لعلها المرة الأولى التي يتوحد فيها الوسط الديني بكل مكوناته في
تونس. لم يحصل ذلك حتى في مطلع الاستقلال عندما أسدل الستار على جامع الزيتونة كمؤسسة تعليمية، وانقسم الزيتونيون يومها بين قابل بقرار توحيد التعليم بمختلف مكوناته وخضوعه للدولة الجديدة، في حين سكت البقية وارتفعت أصوات قليلة محتجة على ذلك.
اختلفت المعطيات هذه المرة حيث حصل تقاطع بين أغلب أساتذة الجامعة الزيتونية مع جميع أئمة المساجد وكل الجمعيات الدينية التي تشكلت بعد الثورة، إلى جانب المجلس الإسلامي الأعلى ذي الصوت الضعيف، وحتى بعض المثقفين المعروفين بتوجهاتهم المستنيرة اصطفوا هم أيضا وراء هذا الموقف.
لم يبق على الحياد سوى مفتي الديار التونسية بحجة أنه لم يتلق التقرير بصفة رسمية لكي يطلع على مضامينه ويقدم الرأي الديني "الرسمي" لها .
مسألة واحدة جمعت كل هؤلاء -رغم اختلافاتهم- تتمثل في رفضهم القاطع لتقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة التي شكلها الرئيس الباجي قايد السبسي قبل أسابيع قليلة.
يشعر هؤلاء بحالة نفسية وثقافية مفعمة بالاستفزاز والتحدي، وبدا لهم وكأن "ريحا" قادمة من بعيد تجري بنسق سريع وتريد أن تقتلعهم من جذورهم، وتدخلهم في أجواء يعتبرونها غريبة عنهم ستفسد حياتهم وتفقدهم إرادتهم وتضعهم أمام مصير مجهول.
هكذا خيل الأمر للكثير منهم. وهي حالة طبيعية تمر بها المجتمعات القلقة عندما تطرح عليها بعض الأسئلة الكبرى.
إنها معركة
الأسرة من جديد. فالحملة التي تقودها كل هذه الأطراف شعارها المركزي هو حماية العائلة بكل ما تتضمنه من قيم وصور وعلاقات يختلط فيها الدين بالتقاليد والأعراف وموازين القوى الاجتماعية.
ورغم أن الكثير من هؤلاء المنخرطين في هذه الحملة يقرون بأن تغييرات جذرية حصلت في العوالم الرمزية والمادية للأسرة التونسية، إلا أنهم غير مهيئين الآن للتفكير بهدوء وعقلانية لتحليل هذه المتغيرات والقبول بإجراءات قانونية وذهنية تتعلق بإعادة هيكلة المستقبل وفق قواعد جديدة.
كما أنهم يشعرون بأن هناك من يريد إقصاءهم من المشاركة في صياغة هذا المستقبل، مقابل تمكين من يصفوهم بـ"الأقلية العلمانية" من الانفراد مرة أخرى برسم السياسات.
تمثل الأسرة الملجأ الأخير للأفراد، كما أنها تشكل العمود الفقري للمجتمعات العربية والإسلامية بالخصوص. إنها العنصر الرئيس لضمان التوازنات القائمة. ولهذا كلما تم الاقتراب من هذه الدائرة الحساسة إلا وتضاعف الشعور بالخطر لدى أوساط واسعة في المجتمع.
يضاف إلى هذا العامل السوسيولوجي الهام عامل آخر في غاية الحساسية ويتعلق بالعامل الديني. وارتبطت الأسرة بالدين والثقافة إلى حد كبير. فالمعركة الدائرة منذ حوالي قرنين بين المتدينين والحداثيين رجحت باستمرار كفة الطرف الثاني على حساب الطرف الأول الذي فقد السيطرة على الواقع الاجتماعي منذ فترة طويلة وتواصل تراجعه التاريخي إلى حد اللحظة الراهنة.
في الأثناء، حصلت تغييرات تشريعية كاسحة ومتتالية داخل مختلف القطاعات الرئيسية للمجتمع بدء من تنظيم الدولة عسكريا وإداريا، وصولا إلى الاقتصاد والتعليم والقضاء والتربية والإعلام.
إذ في كل مرة يتراجع الفقه الإسلامي لصالح القوانين الوضعية التي تكاد تنفرد بمختلف المجالات ولم يبق أمامها سوى جوانب صغيرة من الفضاء الأسري المتصدع. ولهذا يدافع ممثلوا الوسط الديني بقوة عن هذا المربع الأخير الذي يراد الآن سحبه منهم بطرق ملتفة، ويعتقدون بأنهم يخوضون الآن معركتهم الأخيرة -معركة البقاء-.
هكذا يجب أن يفهم السياق الراهن لما يجري في أذهان الأطراف المعبرة عن الوسط الديني سواء في تونس أو في غيرها من دول المنطقة.
يتبين من خلال جميع التقارير والبحوث أن الأسرة التقليدية حتى في المجتمعات الأكثر محافظة لم تتمكن من الصمود، واضطرت في كثير من الحالات إلى القبول بالتكيف وحتى ممارسة الازدواجية من أجل البقاء.
لكن هذه الوضعية الهشة والتراجيدية أحيانا يجب ألا تدفع في المقابل نحو استنساخ التجارب الغربية، وهي تفرض على النخب البحث عن الحلول الكفيلة بحماية الأسرة من جهة، وتفعيل دورها ضمن السياقات الحديثة من جهة أخرى.
يجب أن تتوفر القدرة لدى هذه النخب على استشراف المستقبل، والتهيؤ من الآن للتحكم في المسارات القادمة بطريقة تحمي التوازن الاجتماعي، وتتجنب في الآن نفسه سياسة دفن الرؤوس في التراب.
الدفاع عن الأسرة معركة هامة وضرورية نظرا لكونها تتعلق بالوجود الجماعي، لكن هذه المعركة لابد أن تدار بذكاء ووعي لا بالتشنج وبناء جبهات الرفض المطلق لمختلف الأسئلة التي يفرضها التطور الاجتماعي وتمليها النتائج الجديدة لمختلف العلوم، إذ لابد من اكتساب النضج المعرفي والتمتع بقدرة عالية على الاقتراح وتقديم البدائل.
الرفض وحده لما يدرجه الآخرون لا يكفي لأنه قد يؤجل القرار السياسي بشكل مؤقت، غير أنه في العمق موقف من شأنه أن يؤدي إلى هزيمة أصحابه وإخراجهم من دائرة الفعل في حال عدم انخراطهم الجدي في وضع سياسات واقعية وبناءة وتشاركية.
الواضح أن الظاهرة الدينية تستعيد حيويتها هذه الأيام في تونس، حيث تتوحد عناصرها بشكل لافت، لكنها في الآن نفسه تفتقر هذه الظاهرة للوضوح الاستراتيجي، وتستند فقط على رفض ما يصدر عن الأطراف العلمانية دون أي تأسيس لفكر جديد أو بناء منظومة اجتماعية بديلة.
إنها تبحث عن تأسيس "سلطة مرجعية" ذات طابع احتجاجي، وإذا استمرت الحالة على ما هي عليه، فإن الصراع الإسلامي العلماني مرشح لمزيد من التوسع والصدام، وسيكون لذلك تداعيات مستقبلية خطيرة على الأمن القومي بسبب التيارات السلفية العميقة التي تستغل هذه الأجواء الصاخبة لتقوم باختطاف الظاهرة الدينية وتوجيهها نحو الاحتراب والكراهية.