يحمل التاريخ قصصا قد يراها البعض غريبة لاندلاع الحروب بين الدول، فلا تستغرب أن تقرأ عن حرب استمرت أربعين سنة بين عشيرتين عربيتين بسبب ناقة (حرب البسوس)، ولا تندهش عندما تعرف أن حربا قامت بين المكسيك وفرنسا بسبب المعجنات (الفطائر)، ولا يهولك خبر الحرب التي اندلعت بسبب لحية الملك لويس السابع بين إنجلترا وفرنسا.
فلو كان الأمر كذلك، فإن استدعاء
السودان للسفير
المصري وإبلاغه احتجاج السودان الرسمي على خلفية المسلسل التلفزيوني (أبو عمر المصري)، الذي يصور مصريين مقيمين في السودان يتخذون من السودان مقرا ومنطلقا لهم لتنفيذ عمليات إرهابية، وهو ما يجعل من غضب السودان في محله، لا سيما أن المسلسل يعطي صورة سلبية عن السودان، الذي يتعافى من عقوبات دولية وأمريكية على خلفية وضعه على قوائم الدول الراعية للإرهاب.
وجاء في خطاب الاحتجاج الذي سلمته وزارة الخارجية السودانية للسفير المصري: "منذ بداية شهر رمضان، يعرض مسلسل تلفزيوني قدمته القنوات الفضائية المصرية بعنوان "أبو عمر المصري" السودان كدولة مضيفة للإرهابيين المصريين".
وشددت الوزارة على أنه لم يتم أبدا اتهام أي مصري يعيش في السودان بالإرهاب، وأن هناك تنسيقا أمنيا ممتازا بين البلدين. وهو أتى في أعقاب اتفاق تم التوصل إليه بين مصر والسودان، حيث لن يكون هناك أي أعمال عدائية بين البلدين.
وذّكرت الخارجية السودانية النظام المصري بذلك التعاون المستمر بين سفارتها في القاهرة ووزارة الخارجية المصرية، إلى جانب التعاون بين السفارة المصرية في الخرطوم ووزارة الخارجية السودانية، إلا أنه مع ذلك، رأى السودان أن هذه الصور النمطية السلبية التي رسخها المسلسل كانت مهينة للمصريين الذين يعيشون في السودان، ومن ثم للسودان بالنتيجة.
الغضب السوداني يراه الكثيرون في محله، وإن حاولوا سحب المشاكل بين النظام المصري والسودان على خلفية أزمة سد النهضة إلى المشهد لتبرير هذا الغضب، التي يرى المراقبون أن النظام المصري هو من صنعها بتعاطيه بشكل لا يصب في مصلحته ولا مصلحة شركائه في هذه الأزمة، ويريد في المقابل أن يحمّل باقي أطرافها سبب حالة الانسداد التي وصلوا إليها.
وكجزء من التصعيد، يستخدم النظام المصري كل أدواته. وفي السياق نفسه، وفي محاولة للتصعيد شعبيا، يأتي مسلسل أبو عمر المصري ليخرب العلاقات الشعبية بين البلدين من ناحية، ويورط الحكومة السودانية من ناحية أخرى.
لكن ماذا لو قام السودان بإنتاج مسلسل "أبو عبد الفتاح السوداني" يجسد فيه شخصية سوداني يعيش في مصر يدعم
الإرهاب، ويقدم معلومات مخابراتية لجهات معادية للسودان، ويتلقى دعما من دولة جارة لإيصاله للمتمردين في غرب السودان، أو لدعم الانفصاليين في جنوب السودان، أو أن يقوم أبو عبد الفتاح السوداني بتهيئة الطريق للدفع بعناصر عسكرية من دولة جارة لزعزعة استقرار السودان، أو أن يقوم بالتوسط بين هذه الدولة الجارة ودولة أخرى؛ لإرسال قوات عسكرية لتهديد الحدود السودانية، وإثارة البلبلة في الشارع السوداني بدفع المظاهرات لإسقاط الحكومة السودانية بحجة الغلاء.
المسلسل المصري وما يحتويه من فكرة أريد له أن يضرب المعارضة المصرية المقيمة في السودان، ثم انحرف عن مساره بما حوى من كم كبير من الغباء وعدم الرؤية والفهم لمعطيات العلاقات الخارجية المصرية، بل وعدم الوعي بخريطة الأمن القومي المصري الذي يمثل السودان النقطة الأهم فيه.
ومن المعلوم بداهة أن العمل الإعلامي في مصر لا يمرر إلا بعد موافقة أمنية يشرف عليها الجهاز الأمني الأقوى في النظام، وهو ما يؤكد أن هذا الغباء لا يقتصر على صانع المسلسل، بل هو مقصود وموجه من عقل النظام المدبر ومدير أعماله، وهو ما يظهره تحركات النظام جنوبا في السودان وغربا في ليبيا بخطوات لا يمكن تصنيفها إلا في إطار تخريب علاقات مصر التاريخية بأشقائها، الذين يمثلون صمام أمان لمصر وللأمة العربية والإسلامية، وهو ما يؤكد الدور الوظيفي الذي يقوم به هذا النظام لتخريب علاقات مصر الاستراتيجية وخرق لمنظومة الأمن القومي المصري، الذي يصب في النهاية في مصلحة أعداء هذه الأمة.