من قرأ رسالة مقتدى الصدر إلى هادي العامري ورّد الأخير عليها، لا بد ولاحظ أن لغة المغانم والمصالح هي التي جمعت بينهما، فالعمامة النجفية تريد أن تستحوذ وحدها على تسيير حكومة عادل عبد المهدي، ويكون لها حق (الفيتو) على هذا الوزير أو ذاك، في حين كان موقف البندقية البدرية باردا وفيه استخفاف بدعوات مقتدى ومطالبته بمعلومات وافية عن عمليات البيع والشراء للمناصب الوزارية.
فتور في شراكة الصدر والعامري
وواضح أن الشراكة بين الصدر والعامري على حكم العراق، قد اعتراها فتور بين الإثنين، عندما كُلف رئيس الحكومة الجديد عادل عبد المهدي بتطبيق مفرداتها العملية ميدانيا وسياسيا، عبر تقديم كابينته الوزارية التي لم تكتمل لحد الآن، بسبب اعتراض زعيم التيار الصدري على المرشح لوزارة الداخلية فالح الفياض، وهو اعتراض شخصي كما تصفه الأوساط النيابية والسياسية في بغداد، وسببه الرئيسي أن الأخير رفض عندما كان مستشارا للأمن الوطني ورئيسا لهيئة الحشد الشيعي، مطالب حاولت تمريرها مليشيات (سرايا السلام) الصدرية، للحصول على رواتب خرافية لمنتسبيها القليلين، وامتناعه عن تصعيد أحد قادتها إلى القيادة العامة لهيئة الحشد، ومنعه لأتباع مقتدى من تولي مواقع متقدمة في جهاز الأمن الوطني، مما أدى الى أحقاد متراكمة عند الصدر، نفّس عنها الآن ووظفها في رفض توليه وزارة الداخلية.
عندما ترد عبارة (سوية) أكثر من مرة في رسالة مقتدى إلى العامري، (تعاهدنا سوية) و(نمضي سوية) فإنه يقصد بوضوح أن يدار العراق بطريقة ثنائية،
وقد تكشفت في الفترة الأخيرة معلومات جديدة عن أسباب انشقاق الفياض عن حيدر العبادي والتحاقه بتحالف نوري المالكي وهادي العامري مع أكثر من عشرين نائبا من ائتلاف (النصر)، حيث ينقل عن فالح أنه اتفق مسّبقا مع حيدر، وقبل الانتخابات الأخيرة، أنه لا مكان للصدر معهما بأي شكل من الأشكال، خوفا من تقلباته السياسية وخشية من مطالباته الكثيرة، وكان الاتفاق يتضمن أيضا، أن يبقى ائتلافهما أي (النصر) على مسافة واحدة من التحالف الصدري (سائرون) وكتلة (الفتح) العامرية، ولكن الذي حدث أن العبادي أخل باتفاقه مع الفياض، وانحاز الى مقتدى الذي جره الى صفه، مؤملا إياه بولاية ثانية، وهنا حدث الطلاق بين رئيس الحكومة السابقة وكبير حلفائه.
وعندما ترد عبارة (سوية) أكثر من مرة في رسالة مقتدى إلى العامري، (تعاهدنا سوية) و(نمضي سوية) فإنه يقصد بوضوح أن يدار العراق بطريقة ثنائية، بحيث يتم التفاهم بينهما على الصغيرة والكبيرة، ومن ضمنها ترشيح الوزراء لحكومة عادل عبدالمهدي، وهذا أمر يخشاه العامري الذي شعر أن الصدر يريد أن يصبح العراب الوحيد والمشرف الأوحد على الحكومة الجديدة، ويكون هو الشخص الثاني ويخضع إلى إرادة ورغبات مقتدى بلا نقاش، ومن يعرف شخصية زعيم مليشيا بدر التسلطية، وطبيعته العدوانية، يدرك أنه من الصعب قبوله العمل تحت إمرة الصدر الذي يسعى إلى إحاطة نفسه بهالة من زعامة سياسية ومرجعية شيعية (ناطقة) كما يسميها، في وقت لا يعترف بهما أقطاب الشيعة الآخرون، بمن فيهم عمار الحكيم الذي انخرط في (سائرون) انتهازيا.
وفي رسالة مقتدى إلى هادي، إشارة واضحة إلى سياسيي السنّة ضمن ائتلاف العامري، وتنافسهم على صفقات بيع وشراء المناصب الوزارية، وهذه مسألة صحيحة، ولكنها دعوة حق يراد بها باطل، فمقتدى استجاب لرغبة حليفه في تكتل (الإصلاح) إياد علاوي بأن تكون وزارة الدفاع من حصة الأخير الذي رشح لها سليم الجبوري في صفقة اطلع الصدر على تفاصيلها وله حصة فيها، ولكن الذي حصل أن الجبوري الذي سقط في الإنتخابات الأخيرة، لم يحظ بقبول من أغلب (سياسيي السنة) الذين أشارت إليهم رسالة مقتدى، وكانت ملاحظات واعتراضات بعضهم وجيهة بغض النظر عن دوافعها وأغراضها، فالجبوري لا يصلح أن يكون وزيرا للدفاع لأنه لا يفهم في شؤونها ولا يعرف سياقات العمل فيها، حتى وصل الأمر بظرفاء (الفيسبوك) إلى التهكم عليه واعتباره مؤهلا لشغل الوزارة (لأن ابن عمه كان عريفا في الجيش السابق) ومنه يستقي معلوماته العسكرية ويستفيد من خبرته كضابط صف.
مطالب الصدر
وثارت ثائرة مقتدى وهو يواجه مشكلتين في آن واحد، مشكلة إصرار العامري على ترشيح فالح الفياض لوزارة الداخلية، ومشكلة رفض مرشح حليفه إياد علاوي لوزارة الدفاع، وهنا لم يجد غير التغريد بكلام عن الإصلاح والتغيير، وكان صاحبه هادي أذكى منه عندما طالبه بـ (إرسال المعلومات المتوفرة لديكم من أجل متابعتها بكل جدية مع القضاء) وسكت مقتدى ولزم الصمت، وهل يجرؤ على الإفصاح عن رغبته في أن يتولى سليم الجبوري وزارة الدفاع في صفقة فاحت رائحتها قبل توقيعها؟
إنها مأساة أطبقت على العراقيين، عندما يُصبح مليشياويون، قادةً وزعماء ورؤساء ومسؤولين كبارا، يتحكمون بمصير البلاد،
إن الشراكات السياسية المصلحية، كما في شراكة الصدر والعامري، تبقى هشة وغير قابلة للاستمرار، ما دامت منطلقاتها قائمة على التكسب الشخصي، خصوصا وأن الإثنين يفتقران إلى رؤية وطنية ومصلحة عراقية، وتجمعهما عقلية طائفية تخف أحيانا عند أحدهما لأغراض شخصية أو سياسية انتفاعية، كما أن معايير السيطرة والإنفراد والصدارة تغلب على سلوكهما وكل واحد منهما يرى أنه (الشيعي) الوحيد المخلص والملتزم بالمذهب.
إنها مأساة أطبقت على العراقيين، عندما يُصبح مليشياويون، قادةً وزعماء ورؤساء ومسؤولين كبارا، يتحكمون بمصير البلاد، ويفرضون أجندتهم الخاوية من الأفكار النيرة والأعمال الخيرة، ولعلها من المفارقات المحزنة في تاريخ العراق، أن تخرج هذه النماذج الطائفية من دهاليز الظلام والتخلف والعدوانية، وتشرع في نشر مثل هذا الوعي، باسم العملية السياسية وتحت عناوين
أحزاب وكتل وائتلافات تحكمها مصالح شخصية وفي أفضل الأحوال حزبية ضيقة.
اقرأ أيضا: العراق.. صراع العمامة والبندقية بدأ والضحية عبدالمهدي