السلف الصالح والاكتفاء بالاعتقاد المأخوذ من ظاهر الكتاب والسنة من غير تأويل، وأيضا الملك العلوي المولى سليمان في بداية القرن التاسع عشر الذي كان يميل إلى المذهب الحنبلي، إذ الثابت تاريخيا أنه أمر ـ بعدما بلغه خبر تضييق أتباع الدعوة الوهابية على ركب الحجاج المغاربة ـ بإعادة ركب الحجيج، وبعث وفد من العلماء لاستطلاع آراء الدعوة الوهابية من مصادرها الأصلية، ولم يثبت ما يدل على تأثره بهذه الدعوة فضلا عن تبنيه لسياسة دينية تغير الاختيار المذهبي للمغرب من المالكية إلى الحنبلية، فكل ما ثبت تاريخيا يقرأ من خلفية دبلوماسية، وأن موقف المولى سليمان لم يتعد تصحيح العلاقة الدبلوماسية مع آل سعود، وبناء موقف متوازن من الوهابية يعتمد تقييمها في ضوء المعطيات العلمية بدءا باعتبارها دعوة إصلاحية، وضرورة تلمس قضاياها وموضوعاتها من مراجعها وقادتها، واعتماد آلية الحوار في التعامل مع دعاتها، مع الاحتفاظ بحق تحرير نقاط الخلاف مع هذه الدعوة، وانتقادها بالشكل الذي لا يذهب الود، ولا يغفل الجوانب الإيجابية في هذه الدعوة.
البداية الثانية للفكرة السلفية في المغرب، تحاول بعض الدراسات نسبتها إلى الحركة الإصلاحية المغربية، مجسدة في رموز باتت معروفة بأدبياتها ومواقفها، مثل الشيخ أبي شعيب الدكالي والشيخ محمد بن العربي العلوي، غير أن تتبع المتن الفكري والسياسي لهؤلاء الرموز، جعل بعض الباحثين مثل الدكتور محمد عابد الجابري، يمايز بينها وبين الحركة السلفية الوهابية، ويعتبر أن ما ورد في متنها الفكري من أبعاد تحديثية، يجعلها أقرب لأن تسمى بـ"السلفية الجديدة"، وينسبها إلى الامتدادات السلفية النهضوية، وليس إلى الحركة الوهابية.
البداية الثالثة، التي لم تخذ حظها من البحث والرصد، هي التي انطلقت مع دعوة الشيخ تقي الدين الهلالي، الذي أعطاها زخما فكريا بفضل خلفيته المعرفية الواسعة، وتمكنه من اللغات، وقدرته على الحجاج العلمي. وقد صنف المؤرخ المغربي علي الريسوني الحركة الهلالية إلى دعوتين: دعوة الأربعينيات في تطوان، ودعوة الستينيات في فاس ومكناس والرباط. وقد صرح تقي الدين الهلالي في بعض كتبه أنه لم يتوقف طيلة وجوده بالمغرب ـ في دعوته الثانية ـ عن تدريس كتاب "فتح المجيد شرح كتاب التوحيد" للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ولم تخل هذه المحطة من تجاذبات مع تعبير آخر من السلفية الصوفية التي كانت تمثلها المدرسة الصديقية في طنجة، والتي كان من أهم رموزها أحمد بن الصديق الغماري.
ومع أن الإرهاصات الأولى للفكرة السلفية في المغرب انطبعت بالخلفية الوهابية، إلا أن الخلفية الفكرية للشيخ تقي الدين الهلالي والتراكم المعرفي الذي صهر ثقافته (الانفتاح الواسع على الفلسفة والثقافة الغربية) والتتلمذ على شيوخ السلفية الوطينة (محمد بن العربي العلوي) جعل مخرجات الدعوة الهلالية خاصة في مرحلتها الثانية مطبوعا بسمات خاصة لا تشكل السمة الوهابية إلا جزءا بسيطا من تلوينات طيفها، إذ بالقدر الذي حضرت في دعوته المفردات والمفاهيم العقدية، والولاء والبراء، ومحاربة القبورية والبدع، بقدر ما أثثت دعوته بجوانب من الانفتاح والحوار مع مخرجات الثقافات الأخرى، مما جعل دعوته تستأثر باهتمام العديد من المشايخ في عدد من المدن المغربية، ممن سيكون لهم دور بارز في تأطير المساجد والجوامع المغربية المشهورة والواقع، أن التأسيس الفعلي للتيار السلفي ذي الخلفية الوهابية، بدأ مع نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، إذ تأسست جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة في المغرب عام 1976 بقيادة الشيخ محمد بن عبد الرحمن المغراوي، تلميذ الشيخ تقي الدين الهلالي الذي توسط له للسفر للمملكة العربية السعودية، والتتلمذ على عبد العزيز بن باز وناصر الدين الألباني.
وقد عمل المغراوي على إنشاء عدد من دور القرآن في مختلف مدن المغرب، اعتمدت منهج تدريس العقيدة والحديث والتفسير والسيرة والفقه، وأعلنت عن مبادئها السلفية بنفس النحو المعروف عند الدعوة النجدية.
قبل الحادي عشر من أيلول (سبتمبر).. سلفيون في خدمة أجندة الدولة
وقد بلغت دور القرآن أوجهها في السبعينيات والثمانينيات، وذلك لتقاطع أهدافها مع استراتيجية الدولة التي دخلت في مواجهة مع التيارات الماركسية المتطرفة في السبعينيات، وبدأت تخوض المعركة مع جماعة العدل والإحسان ذات الخلفية الثورية والصوفية في مرحلة لاحقة، فتم استثمار العداء السلفي للصوفية لاستعدائها على مرشد جماعة العدل والإحسان ونشر عدد من الكتب في تسفيه معتقداته، كما تقاطعت الدعوة السلفية مع أجندة الدولة في صرف متعهدي المساجد عن الانتماء للتنظيمات الإسلامية، إذ أنتجت التيارات السلفية غير قليل من الكتب في تبديع وتفسيق الانتماء للجماعات الإسلامية، والتصدي لمعتقدات رموز الحركة الإسلامية أمثال حسن البنا وسيد قطب والقرضاوي وغيرهم.
ولم تسلم هذه المرحلة، بفضل الحاجة إلى مثل هذه الإنتاجات المعادية للحركات الإسلامية، من تسرب السلفية "المدخلية" مع بداية منتصف التسعينيات، وتخصص مشايخ برزوا من داخل دور القرآن التي يرعاها المغراوي في التعرض الكاريكاتوري لزعامات الحركات الإسلامية قبل أن تتحول إلى تعقب القيادات السلفية نفسه.
وقد تبرر وجود الحركة السلفية في المغرب، بمواجهة ثلاث أجندات رئيسة:
ـ أولها مواجهة الفكرة الناصرية التي بدأت تمتد في الكثير من البلدان العربية مثل سوريا واليمن، وتشكل تحديا للدولة المغربية، وضمن هذا السياق تدخل الملك الحسن الثاني للدكتور تقي الدين الهلالي للإقامة بالمغرب والتدريس بدار الحديث الحسنية.
ـ ثانيها محاصرة الثورة الإيرانية، وذلك اعتبارا لما بين التوجه الوهابي والتشيع من قطيعة فكرية وسياسية.
ـ وثالثها، مواجهة الحركات الإسلامية بشكل عام، وجماعة العدل والإحسان بشكل خاص، إذ قامت بدور كبير في مواجهة فكر الأستاذ عبد السلام ياسين، إذ أنتج التيار السلفي عددا من الكتب في مواجهة النزوع الصوفي للأستاذ عبد السلام ياسين وألفت كتب في الرد على كتبه "الإسلام غدا" و"الإسلام بين الدعوة والدولة" و"الإحسان".
ما بين تاريخ نشأة التيار السلفي في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، وأحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، لم تكن الدولة تتأذى من المواقف المتشددة للتيار السلفي