تجربة الإسلاميين في تونس مع الحكم ليسن مقياسا لباقي حركات الإسلام السياسي (الأناضول)
في سنة 2016 أعلنت حركة النهضة تحررها من مصطلح "الإسلاميين" وانتماءها لمصطلح جديد، هو "المسلمين الديمقراطيين"، وذلك على سنن تجربة الأحزاب المسيحية الديمقراطية في أوربا، غير أن عددا من المراقبين، اعتبروا هذا التحول مجرد تكتيك اصطلاحي للتحرر من الوصم الغربي الذي يلاحق الإسلاميين، ومحاولة لتلميع صورة الإسلاميين، من خلال تقديمهم في شكل صورة مشابهة للأحزاب المسيحية الديمقراطية.
شاران غريوال (Sharan Grewal) خريج جامعة برينستون الأمريكية، وزميل أبحاث ما بعد الدكتوراه في مركز سياسة الشرق الأوسط في معهد بروكينز، والمتخصص في التحولات الديمقراطية والإسلام السياسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حاول في ورقة بحثية نشرت هذه السنة (2018) ضمن الدراسات البحثية لجامعة برينستون، اختبار هذا التحول، من خلال المزاوجة بين المقاربة الكمية والكيفية، وذلك بإجراء مقابلات مع برلمانيي الحركة، ومراقبة التوجهات المؤطرة لتصويتهم في الجمعية التأسيسية للدستور التونسي، على القضايا الهوياتية من خلال منهجية إحصائية، ترصد وتتبع التحولات العلمانية داخل النخبة السياسية في حركة النهضة.
تكتسب هذه الورقة البحثية أهميتها من كونها لا تكتفي برصد التحولات الفكرية والسياسية التي تجري داخل إسلاميي حركة النهضة، وإنما تبحث عن محددات تفسيرية، تدعمها بوقائع إحصائية تخص تغير السلوك الانتخابي (التصويت)، والفرز الفكري والعلماني الذي يحدث بناء على المتغيرات البحثية التي طورها الباحث.
الاستئناس بالبيئة الديمقراطية يقود للعلمنة!
تنطلق الورقة البحثية من سؤال مركزي يبحث العامل المحدد الذي يقود الإسلاميين إلى العلمنة، وترك منطلقاتهم الإيديولوجية السابقة وقبول الديمقراطية العلمانية؟
منذ البدء يقترح الباحث للتعاطي البحثي مع هذا السؤال فرضية "قضاء وقت طويل تحت سقف الديمقراطيات العلمانية يقود إلى التغيير الإيديولوجي داخل الإسلاميين"، ويؤكد في خلاصاته الأساسية، أن البيانات الإحصائية المستفادة من المقابلات وتتبع تصويت برلمانيي الحركة، تبرز أن البرلمانيين الذين عاشوا ـ قبل دخولهم لتونس الثورة ـ في الديمقراطيات الغربية العلمانية، كانوا الأكثر تأييدا في تصويتهم لفكرة عدم التنصيص على المرجعية الإسلامية للدستور، بخلاف برلمانيي الحركة الآخرين، الذين عاشوا في ظل أنظمة استبدادية سواء في تونس أو مصر أو الجزائر أو ليبيا أو المغرب. وأنهم كانوا أيضا مؤيدين لإقرار حرية المعتقد وتجريم التكفير.
وقد حاولت الورقة استعراض ثلاث مقاربات بحثية حاولت تفسير ظاهرة اعتدال الحركات الإسلامية وتوجهها نحو العلمنة: مقاربة الحوافز الإنتخابية الذي فسر نشأة الأحزاب المسيحية الديمقراطية، ومقاربة قمع الدولة، والذي ينطلق من فكرة أن الإسلاميين لا يبحثون عن الأصوات، بقدر ما يحاولون تفادي قمع الدولة، وأن تطورهم الفكري والسياسي يندرج ضمن هذا السياق، ثم مقاربة ثالثة، يركز على التفاعلات التي تحصل داخل البيئة السياسية، لاسيما مع الأحزاب السياسية، وأثر ذلك في دفع الإسلاميين نحو القبول بالاختلاف والتعدد والتسامح.
غير أن الباحث اختار تطوير مقاربة رابعة تم استقاؤه من اختبار كيفي، ركز، بشكل خاص، على قضاء وقت طويل في الخارج تحت سقف الديمقراطيات العلمانية، سواء لأسباب تتعلق باستكمال الدراسة، أو باختيار المنفى هروبا من القمع الإستبدادي لنظام بن علي، إذ ركزت الورقة ضمن هذا التفسير الجديد على ثلاث محددات أساسية اعتبرتها سببا في حصول التغيير الإيديولوجي في عقل الإسلاميين: أولها تأثيرات التنشئة الإجتماعية في المحيط الغربي، وثانيها الإتصالات التي تجري داخل هذا السقف الديمقراطي بين المجموعات المختلفة، وثالثها التكوين السياسي والثقافة السياسية التي يحظى بها المغترب داخل السقف الديمقراطي الغربي.
ولاختبار هذه المقاربة التفسيرية، اشتغلت هذه الورقة على حركة النهضة، والانقسامات التي حدثت في أوساطها بخصوص الموقف من الدستور، وركزت بالاعتماد على بيانات إحصائية على الفرز الذي حصل بين مجموعتين داخل الكتلة البرلمانية في الهيئة التأسيسية لصياغة الدستور التونسي، التي تميل نحو التفاوض والاعتدال، والأخرى التي تتشبث بالمواقف المحافظة في تعاملها مع المقتضيات الدستورية.
الانتشار العلماني داخل الإسلاميين
اعتمدت الورقة في منهجيتها الإحصائية على استمزاج رأي 89 من برلمانيي الحركة من أعضاء بالهيئة التأسيسية، مركزة على النقاشات التي تم التداول حولها، والمفاوضات غير المباشرة التي تمت داخل هذه الهيئة للتوصل إلى اتفاقات حول صياغة مقتضيات دستور ما بعد الثورة التونسية.
ومع أن حركة النهضة كانت في الغالب تصوت باعتبارها كتلة موحدة في معظم القضايا الدستورية، إلا أن الورقة اختارت الاشتغال على القضايا التي حدثت فيها تمايزات داخل صف برلمانيي حركة النهضة، خصوصا ما يتعلق بالقضايا الهوياتية ودور الإسلام في تأطير الحياة الدستورية والسياسية والقانونية، معتبرة أن الفرز بين الليبراليين والمحافظين في جسم حركة النهضة، يمكن أن يشكل قاعدة لاختبار المقترب التفسيري الذي ذهبت إليه الورقة.
وفي هذا السياق، تم التركيز على الخلاف حول ثلاث قضايا: قضية "القرآن والسنة كمصدرين رئيسيين للتشريع"، وقضية حرية المعتقد، وقضية تجريم التكفير.
ولاحظت بناء على الفرز الجغرافي الذي أجرته لمكونات الكتلة البرلمانية لحركة النهضة، والتي تضم 18 برلمانيا ممن كانت لهم تجربة سابقة في العيش في أوروبا تحت سقف ديمقراطي، أن الأصوات المؤيدة للأفكار الليبرالية بخصوص هذه القضايا الثلاث تعود لهذه الفئة. فعلى سبيل المثال، سجلت البيانات الإحصائية للدراسة أن 17 برلمانيا داخل حركة النهضة لم يكونوا مؤيدين للتنصيص على مصدرية القرآن والسنة في التشريع في التصويت الذي أجري بتاريخ 4 كانون ثاني/يناير 2014، في حين أيد ذلك 22 برلمانيا، وامتنع 38 منهم، وتغيب 12، إذ بينت المعطيات الإحصائية الدقيقة بحسب المتغيرات المعتمدة، أن هناك فرزا وتمايزا دالا داخل مكونات هذه الكتلة البرلمانية، حيث حصل اختلاف كبير بين كتلة البرلمانيين الذين كان لهم عيش سابق في الغرب تحت السقف الديمقراطي العلماني (6.2 في المائة فقط أيدوا أن يكون القرآن والسنة مصدرين للتشريع) وبين الذين لم يغادروا تونس، (31.5 في المائة أيدوا أن يكون القرآن والسنة مصدرين للتشريع) والذين عاشوا تحت ظل الأنظمة الاستبدادية في شمال إفريقيا (57 في المائة ايدوا أن يكون القرآن والسنة مصدرين للتشريع).
واستندت الورقة البحثية على هذا التحول الدال في كتلة الذين اغتربوا من قبل في البلدان الأوروبية الديمقراطية، لتؤكد مقتربها التفسيري الذي يركز على دور التنشئة الاجتماعية في بلدان الغرب الديمقراطي العلماني، وكذا الاتصالات مع مجموعات مختلفة، والتكوين السياسي الذي حظوا به في هذه البلاد، وكون هذه العوامل الثلاثة ساهمت في تغيير منطلقاتهم الإيديولوجية ودفعهم للاقتراب أكثر من الديمقراطية العلمانية.
ملاحظات منهجية
لا تخلُ المقاربة التي اقترحها الباحث من جدية في الطرح، فجدير بالاهتمام أن يتم التوقف عند التمايزات التي تخترق مكونات الإسلاميين وحتى أجيالهم، ومعرفة المحددات التفسيرية لذلك، لكن في عملية الفرز هذه، تبقى الصعوبة في تتبع عنصر الاطراد، وما إذا كان هؤلاء الذين انسحب عليهم المعيار البحثي، أي العيش مدة في الغرب تحت سقف الديمقراطية العلمانية، ينتجون بالضرورة وبصورة أغلبية مواقف علمانية في كل القضايا، وليس فقط في ثلاث قضايا تتعلق بالهوية والمرجعية الدستورية، في سياق مخصوص كانت فيه حركة النهضة تبحث عن خيارات لإنجاح عملية الانتقال الديمقراطي والخروج بتونس من وضعية الاستبداد السياسي وإنقاذها من الارتهان للثورة المضادة.
وفي هذا السياق، يمكن أن تجرى دراسات تختبر الموقف من قضية المساواة في الإرث، وهل كانت المجموعة التي عاشت في الغرب، أقرب إلى الموقف العلماني في هذا الموضوع، أم أنها عبرت عن موقف محافظ؟
ولذلك، نقدر أن فترة ترتيب الانتقال الديمقراطي، تشكل سياقا سياسيا مخصوصا يشوش على هذا المقترب، ويجعل منه مجرد مقترب جزئي لا يضاهي المقتربات الأخرى التي تركز على عالمية المشاركة السياسية أو عالمية الحوافز الانتخابية أو عالمية الإدماج السياسي في تفسير التحولات، لاسيما إن في طرح هذا المقترب الجديد تحدي تعميمه على حركات أخرى غير حركة النهضة، مثل جماعة الإخوان في مصر، التي يعيش عدد مهم من قياداتها في بلاد الغرب وفي ظل ديمقراطية علمانية، دون أن يؤثر ذلك في تغير إيديولوجيتهم الفكرية والسياسية، بالحجم والمستوى الذي تمت ملاحظته في حالة النهضة.
وعلى العموم، تبقى هذه مجرد ملاحظات، تحاول اختبار صدقية المقترب التفسيري من مدخل ملاحظة إمكانية التعدية والتعميم على قضايا أخرى في سياقات سياسية مختلفة عن سياق ضغط عملية إنجاح الانتقال الديمقراطي، وأيضا إمكانية سحب النموذج على تجارب إسلاميين آخرين وملاحظة التحولات التي تتمخض في أوساطهم من مدخل الشريحة التي عاشت في بلاد الغرب وخضعت لتنشئة اجتماعية هناك، وأتيحت لهات الفرصة للقاء مجموعات مختلفة وللحصول على تكوين سياسي مختلف.