لا شك في أن ما حدث في
مصر خلال الأسابيع الماضية، وخاصة بعد تصريحات وبيانات محمد علي المقاول المقرب من النظام على مدى خمسة عشر عاما، يثير الاهتمام ويدعو للتأمل في الحالة المصرية، ويتطلب الإجابة على العديد من الأسئلة واستشراف المستقبل. فقد انقسم الناس في تلقيهم لما حدث ما بين مترقب حذر يكتفي بالمشاهدة ولا يشارك حتى بكلمة، وبين متفائل شديد التفاؤل يتصور أن النظام قد يختفي عن الوجود في الجمعة التي سماها جمعة الخلاص، وكأن النظام سيسلم بهذه البساطة، ولن يستخدم كل ما يملك من أدوات للدفاع والهجوم في معركة جعلها صفرية، وبين من هو أشد إفراطا في التحليل بالتمني، فوصف سفر رئيس الانقلاب إلى أمريكا بالهروب، ولذلك كانت صدمة هؤلاء كبيرة وإحباطهم أكبر.
وأما الجماعات الإسلامية المعارضة لهذا النظام الغشوم فقد أخذت موقف الترقب وانتظار إشارة من هنا أو هناك، وخصوصا من النظام الذي قد يمتنّ لها لعدم المشاركة، مع علمه المؤكد أنها لو دفعت أفرادها للمشاركة الحقيقية لكانت سببا في إزاحة النظام أو التمهيد لذلك بقوة، وهو ما رد عليه بالاعتقالات والانتهاكات؛ تصورا منه أن القيادات ترسل له إشارة إيجابية وتخبره أننا قادرون على الفعل ولم نفعل، فماذا أنت بفاعل؟ فأراهم فعله وأبلغهم رده بطريقته.
وفي الغالب لم يقصدوا ذلك، بل هي حالة الشلل الرباعي في التفكير السياسي وعدم التقدير المناسب لمعطيات الموقف، أو انتظار هذه التيارات لإشارة أخرى من الجناح المتصور أنه دافع لمحمد علي وداعم له. ولأنها لا تعرفه، فقد بدت بلسان الحال والمقال تسأل من تتصور أنه ينقل الرسالة إلى الجناح المتوهم: المشاركة مقابل ماذا؟
وهو سؤال قد يبدو مشروعا في وقت آخر وظروف أخرى، لأنك باختصار شديد أمام مصلحة متوقعة بأي نسبةٍ كانت وبين ضررٍ قائم حال ومستقبل، ولك آلاف الأسر المنكوبة والأرواح التي تزهق والأنفس التي تموت بالبطيء في سجون لا يعرف سوءها إلا من جربها، وقصص من الانتهاكات لم يشهدها التاريخ من قبل، وليس لديك أي أوراق قوة تفاوض بها، فقد أحرقت كل الأوراق. ويبدو أن حالة التخبط هذه وعدم التقدير الجيد، أو في الحد الأدنى التردد في اتخاذ موقف أو التأخر عن الوقت الصحيح، أصبحت سِمة لهؤلاء لا تخطئها عين طفل يلعب في أفنية السياسة.
ولكن هل انتهى الحراك أو فاز
السيسي في هذه الجولة، وقد يعبر هذه الأزمة فيستأسد بعدها؟
أقول موقنا إن الأمر عكس ذلك تماما، وليكن تقديرنا للموقف وفقا للتالي أوجزها في نقاط حتى تكون واضحة:
1- أن الحراك الذي حدث مهما كان حجمه أفصح عن حالة الغضب المكتوم، وأعلن أنها ليست وهما ولا تحليلات لخصوم النظام، بل هي حقيقة مؤكدة وأن جدار الخوف قد انكسر، وأنه كما خرج أمامه من لم يتوقعه، فإن القادم أيضا يصعب توقعه، لا من حيث الأشخاص ولا الزمان أو المكان.
2- أن الخريطة السياسية داخل البلاد تأثرت وتغيرت، وأن الجماهير تتوق لمن يأخذ بيدها لتأخذ حقها، وأن محمد علي بعفويته قد أشعل الشرارة وحرّك النفوس وهيّج المشاعر، ولكن ردود الفعل ما بعد البدايات توحي أن الجماهير شكرت له ما فعل، ولكنها لم تطمئن أنه القائد الذي يكمل بها المسيرة، وما زالت تنتظر هذا القائد ليخرج من بينها.
3- أن الجماهير أضحت تنظر لمعظم المعارضين للنظام والمناهضين له، أفرادا وأحزابا وجماعات، أنهم أصحاب مصلحة يصارعون على السلطة، بغض النظر عن صواب هذا أو خطئه، ولكن هذا الواقع يستلزم من هؤلاء مراجعات كبيرة وعميقة، أو ثورة داخلهم تُحدث تغييرات جذرية.
4- أن صورة النظام قد اهتزت بعمق وبعنف، وأن كل ما حاول أن يتجمل به كذبا قد سقط، وأن الصورة الذهنية التي بناها عند قطاع غير قليل قد انهارت، وأنه يستحيل إعادتها لما كانت عليه.
5- أن الرعب قد أصاب النظام بحق، وهو ما دفعه وما زال يدفعه إلى ارتكاب حماقات تعجل بانفجار الأوضاع بصورة لا يستطيع أن يحتويها. فقد اعتقل سياسيين لهم مكانة اجتماعية، ومعظمهم كانوا مدافعين عنه حتى بدا كذبه واستحال عليهم تبرير تصرفاته. وقد طالت الاعتقالات أيضا كثيرا ممن كانوا بعيدين عن ملعب السياسة، وهي حالة أشبه بما فعله السادات في أيلول/ سبتمبر 1981 وعجلت بزواله.
6- أن النظام أصبح في حالة شك وريبة في كل المحيطين به، وأنه سيقدم على خطوات للتخلص من كثير منهم ليكونوا كباش فداء، وهو مما يزيد أعداد معسكر المعادين له والناقمين عليه.
7- إن الوجوه التي صدّرها لتمهد الطريق للتخلص من بعض المؤيدين له أو العاملين معه من الحكومة أو الإعلام.. أقول هذه الوجوه من أمثال علي عبد العال ومصطفى بكري؛ هي من أبغض الوجوه إلى الجماهير، ولكنه لا يملك إلا الوجوه الكالحة والشخصيات البغيضة، وهؤلاء يزيدون الحنق عليه والبغض له.
8- أن الخطة التي اتخذها الآن باعتبار أن بعض التنفيذيين هم السبب فيما حدث وأنه سيعاقبهم؛ لا تنطلي على أحد، فكل الكلام كان منصبّا عليه هو، والأسئلة موجهة له هو عن الفساد والقصور، وأنه أكد ذلك عندما لم يستجب لمن "باسوا إيده عشان ميتكلمش" ولكنه (ولله الحمد) تكلم، وإلى الآن لم يجب عن أي سؤال مما وجه إليه.
9- أن الجماهير أصبحت الآن في حالة من الوعي وتحت يدها أرقام مذهلة. فالرجل الذي قال إننا ليس عندنا صحة ولا تعليم ولا إسكان، وكل ذلك بسبب الفقر، وأنه لم يستجب لإصلاح منظومة القطارات لأن العشرة مليارات جنيه التي تحتاجها لو وضعها في البنك لأتت له بعائد "اتنين مليار"، ولم يستجب لتعميم مظلة التأمين الصحي ?نها تحتاج إلى 33 مليار جنيه، ولم يستجب لإصلاح منظومة التعليم ?نها تحتاج إلى 130 مليار جنيه.. هو في نفس الوقت يبني قصورا كلفتها أكثر من كل ذلك لنفسه وليس للدولة (كما زعم)، فالدولة لم تكن بغير قصور عند مجيئه.
10- أن رأس النظام الفاسد هذا قد أغرق البلاد في الديون، ولم يعد بمقدوره إصلاح المنظومة الاقتصادية بأي حال، وهو ما أفصح عنه وزير المالية عند سؤاله عن كيفية سداد فوائد الديون فقال بالاستدانة، وأن النظام لم ولا ولن يكف عن الاستدانة، وأنه لإرضاء الجماهير الغاضبة التي ظل يرفع الدعم عنها ويزيد الأسعار عليها ويحذف بطاقات تموينها الهزيلة؛ الآن يعد برفع سقف المنصرف على بطاقة التموين إلى مائة جنيه (أي ما يعادل ستة دولارات) في الشهر، كأن المصري الغاضب من ملياراته التي تُنفق على القصور والاستراحات يُشترى سكوته بستة دولار، وهو عار وأي عار.
تلك عشرة كاملة، وقد يحتاج الأمر لأكثر منها، ولكن المقال لا يتسع لغيرها، ولكنها تؤكد بيقين أن كرة الثلج تكبر، وأن الخرق قد اتسع على الراتق، وأن السكوت المؤقت جراء
القمع المتزايد لا يعني توقف الحراك، بل إن مزيدا من القمع دائما يؤدي إلى مزيدٍ من الاحتقان، مما يؤذن بثورة عارمة، وأن ممارسات النظام هي هي؛ لأن الاستبداد ملة واحدة يرتكب ما يُعجل بزواله.