هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
التكفير وبراءة سيد قطب
ذكرت من قبل أنه انضم إلينا عام 1968 ما يقرب من 70 أو 80 أخا من قضية 1965، وقد نشأت في بعضهم بذور فكر التكفير. وفي الحقيقة بذلنا معهم جهدا كبيرا، فهم إخوة كرام نحبهم، ولكن تفكيرهم كان قد اضطرب من جراء الأحداث التي مروا بها، وعدم وجود من يوجههم التوجيه السليم. وظللنا من 1968 حتى 1971 نحادثهم ونحاورهم، ودارت بيننا وبين الأستاذ الهضيبي رسائل وحوارات؛ كتب على ضوئها كتاب "دعاة لا قضاة"، جمع فيه النقاط التي يثيرها أصحاب هذا الفكر، ورد عليها ردا شافيا. ثم أتى الأمر الحاسم من الإمام الهضيبي، وأرسل إلينا: "من أراد أن يلتزم بفقه الإخوان وفكرهم فأهلا به ومرحبا، ومن لم يرد ذلك فليفارقنا ويلتزم بالطريقة التي تعجبه". فالتزم جميع الإخوان تقريبا بالصف، عدا ثلاثة أو أربعة.
وبداية اتجاههم هذا الاتجاه أنهم كانوا يمتثلون بفكر سيد قطب، ويقولون إنه هو الذي يقول ذلك. والحقيقة أنهم هم الذين لم يفهموا سيد قطب، وكل ما هنالك أن الأستاذ سيد قطب بعد حادثة سجن طرة (التي قتل فيها عدد كبير من الإخوان غدرا) بدأ يكتب "في ظلال القرآن" بلهجة أخرى. وعندما وصل لسورة المائدة (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)، أعطاها صورة يفهم منها أن هؤلاء الناس كفرة. ومثلما كنت أقول للإخوان: من فقه الإسلام وفقه فكر الإخوان يزداد إيمانا وعلما بكلام سيد قطب، ولكن الشخص الذي ليس له فقه سليم قائم على قواعد إسلامية صحيحة، وليس له معرفة بالشرع والحلال والحرام، وليس لديه ثقافة إسلامية واسعة، فمثل هذا الشخص الذي يكفّر الناس. ولذلك كان كلام سيد قطب يزيد الإخوان، من أصحاب الفكر والعلم، إيمانا، ولكن الآخرين الذين يأخذون القشور؛ كانوا يكفرون الناس ويقولون إن سيد قطب هو الذي يقول ذلك.
وبالنسبة لكتاب معالم في الطريق الذي اتهموا الشهيد سيد قطب بأنه كفّر فيه المجتمع، فقد قرأناه قبل أن يصدر، وبعد أن صدر وتم نشره. فقد أرسل سيد قطب إلينا ذلك الكتاب قبل طباعته، وأرسل إليّ شخصيا خطابا مخصوصا يستشيرني، فرددت عليه بعض العبارات التي يمكن أن يُشتم منها أنها تكفر الناس، فليس كل من سيقرأ الكتاب سيدرك الحدود الفاصلة بين تكفير الأفعال وتكفير الأشخاص. وهذا الكلام قبل خروج سيد قطب من السجن.
وبعد خروجه، انتشر هذا الفكر بين الجهلة، واقتنع به العديد من شباب 1965، أو أقنعوا أنفسهم به بعدما رأوا من الأفعال الشنيعة في محاربة الإسلام وأهله. وهناك أشخاص من الموجودين في السجون الذين التقوا به في السجن؛ حملوا هذه الأفكار أيضا، ولم يكن هناك متسع من الوقت ليرد سيد قطب على هؤلاء الذين تقوّلوا عليه وفهموه خطأ، لا سيما مع التضييق الشديد على الجميع داخل السجن وخارجه.
سيد قطب كما أعرفه كان على خلق قويم وعلى فهم دقيق، ولم يكن يكفر الناس. وهذا ما أكده لي الأستاذ عمر التلمساني بعدما قابله في مستشفى طرة، بعدما كتب كتاب "معالم في الطريق". وكما قلت، فقد قرأت الكتاب قبل صدوره وبعد صدوره ونشره، ولم أفهم منه أنه كان يكفر الناس، والذين اتهموه بذلك وأعدموه لا أدري ماذا أقول فيهمّ! لا أدري ماذا أقول فيمن قتل سيد قطب وعبد القادر عودة والشيخ فرغلي ويوسف طلعت.. حسبنا الله ونعم الوكيل وحسابهم عند الله!!.. لو كان عندهم ذرة من إيمان أو ضمير ما أقدموا على مثل هذه الأمور. فاختلف معي ما شئت، وإذا أردت فاحجزني عن الحياة العامة، ولكن تقتلني؟!! شتان بين هذا الموقف الجبان وبين موقف حسن الهضيبي الذي كان يقول: لا أتحمل دم إنسان.. فهذه هي الرجولة الحقيقية.
مع أمي
مرت علينا السنون تلو السنون، والعيد تلو العيد، ولم أر والدتي لمدة 15 عاما داخل السجن، حتى جاء العيد حقا.. إن العيد في الغد.. وإن هذه الليلة هي ليلة العيد.. يا الله ما أجملها من ليلة!!.. ظلام حالك رهيب.. وزنزانة قذرة ضيقة.. وأصوات الحرس الخشنة، وسعال المساجين المستمر، وأصوات الحشرات والهوام وهي تدب وتزحف.. ومع ذلك كله غدا عيد...
وشرد ذهني بعيدا، وتخطيت جدار الزنزانة السميك، وتخطيت بذهني الأسوار والحراس، وشردت بعيدا.. مع ليلة العيد.. إنها ليلة ليست محسوبة من الأيام، فهي طيف جميل وحلم بديع، فيها تضمك الدنيا بأكملها، ويتعطر الجو وتتزين الحياة، ولكنها هنا في السجن طويلة كالحة حزينة ساهمة. وحاولت النوم، فلم أستطع، وتقلبت على فراشي الوثير الذي يتكون من "برش" ليف فوق الإسفلت.. ورطوبة الأرض برائحتها العفنة تعطر الجو..
لم أنم هذه الليلة قط.. وكيف أنام وأنا أعلم أنني قد تركت أسرتي.. أمي وإخوتي.. تركتهم جميعا لأنني فضلت وطني وديني عليهم، فكان نصيبي السجن ونصيبهم الحزن المحض والألم المرير.. كيف يقضي العيد هؤلاء المساكين؟ أمي الحبيبة وإخوتي الأعزاء، وأصدقائي الأوفياء.. لا بد وأنهم لم يناموا هذه الليلة مثلي متألمين لحالي.. لا بد وأنهم يعيشون هذه اللحظات معي كما أعيش أنا معهم.
إن الوفاء جميل.. وإن الإنسان الذي يملك حب هذه القلوب جميعا.. قلب الأم والإخوة والأصدقاء.. حقا هو السعيد حتى ولو كان في السجن.. وابتسمت ابتسامة عذبة، وغطيت وجهي، وتسرب النوم رويدا إلى عيني، فأسلمت نفسي للنوم في هذه الليلة.
ونمت، ولكن روحي حلقت هناك عند الأحبة.. سعيدة هانئة، ولكن تلك السعادة لم تكد تبدأ لتنتهي. فقد استيقظت من نومي، فرأيت الجدران ما زالت قاسية صلبة، والرائحة العفنة تتصاعد، والحشرات تسعى، والظلام الكئيب ينتشر.. لكن كلي أمل أن يأتي العيد لأقابل الأحبة الذين سيأتون إليّ ليزرونني، وستأتي أمه الحبيبة وأشقائي.
أشرقت الشمس، وأشرقت معها نفوس متلهفة، ووجوه المساجين المساكين، وأخذوا يهنئون بعضهم بعضا بالعيد.. حقا إن البشر يكسو وجوههم الفرح، ولكن الصدور تحمل ما تحمل من ألم دفين.
وجاء وقت الزيارة، فالزيارة مباحة للجميع في يوم العيد.. وحدث هرج شديد.. وانطلقت ضحكات صاخبة، وتبادل المساجين التهاني، ووزع البعض كعك العيد من السجن، وهو خبز أسود معجون بزيت قليل.. ونادى السجانون أسماء من لهم زيارة.. وأرهفت أذني، ولكن لم أسمع اسمي بين الأسماء في البداية.. وعلا وجهي الوجوم.. إنه أول عيد ألتقي فيه أهلي بعد خمسة عشرة عاما.. ترى ماذا أصابهم؟ ليتني أستطيع أن أفديهم بحياتي، ولكنها القيود.. والظلم هو الذي قيدني.
ترى ما الذي أخرهم؟!.. إنني لفي شوق شديد لرؤياهم. وانتبهت، فقد سمعت اسمي، فانطلقت سريعا لأزور أعز الناس عليّ في الوجود، وانتظرت أمام شباك كئيب مغطى بالأسلاك لضيقه، والحديد الغليظ.. ألا تبا لتلك القضبان.. ألا أستطيع أن أنتزعها لأستطيع أن أرى الأحبة ويروني؟! ودوى صوت هادئ.. إنه صوت الزائرين، وقد انطلقوا يتسابقون.. عشرات الرجال وعشرات النساء والأطفال، كل منهم ينادي بأعلى صوته على أخيه أو ابنه أو قريبه... أصوات عجيبة مختلطة، ولكنها رائعة النغم؛ لأنها تعبر عن الشوق والحب واللهفة والحنان.. ابني ولدي أخي.. أبي.. عمي.. خالي.. كل هذه الأسماء تتردد في وقت واحد من الطفل الحائر الصغير، ومن المرأة العجوز البائسة، ومن الأب العطوف، ومن الأم الرؤوم.. أصوات هادئة، ولكنها كنغم القيثارة.. وكصوت البلابل وكغناء الكروان.. وسمعت صوتا خافتا ينادي باسمي، فتلفت حولي.. ونظرت هنا وهناك، فرأيت أمي الحبيبة بوجهها الملائكي الصغير.. أماه.. انطلقت من فمي كصرخة مستغيث.. فسمعتها الأم، ولكن الأسلاك القاسية والقضبان الغليظة منعت من أن يلتحم جسدها بجسدي.. فدمعت عيناها.. عين الأم.. وأخذت تبكي بكاءً صامتا.
حاولت أن أمد يدي مرات لأضع ذلك الرأس الحبيبة على كتفي، وأمسح تلك الدموع بكفي وأقبل اليد، وأزيل عن ذلك الملاك الحبيب حزنه وألمه.. ولكن الأسلاك ردتني!
وجاهدت نفسي لأمنع تلك الدمعتين الكبيرتين من السقوط.. ولكن هيهات، فقد سقطتا تتدحرجان على وجهي.. وأحست بمرارة في حلقي، ولم أستطع إلا أن أردد تلك الكلمة الحبيبة.. أماه.. أماه.. أماه.. وأخيرا استطعت أن أتكلم وأن أملك زمام نفسي، فمسحت تلك الدمعتين الكبيرتين، وقلت لأمي: بربك لا تبكي يا أماه، فإن بكاءك يقطع قلبي ويمزق أحشائي. فمسحت الأم دموعها وابتسمت، حتى إنها جاهدت جهادا جبارا حتى تبتسم، وأخيرا أشرق ذلك الوجه الملائكي بابتسامة لترضي ابنها.. ابتسم وجهها، وفي قلبها نار تحترق. وأقبل الحارس بوجهه المقطب وشاربه الضخم وصوته الأجش؛ معلنا انتهاء الزيارة. فدمعت عيون، وغصت حلوق، واضطربت قلوب.. وودعت أمي وكأنهم ينتزعون منها فؤادها.
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف 22)
اقرأ أيضا: صفحات من الذكريات: رحلة في ذكريات عاكف (21)