كتاب عربي 21

قاتل في قفص من زجاج

جمال الجمل
1300x600
1300x600

(في البدء)

هذا المقال: ليس مرثية لرئيس رحل، ولا بكائية على سجين نزف نبضه وراء جدار من زجاج، ولا عزاء واجب لمعارض سياسي، ولا لحظة وفاق مؤقت فرضه الموت مع خصم ترجل..

إنه همسة حرية خارج الأقفاص التي تحاصرنا وتحاصر حياتنا وتحاصر مشاعرنا وتحاصر مواقفنا وتحاصر كلماتنا. 

(1) 

سأكتب لكم عن ثعبان جاهل وقاتل، إنه يعيش داخل صندوق من زجاج، في هذا الصندوق يأكل ويتكلم وينام ويغير جلده، ومن وقت لآخر يرتبون له الخروج لزيارة خداع أو مهمة قتل، ثم يعيدونه إلى الصندوق الزجاجي.

المهم في الحكاية أن الثعبان الغبي يخدع نفسه بالتفكير أنه حر، مع أنه ليس أكثر من أسير في قفص، يستخدمونه في مهام الموت دون أدنى اهتمام بالحياة!.
 
هكذا وصف كولن ويلسون شخصية القاتل في رواية "القفص الزجاجي"، وهكذا رأيت القاتل في الطبعة المصرية الواقعية من رواية المأساة التي تتحدث عن الثعبان الحقيقي الذي يلدغ السجناء داخل القفص الزجاجي.

(2)


قبل ساعات وصف صديقي الدكتور كمال حبيب رمزية "القفص الزجاجي الذي سقط فيه الدكتور مرسي قتيلاً، بأنه ليس مجرد قفص، وإنما هو حالة لمجتمع كامل يواجه انكشافاً كاملاً أمام سلطة تراقبه بشكل دائم"، وهو ما يكرس شعور المواطن بالرقابة اللصيقة، وعدم القدرة على الإفلات من عقاب السلطة التي تحيط به من كل جانب.

(3)

رواية المتمرد كولن ويلسون ترشدنا إلى رمزية أبعد وأعمق للقفص الزجاجي، باعتباره مسكن القاتل لا موطن القتيل، لذلك تحول القفص إلى نموذج في عقل السلطة يجب تكراره ومحاكاته وحبس الوطن فيه لتعويض عقدة العزلة التي يشعر بها ثعبان السلطة القاتل، الذي يعيش بمعزل عن المجتمع، ويتحرك داخل صندوقه متوهما أنه يتواصل مع العالم، لمجرد أنه يرى الحياة من خلف الجدران الزجاجية المحصنة، أو يخرج في مهام مخططة للفحيح أو بث السموم.

(4)

يحكي ويلسون في روايته عن سفاح نهر التايمز الذي كان يقتل ضحاياه ويقطع أجسادهم إلى أشلاء، ثم يترك إلى جوار الأشلاء عبارات مقتضبة عن العنف والعذاب والكراهية والألم، وكلها مقتبسة من كتابات الشاعر والرسام الانجليزي الشهير "وليم بليك".

(5)

هل هذه الكلمات المصاحبة للأشلاء تبرر جريمة القاتل، باعتباره مثقفاً يقرأ الشعر ويعرف بليك؟

وجه المحقق "لاند" سؤاله للناقد المحبط "ديمون ريد" الذي قبل على مضض تقديم المساعدة في فك اللغز، فأجاب ريد على السؤال بسؤال: وهل يمكن للمجرم أن يبني شيئاً مفيداً من الأشلاء التي يمزقها؟

وأضاف ريد: إن الجرائم لا يمكن تبريرها بالكلمات، مهما كانت صياغة تلك الكلمات، لكن الحقيقة أن المجرمين تطوروا، واستخدموا الكثير من المفاهيم والجماليات وكلمات المثقفين لتبرير جرائمهم.

(6)

لم تتحدث رواية ويلسون عن الإرهاب وحماية الأوطان و"فوبيا الضرورة"، ولم يهتف القاتل: تحيا مصر، لكن الرواية ركزت على خراب نفسية الإنسان القاتل، وتحدثت عن عزلته الزجاجية، وعن كراهيته للعالم، وهو ما يبدو في قول ريد للمحقق لاند: إن القاتل انطلق في جرائمه على الأرجح تعبيرا عن مشاعر قوية من الحقد والكراهية العميقة لشخص واحد، قد يكون أجبره على شيء ما، في فترة ما (حتى لو كان ذلك الشيء هو قراءة بليك) وعندما لم يستوعب التلميذ البليد شيئاً يفيد (نظراً لغبائه وضحالته)، فقد وجد في قتل الآخرين تعويضاً عن فشله أمامهم، وانتقاماً من الأشخاص الذين يرفعون لديه درجة الإحساس بالوضاعة والدونية (كمن وبخه لوضعه الدبوس في الاستيكة، أو من يجد فيهم ميزة يفتقد إليها)، لذلك يسعى مثل هؤلاء المجرمين لتدمير العالم من حولهم كبديل لعجزهم عن الانتحار، حيث يبالغون في إظهار البطش والقمع والقتل وتصدير الخوف للآخرين تعويضاً عن انعدام شجاعتهم في التخلص من رذائلهم أو من وطأة حياتهم الذليلة.

(7)

نفهم من كلام ريد أن الرغبة في القتل الغاشم تعبر عن رغبة أعمق في الانتحار وهو أن الحياة، وهذه الحالة الانتحارية وهذه الاستهانة بالحياة تصيب السفاحين والمجرمين في أوكار العصابات، كما تصيب الطغاة والمسيطرين في قصور الحكم، إذ تتحول حياتهم إلى معادلة حدية ليس فيها وسط معتدل، فإما أن يعيش الطاغية قاتلاً أو يموت قتيلاً، أو كما يقول المصريون: يعيش هؤلاء الطغاة والمجرمون تحت شعار "يا قاتل يا مقتول".

(8)

استنتج ريد أن القاتل صاحب جسد قوي وعقل ضعيف، وأنه يتمتع بإمكانيات مالية وقانونية تيسر له ارتكاب جرائمه، لتصدير خوفه وهزيمته وفشله للآخرين، لكن هذا لم يكن كافيا لتخلصه من الخوف والقلق والإحساس بالوضاعة، فكان ولابد أن يكرر محاولات التخلص من حياته، أو التمادي في العنف ضد الجميع كمعادل للانتحار الشخصي.

وبناء على نظرية "العنف الانتحاري" بحث المحقق لاند في قوائم من حاولوا الانتحار في السنوات الأخيرة، وتوصل إلى رجل أمريكي الأصل يدعى "أورفيل سوندهايم"، كان متشككا وخائفا وقلقا ويعيش داخل صندوق من زجاج، يخرج منه ليقتل ثم يعود إلى عزلته، وهي الحالة التي اكتشف المثقف ريد أنه يعيشها، لكنه لم يصل إلى حد قتل الآخرين، بل اكتفى بقتل نفسه، ولدغ عوطفه، وحبس مشاعر حبه للفتاة التي تحبه تحت وهم فارق السن.

(9)

الخلاصة أن الصندوق الزجاجي لا يصلح موطنا للأحرار، لكنه انعكاس للطريقة الانعزالية التي يعيش فيها أشباح القصور، فالطغاة تناسبهم قلاع العزلة، وأسوار الحصون التي يتوهمون أنها ستحميهم من الخوف ومن القلق، لكن مصر وأحرارها لا يتحملون الحياة في أقفاص من زجاج.. فإما الاختناق، وإما الانتفاض وتكسير سجون الزجاج في دولة الأشلاء.
  
(في الوداع)

وقد فتَّشوا صدرَهُ/ فلم يجدوا غير قلبهْ
وقد فتشوا قلبَهُ/ فلم يجدوا غير شعبهْ
وقد فتَّشوا صوتَهُ/ فلم يجدوا غير حزنهْ
وقد فتَّشوا حزنَهُ/ فلم يجدوا غير سجنهْ
وقد فتَّشوا سجنَهْ/ فلم يجدوا غير أنفسهم في القيود
(من قصيدة "الأرض" لمحمود درويش)

[email protected]

التعليقات (2)
ظبيه الهاشمي
الجمعة، 21-06-2019 04:22 م
رائعه جدا مقالتك ..
الصعيدي المصري
الجمعة، 21-06-2019 01:20 م
هؤلاء الذين يدعون الان الان الطهارة والمثالية .. ويرثون قتل الرئيس الشهيد مرسي من قبل طاغية عسكري مجرم .. ليرجعوا فقط ثلاث او اربع سنوات الى الوراء .. وليقرءوا ما خطت اقلامهم بأيديهم في وصم الشهيد بكل المسالب والنواقص .. ومدح قائد الانقلاب الملهم .. بل ودعمهم للمجازر او اقلها السكوت عنها في مشهد وموقف تضليلي بامتياز .. يقلبون فيه الحق الى باطل .. وتزين لهم انفسهم الباطل ليروع حقا .. ترى هل ظن هؤلاء باحرار الشعب المصري انهم يمتلكون ذاكرة السمك .. ستظل ايادي هؤلاء المتلونين والمنافقين ممن يحسبون انفسهم على المثقفين والكتاب والاكاديميين .. ستظل ملوثة بدماء الضحايا من المحروقين والمسحولين والمسفوكين والمعتقلين والمطاردين .. وان تتطهر نجاستهم ولو اغتسلوا بماء المحيط ..

خبر عاجل