هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يرى المفكر والفيلسوف المغربي محمد سبيلا، أن مسار التحديث في المنطقة العربية، لا يواجه فقط مشكلة التقليد والهيمنة الغربية، وإنما أيضا تداعيات الربيع العربي، الذي قال بأنه بدأ لغزا تاريخيا، قبل أن يتحول شيئا فشيئا إلى عائق أمام مسار التحديث بمفهومه الفكري والثقافي.
وأوضح سبيلا في حوار فكري شامل وحصري مع "عربي21"، أجراه معه الكاتب والباحث المغربي بلال التليدي، أن الفاعلين الثقافيين والسياسيين والجمعويين في العالم العربي، اعتقدوا بدافع من التحمس لأحداث الربيع العربي، أن هذا الربيع حمال لتباشير وآمال عريضة، لكن بعد ذلك، بدؤوا في الوعي أن هذه التحولات ضخمة في مستويات متعددة، وفيها إرادات مختلفة، محلية ودولية وإقليمية، وأيادٍ ظاهرة وخفية. وبدأ الحديث عن تمويلات وتمويلات مضادة، فبدأت التساؤلات تطغى.
واعتبر سبيلا أن صعود الإسلام السياسي مطلع ثورات الربيع العربي، وانتقاله من الدعوة إلى الدولة، كان من بشائر الربيع العربي، لكنه سرعان ما عاد ليطرح السؤال مجددا عما إذا كان خطوة في مسار التقدم أم العكس.
وهذا نص الجزء الثاني من الحوار:
س ـ هناك رأي يقول بأن التقليد أشبه بسلطة ممانعة ضد تمدد المشروع الديمقراطي في العالم العربي، لكن السؤال هل نقصد بالتقليد فقط ما يرتبط بالثقافة والموروث الثقافي التراثي، أم إن التقليد له تعبير سياسي متمثل في المشروع السلطوي الذي يسعى دائما للتموقع بين موازين القوى السائدة؟
ـ أولا، ينبغي أن نسجل أن مقاومة التقليد ليست جديدة، وليست معطى جديدا، فهذا معطى سوسيولوجي مرتبط بتحول المجتمعات. ثانيا، التقليد له أبعاد متعددة، منها الأبعاد السوسيولوجية المتعلقة بمعنى الحياة، فالتقليد بهذا الاعتبار هو معنى وتنظيم للحياة، وتنظيم للوجود الاجتماعي، ولذلك ليس من السهل تجاوزه أو اقتلاعه. وهناك أيضا البعد الآخر الذي تفضلت بذكره، وهو الجانب السلطوي في التقليد، فالتقليد مرتبط بسلطة متراكمة ومتكثفة، ولا تريد أن تفرط أي سلطة منها في مواقعها، فهذا الجانب أيضا حاضر. فالمقاومة لا تنحصر فقط في شكلها السوسيولوجي، وإنما أيضا هناك مقاومات سياسية ومقاومات فكرية وثقافية.
س ـ دكتور سبيلا، في سنة 2010 و2011، عرف العالم العربي ربيعا عربيا، اختلفت التوصيفات بشأنه، هناك من اعتبره حراكا ديمقراطيا وانتفاضة شعبية تنتصر للكرامة والحرية، وهناك من اعتبره مجرد وهم وسراب وترجمة لإرادات دولية وإقليمية في زعزعة الاستقرار. نريد أن نعرف تقييمك لأثر هذا الربيع على المشروع التحديثي في شقه السياسي؟ هل كان لهذا الربيع دفعة قوية لهذا المشروع التحديثي السياسي؟ أم على العكس من ذلك، ساهم في إحداث نكوص واستعادة التقليد لمواقعه الثقافية والسلطوية؟
ـ أصارحك، بأن الربيع العربي أو ما سمي بالربيع العربي، بدأ لي كلغز تاريخي كبير. في البداية كنت من المتحمسين له، وكتبت وشاركت في ندوات ومؤتمرات، لكن تدريجيا بدأنا نفهم ونكتشف أن حدثا تاريخيا في قوة وكثافة وحجم الربيع العربي، لا يمكن فهمه فهما عميقا وكليا وصائبا إلا بعد عقود. كنا كفاعلين ثقافيين سياسيين وجمعويين، نعتقد بدافع من التحمس لأحداث الربيع العربي، أن هذا الربيع حمال لتباشير وآمال عريضة، لكن بعد ذلك، بدأنا نعي أن هذه التحولات ضخمة في مستويات متعددة، وفيها إرادات مختلفة، محلية ودولية وإقليمية، وأيادٍ ظاهرة وخفية. وبدأ الحديث عن تمويلات وتمويلات مضادة. فبدأت التساؤلات تطغى.
اقرأ أيضا: لا تحزنوا.. الربيع العربي قادم
لنكن صرحاء، أنه في المرحلة الأولى، ظهرت هناك بشائر لاسيما بعد أن صعد التيار الإسلامي إلى السلطة، وانتقل من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة. وهذا تحول كبير محمل بالبشائر، وكان يبدو بالنسبة للمثقفين التحديثيين أو العصرانيين، بمنزل خطوة صحيحة على درب التاريخ أو درب التقدم، لكن تدريجيا، بدأت الأمور تلتبس، وبدا في هذا الربيع، الذي كان محملا بالبشائر، تعثرات ومخاضات كثيرة وأيادٍ محلية وأجنبية وإرادات دولية وإقليمية متقابلة. هناك معطيات تؤيد هذا الحكم، ويبدو أنها تقدم معطيات لحكم، على الأقل إن لم يكن سلبيا، فهو يسمح بإثارة تساؤلات عميقة.
في المحصلة يمكن أن نعتبر أن المرحلة الأولى من الربيع العربي كانت بشائرية، وفي مرحلة وسطى، بدأ هذا الربيع يثير التساؤلات، لكنه انتهى في مرحلته الأخيرة إلى أن يكون نذائريا. ولا بد أن نستفيد من التاريخ. وشخصيا حين أعود لما كتبت في المراحل الأولى، أقول ربما كانت هناك معطيات تبشر وتجدب وتقدم رؤية وردية، لكن بعد التفعالات والتجاذبات التي أعقبته، ومواقف القوى الدولية والإقليمية، أصبح المثقف والمفكر يتحرر من الارتباط اللحظي بالحدث في صورته البشائرية، وينظر للحدث في ضوء فلسفة التاريخ، أي التفكير فيه من زاوية التحولات التاريخية، بما يتضمنه ذلك التفكير في الفاعلين والتفكير في الغايات والتفكير في الديناميات والتفاعلات.
ظهرت هناك بشائر لاسيما بعد أن صعد التيار الإسلامي إلى السلطة، وانتقل من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة. وهذا تحول كبير محمل بالبشائر، وكان يبدو بالنسبة للمثقفين التحديثيين أو العصرانيين، بمنزل خطوة صحيحة على درب التاريخ أو درب التقدم
نحن في العالم العربي، وفي المغرب تحديدا، تلطمنا موجات الحداثة، أقانيم الحداثة السياسية من جهة، وأقانيم الحداثة الثقافية من جهة ثانية، دون أن نغفل أقانيم الحداثة التقنية والصناعية
اقرأ أيضا: كتاب ينتقد منطق الهيمنة ويدعو إلى التعايش بين الثقافات
نضيف في مسألة التعثرات إلى فكرة انعدام التطور المستقل، تلاطم موجات الحداثة، ولماذا أركز على هذه النقطة، لأنها تشوش على المشروع التحديثي، وتمنعنا من التمثل الصحيح لموجاته. الله يكون في عوننا كمجتمعات تتقلى هذه الصدمات، دون أن يكون لها القدرة على استيعاب قانونها التجاوزي. موجات وصدمات تزيدنا ارتباكا، وتزيد وتيرة تطورنا تعثرا. فهذا أيضا معطى جوهري ينبغي أن نأخذه بعين الاعتبار.
ولذلك يمكن أن نعتبر أن الحداثة هي تطور فكرة التطور، وهي دينامية تاريخية مستمرة. وهي تدخل دائما دورات مراجعة تاريخية متكررة، هي في الحقيقة في عملية مضغ دائم لمعطياتها، ومرحلة ما بعد الحداثة هي جزء منها، ولدت في مخاضها وضمن دينامياتها، وكلما تقدمت الحداثة، تزيد نوعا من الشك والتساؤل، وتخلق معها موجات ارتدادية على مرجعيتها.
كان السوسيولوجيون الأوائل مثل ماكس فيبر يتحدث عن الحداثة ونزعة التغني والابتهاج الذي ستجلبه للعالم، وهذا في اعتقادي مرتبط بالمرحلة الأولى للحداثة الظافرة، المحملة بالبشائر، هذه الموجات الابتهاجية، ارتبطت بالعوالم الجديدة التي تخلقها الحداثة، وعلى الخصوص، ما يرتبط بالتقنية وتطور المخترعات: الطائرة، والمدفع والصاروخ. فماكس فيبر أشار إلى أن الحداثة ستخلق البهجة، لكنها بعد ذلك سترتد لتخلق النزعة المعاكسة، أي إطفاء البهجة، أي ستقوم بإطفاء كل الابتهاجات المرتبطة بالتصورات القديمة للعالم، والابتهاجات التي كانت تحملها الرؤية التقليدية للعالم.
اقرأ أيضا: مفكر مغربي: الحداثة في العالم العربي بدأت مشروعا إسلاميا