قضايا وآراء

حماس تقول: دعونى أبتكر إجاباتي الخاصة

هشام الحمامي
1300x600
1300x600
فى رواية "الحرب والسلام"، يحكى لنا الروائي الروسي الشهير تولستوي؛ كيف انتصر الجنرال كوتوزوف على نابليون وهو لا "يقول" مثل مقولات نابليون من نوعية "أربعون قرنا تنظر إليكم من أعلى هذه الأهرامات!"، لكنه "يعرف" كيف يصبر ويسكت ويقاتل ويدفع نابليون لأن يهزم نفسه بنفسه، وفي النهاية ينتصر، وفرق كبير بين من "يقول" وبين من "يعرف".

يوم 11 تشرين الثاني/ نوفمبر، حاولت مجموعة من قوات النخبة الإسرائيلية تنفيذ عملية نوعية لا زالت تفرض إسرائيل عليها تعتيما تاما. تسللت هذه المجموعة إلى عمق ثلاثة كيلومترات في قطاع غزة مستخدمة سيارة مدنية، لكن كتائب القسام اكتشفتها، وحدث اشتباك اشترك فيه الطيران الحربي الإسرائيلي، ما أدى إلى سقوط شهداء فلسطينيين ومقتل قائد الوحدة الإسرائيلية، وهو ضابط برتبة عقيد؛ تمنع الرقابة العسكرية نشر أي تفاصيل عنه (ويبدو أنه كان من النوع بالغ التميز)، وترفض أيضا الكشف عن طبيعة هذه العملية، لكن الروائح التي تفوح من الأخبار تقول إنه كان هناك هدف ثمين، لكن يقظة المقاومة عكست المعادلة، وبدلا من أن تعود تلك المجموعة بالهدف الثمين، عادت بجثة قائدهم الثمين.

لم تكن هذه المواجهة خيار غزة ولا حماس، بل خيار إسرائيل و"آخرين"، لكن المقاومة حققت فيها إنجازات لم تخطر على بال الجميع، ليس فقط إرباك الداخل الإسرائيلي واستقالة وزير دفاعه، ولكن على مستوى التنسيق والتوثيق مع أهم أطراف الصراع، مصر. ولنا أن نتخيل مشهد اللواء أحمد عبد الخالق، مسؤول الملف الفلسطيني في المخابرات المصرية، وهو يحضر المهرجان الذي نظمته كتائب القسام الجمعة في مدينة خان يونس، لتأبين شهداء المواجهة الأخيرة.. صافح الرجل كل قادة حماس، وعلى رأسهم بالطبع يحيى السنوار.. كان من الممكن أن يقوم الرجل بهذه الزيارة الودودة لحماس في مكاتب الحركة، لكن ظهوره بين القادة وعلى خلفية ما حدث الأسبوع الماضي؛ إشارة قوية لا تخطئ العين دلالتها.

هنا سيكون علينا أن نتذكر سبيكة الذهب التي ذكرها الحكيم البشري في معرض حديثه عن الصراع مع إسرائيل، إذ يقول: "نحن لا نتنازع مع العدوان الإسرائيلي - الغربي حول أرض غريبة يطمع فيها كلانا بمعنى أننا لسنا طرفا في صراع بين متنازعين، ولكننا نحن "موضوع الصراع" ذاته.. نحن موضوعه وأحد طرفيه في ذات الوقت، وهذا الوضع يعطينا مزية لا تكون لغيرنا قط، وهي مزية لا ينفد معينها، وما من بلد غلبه المعتدون على أمره وانتهى جهاده ضدهم؛ إلا برد الاعتداء. وقد تكسرت إمبراطوريات أمام هذا الصبر والتصميم، والصبر والمصابرة. وطول النفس تأتّى من أنه في صراع الوجود. وفي مجال الدفاع عن الذات، يمكن للجماعة أن تغلب مرة ومرات، ولكنها مجتمعة أو أي من قواها منفردة؛ لا تملك أن تتنازل عن الحق في الوجود الحاضر أو في البقاء. المستقبل والأجيال تتوالى ولا يؤثر في حقوقهم ما انضغطت به إرادة أسلافهم".

ويضيف: "لا مهرب من استخدام "العنف" عند مواجهة استعمار استيطاني قائم على كسب الأمر الواقع بالقوة، أو يتوسل لذلك بإبادة أصحاب الحق بالطرد أو بالقتل. إذا كان هذا هكذا، فإنه يتعين القول بأن للمقاومة العنيفة ضوابط.. فهي أولا تمارس في الأرض المحتلة عادة وليس خارجها، وهي تمارس ضد الطرف المعتدي، عسكريا كان أو متخذا سمتا مدنيا. وهي مع تنامي الصراع تتنامى وتتسع دائرتها الجغرافية،وتتصاعد وتتمدد وسائل القوة حسب خطط العدو المعتدي وحسب ما يستخدمه من أدوات العنف. والتصعيد "حتمي" لمن يبغى النصر، بما يشمل ذلك من المصابرات والتحرف للقتال والتقاط الأنفاس، ولكن دون إلقاء السلاح ودون كسر إرادة المقاومة، مع ملاحظة أنه لا عنف إلا في الأرض المعتدى عليها، ولا عنف إلا ضد المعتدين. وهذا مما يُستَقرأ من حالات المقاومة الوطنية التي عرفناها في العالم عن التاريخ المعاصر"..

انتهى حديث الحكيم طارق البشري، والذي- بالمناسبة - أتم عامه الـ85 يوم 1 تشرين الثاني/ نوفمبر.. حفظه الله وبارك في عمره.

ما الذي يمكننا أن نصف به ملاحم البطولة التي تقوم بها المقاومة والتي تفوق الخيال الإنساني؟ سواء كان صمودا من الناس في غزة أو إعجازا من المقاومة؟ أين أسطورة "جيش الدفاع الإسرائيلي"؟ أين هي هذه الأسطورة أمام حركة مقاومة تقع تحت حصار لم تعرف له الدنيا مثيلا من قبل (برا وبحرا وجوا)؟.. تخرج حركة مقاومة "شعبية" من قلب شعب محاصر داخل بقعة جغرافية لا تزيد عن 360 كيلومترا، وتقوم بكل هذه البطولات وكل هذا الصمود والصبر، بل وتعاديها أيضا بعض الأنظمة العربية، والتي يفترض أن تكون سندا وعونا لها.. بل أيضا ذاك القابع في رام الله وسلطته العدائية، والذي نرى ونسمع منه كل يوم من مخزيات القول والفعل ما يذكرنا بالقصيدة الناطقة بالوجع التي كتبها محمود درويش "أنا يوسف يا أبي"، وكأنه ينطقها بلسان غزة وأهلها وحماس وأبطالها. ويقول في مقاطع منها: أنا يوسف يا أبي/ إخوتي لا يحبونني/ لا يريدونني بينهم يا أبي/ يعتدون عليّ ويرمونني بالحصى والكلام/ يريدونني أن أموت لكي يمدحوني/ وهم أوصدوا باب بيتك دوني/ وهم طردوني من الحقل/ هم سمموا عنبي يا أبي/ وهم حطموا لعبي يا أبي/ وهم أوقعوني في الجب/ واتهموا الذئب.

لكن المقاومة تفتتح لهم ولنا كل يوم زمنا جديدا، ليس هذا فقط، بل وتبتكر كل يوم إجاباتها الخاصة في زمن العجز العربي العام.
التعليقات (0)