قضايا وآراء

دلالات ثورة يناير في التاريخ المصري المعاصر

عبد الله الأشعل
1300x600
1300x600

في الخامس والعشرين من يناير 2011، أجمع الشعب المصري على رفضه لنظام الرئيس حسني مبارك، بعد ثلاثين عاما من المحاولات والحركات التي تطالب بالتغيير، وتطالب بتداول السلطة وفقا للدستور على كل المستويات، خاصة بعد أن تكررت إشارات بأن النظام يحاول توريث السلطة في أسرة مبارك، ونقلها من التوريث في الأسرة العسكرية إلى التوريث في أسرة الحاكم العسكري. وقد ثار لغط كبير حول هذه النقطة وغيرها، ولكن يهمنا في هذه المقالة، وفي الذكرى السابعة لثورة يناير، أن نؤكد  الدلالات الثابتة لهذه الثورة.

الدلالة الأولى هي أن قيام هذه الثورة في الخامس والعشرين من يناير؛ قد التبس مع عيد الشرطة المصرية. فقد ظنت الشرطة المصرية أن الشعب المصري اختار هذا اليوم لكي يطمس دلالته في تاريخ مصر المعاصر، وأن الشعب اختار هذا اليوم لكي يؤكد انتصاره على الشرطة التي أساءت إليه، وانتهكت حقوق أبنائه، بالسجن والاعتقال والتعذيب والقتل، وغير ذلك.

ولا شك أن هذا التصور له ظل من الحقيقة، ولكن الدلالة التي نريد أن نفصل فيها بين حق الشعب وحق الشرطة، تشير إلى أن الشعب المصري قد اختار هذا اليوم حتى يقول للشرطة رسالة واضحة، وهي أن عيد الشرطة في ذلك اليوم يجب أن تحترم قداسته، ذلك أنه في ذلك اليوم من عام 1952 تصدى رجال الشرطة في قسم الإسماعلية للجيش البريطاني في معركة غير متكافئة، ويبدو أن حزب الوفد، ووزير الداخلية في ذلك الوقت، سراج الدين، قد عمد إلى تأكيد الوطنية المصرية، التي كان حزب الوفد يتقدم رموزها، بصرف النظر عن الخسائر الفادحة التي منيت بها الشرطة المصرية.

أراد الشعب المصري أن يقول للشرطة المصرية إن هذا اليوم هو ذكرى مقدسة لمن ضحوا بأنفسهم دفاعا عن الشعب المصري والوطن، وأن الشرطة بعد ذلك انحرفت عن هذا المسار وصارت عدوا لهذا الشعب.

أما الرسالة الثانية التي يرمز لها هذا النوع؛ فهي أن الشرطة لا يجوز أن تستخدم أداة للتنكيل بالشعب وقهره إذا ثار على حاكم اعتبره فاسدا وظالما، وانحرف عما ارتضاه الدستور المصري بصرف النظر عن المحاكمات وظروفها التي تمت برموز النظام الكبيرة.

 

اعتقدت الشرطة أن الشعب قد انتصر عليها، وكأنها ليست جزءا منه، وتمكنت من العودة لأفظع مما كانت لتؤكد أنها هي التي انتصرت على الشعب


الرسالة الثالثة لهذا اليوم؛ هي أن الشعب والشرطة معا كانا ضحيتين للنظام، وأنه أوقع الطرفين في أزمة أخلاقية، بحيث لم تعد الشرطة في نظر الآخرين هي الحامي للحقوق والحريات، وإنما هي سوط الحاكم يجلد به شعبه ويقهر به إرادته.

ولكن للأسف الشديد اعتقدت الشرطة أن الشعب قد انتصر عليها، وكأنها ليست جزءا منه، وتمكنت من العودة لأفظع مما كانت لتؤكد أنها هي التي انتصرت على الشعب، وليس من حقه أن يعترض على الحاكم.

والصحيح الذي نريد أن نؤكده في هذه المناسبة، هو أن الشرطة في خدمة الشعب وأن الشعب يحتضن الشرطة ويحافظ عليها، حتى رغم تحمسها لحماية الحاكم المتجاوز خاصة، وأن الشعب ثار على الحاكم ثورة سلمية ولم تكن حركة الشعب أصلا موجهة إلى الشرطة. ولكن الشرطة هي التي تصدت للشعب بالقتل والتنكيل، وقد آن الآوان لكي تستقيم العلاقة بين الشعب والشرطة، فلا معنى لتحصين رجال الشرطة من المحاكمة، ولا معنى لإطلاق يد الشرطة في التعذيب والقتل والإخفاء القسري وغيرها من الممارسات الشاذة، التي تستفز الشعب وتقطع جذور المودة بينه وبين الشرطة.

ولا بد أن تكون الشرطة أول من يحترم القانون، وإن تصريحات بعض الضباط بأنهم السادة وأن الشعب هم العبيد؛ يجب أن يحاكموا عليها، وأن تصدر تعليمات مشددة من قيادة الشرطة بوقف هذه التجاوزات التي نحسب أنها سلوك شخصي من جانب بعض الضباط الذين يعانون عقدا نفسية. فمصر لا تحتمل أن يظل العداء قائما بين الشعب وشرطته، وأن يظل شعارها الشرطة في خدمة الشعب.

 

نسجل لهذا الشعب أنه رغم غضبه ومحاولاته المجهضة لتنبيه الحاكم؛ قد سلك سلوكا سلميا حضاريا

الدلالة الثانية أن ثورة يناير كانت ثورة شعبية نبيلة انتفض فيها الشعب كله ضد نظام رفض التغيير. وكانت الرسالة واضحة: إما أن يغير وإما أن يتغير. فلم تكن الثورة ضد حاكم صالح، وإنما وصل الأمر إلى تحدي إرادة الشعب؛ عندما زوّر علنا الانتخابات البرلمانية، وتباهى مهندس التزوير بسوء عمله، فسقطت شرعية الحكم الأخلاقية، وصار الحكم بلا غطاء شرعي لا تسنده سوى القوة الخرقاء. ونسجل لهذا الشعب أنه رغم غضبه ومحاولاته المجهضة لتنبيه الحاكم؛ قد سلك سلوكا سلميا حضاريا، مما تعد إهانة له تلك الدعاوى المتزايدة بأن الشعب المصري كله انخرط في مؤامرة خارجية ضد الحاكم، وأن واشنطن التي لها النصيب الأوفى للتأثير على مصر ومسارها؛ هي التي دبرت لهذه المؤامرة.

هذه الثورة يجب أن يفخر بها نظام مبارك والحكام الذين تولوا حكم مصر بعده؛ لأن تاريخ الشعوب هو الأبقى، ولا يجوز تشويهه لأغراض؛ مهما عظمت فهي في النهاية ضد مسار التاريخ.

الدلالة الثالثة هي أن الثورات عادة لا يحكم عليها بالنجاح والفشل، وإنما هي هبات شعبية تطالب بالتغيير، وهذه هي مهمة النظم التي تأتي عقب الثورة. ومع كل احترامنا لكل الكتابات التي تحدثت عن أن الثورات تحقق أهدافها بعد عقود، فإن هذا ليس أمرا حتميا. وإذا كانت القوة المضادة للثورة تدافع عن مصالحها مع فئة أخرى قليلة، فإن عملية التخمر تستغرق وقتا أطول. ولذلك، لا يمكن وقف حركة التاريخ واعتقالها. فقد قام عرابي بثورته ضد الخديوى، وانقلب عليه الشعب المصري بسبب الإنجليز، بل إن ثوار يناير قد أصبحوا أيضا العرابيين الجدد، ولكن ذلك كله عقبات صغيرة في وجه الفيضان الذي انطلق في يناير، وسوف تحقق هذه الثورة أهدافها كاملة في إقامة دولة مدنية كاملة واستقلال الإرادة المصرية، وأن تكون السيادة للشعب الواعي في دولة تحترم الدستور والقانون وحقوق الإنسان، وذلك سوف يتحقق قطعا مهما طال الزمن.

الدلالة الرابعة هي أن ثورة يناير لم تظهر فجأة، وإنما تراكمت أسبابها عبر عقود، ثم لاحت لحظة انفجارها والإعلان عن هدفها. وكان يتوقع أن تتولى السلطة التي أعقبتها تحقيق هذه الأهداف، ولكن حدث العكس. والمحقق أن ما يحدث في مصر يؤثر على كل الجسد العربي، ولكن القوى الإقليمية والدولية، وأبرزها إسرائيل، أفزعها أن تصبح مصر في وضعها الطبيعي في المنطقة بعد انكسارها التاريخي عام 1967.

 

الظاهرة تعني تزايد الدور السياسي والاقتصادي والعسكري للخليج في سياسات الشرق الأوسط الكبير


الدلالة الخامسة هي أن البيئة العربية والتدخل الأمريكي والتوحش الإسرائيلى؛ قد أنتجوا ظاهرة جديدة اسمها الخلجنة (gulfness). هذه الظاهرة تعني تزايد الدور السياسي والاقتصادي والعسكري للخليج  في سياسات الشرق الأوسط الكبير. هذا المعنى يعالجه كتاب يصدر في آذار/ مارس من هذا العام، ألفه ثلاثة من المتخصصين في شؤون الخليج والعالم العربي، تحت عنوان (Gulfization of the Arab World). وقد عالج المؤلفون أيضا تصدي الخليج للثورات العربية، واستخدام علاقاته مع الولايات المتحدة لإجهاض هذه الثورات، كل حسب البلد الذي قامت فيه الثورة. وهذه الحقيقة تدحض الافتراء بأن الثورة المصرية صناعة أمريكية.

وهو الأمر الذي أكدته أيضا هيلارى كلينتون في مذكراتها، بعنوان "قرارات صعبة"، وهي المذكرات الوحيدة التي نشرت باسمها، بعيدا عن التدليس وانتحال مذكرات أخرى؛ لتعزيز رواية المؤامرة، وهي محاولة داحضة. وبهذه المناسبة نريد أن نقرر قاعدتين ثابتتين بالنسبة لمصر. منذ عام 1979 بالذات استقرت في الواقع القاعدة الأولى التي عبر عنها صديقنا د. مصطفي الفقي؛ بأن حاكم مصر لا بد أن يكون من اختيار واشنطن، وترضى عنه إسرائيل، أي إن الشعب المصري ليس طرفا في الاختيار. القاعدة الثانية هي التي اجتهدنا فيها من ملاحظتنا على الوضع في مصر طوال ستة عقود، وهي أن واشنطن تشترط شرطين غير مكتوبين في حاكم مصر؛ الشرط الأول أن تكون له شعبية كبيرة، والشرط الثاني أن تكون نسبة تعاونه أو تبعيته للولايات المتحدة عالية. فإذا تخلف أي من الشرطين؛ أنهى الحاكم في مصر. فعبد الناصر كانت له شعبية طاغية، ولكنه لم يكن محل رضى للولايات المتحدة فسقط.

 

واشنطن تشترط شرطين غير مكتوبين في حاكم مصر؛ الشرط الأول أن تكون له شعبية كبيرة، والشرط الثاني أن تكون نسبة تعاونه أو تبعيته للولايات المتحدة عالية

أما السادات، فكانت له شعبية كبيرة، خاصة بعد أن أقنع الشعب بأن السلام مع إسرائيل سيوفر أموال الصراع للرخاء والتنمية. ولكن السادات استنفد خدماته، فاختفى في ظروف مأسوية. وأما مبارك، فقد كان متعاونا لأقصى حد مع واشنطن، بصرف النظر عن أزمة شرم الشيخ بينه وبين بوش، ولكن شعبية مبارك تراجعت كثيرا، وسوءات النظام لا تتحملها واشنطن. ولذلك سقط مبارك، رغم محاولات إسرائيل - كما قال نتنياهو - لإجهاض الثورة في ميدان التحرير. وهكذا تصدق القواعد نفسها على حاكم مصر؛ إلى أن تتغير المعادلة، مع كل احترامنا لهؤلاء الحكام جميعا السابقين والحاليين.

ستبقى ثورة يناير أعظم إنجاز حضاري في تاريخ الشعب المصري، وإن أهدافها مهما تراخت الأيام في إنجازها سوف تتحقق يوما، ولكن التحدي الأكبر هو الظاهرة الخليجية التي حلت محل مصر الناصرية، فتغيرت المعادلات الإقليمية.

التعليقات (0)