قضايا وآراء

على إيران أن تشكر السعودية!

صابر كل عنبري
1300x600
1300x600

ليس خفيا على القاصي والداني، الحالة المزرية التي آلت إليها العلاقات الإيرانية السعودية، وإفرازات ذلك في عموم المنطقة. توحي السياسة السعودية أن إيران عدوها الأول والأخير، وأنها شغلها الشاغل الحاضر في جملة التصريحات، والقرارات والتحركات هنا وهناك، سواء تجاه جارتها قطر، أو التطبيع مع اسرائيل، أقله كما تعلن الرياض.


انطلاقا من هذه النظرة السعودية تجاه الجارة إيران، حينما نغوص قليلا في تقييم النجاحات والإخفاقات المترتبة عليها خلال السنوات القليلة الماضية وليس عقود زمنية، نجد أن النجاحات باهتة تكاد تذكر مقارنة بحجم الإخفاقات، إذ أن هذا "العدو" لايحتاج اليوم إلى جهد جهيد أو حتى ضئيل في مواجهة خصمه السعودي وسياساته، مادام الأخير نفسه ومنذ عقود يسلك مسارا خاسرا، نتائجه ومخرجاته تُربح إيران.

 

الباحث ليس بحاجة إلى تمعن وتمحيص كبير للوصول إلى هذه الحقيقة، فيكفي إلقاء نظرة عابرة على المشهد الإقليمي بماضيه وحاضره، ليكتشف أن كلام الأمين العام لحزب الله اللبناني قبل فترة وجيزة في محله تماما، عندما صرّح أن أخطاء السعودية ساعدت في تعاظم نفوذ إيران في المنطقة، كلام يسعفه الواقع الراهن ومسنود بالوقائع على الأرض.


ما من أزمة لها صلة بشكل مباشر أو غير مباشر بالجانبين السعودي والإيراني، إلا وخرج الأخير منها منتصرا لحد الآن ولو مؤقتا. آخرها "استقالة" الرئيس سعد الحريري، التي أرادت الرياض جعلها ورقة رابحة في مواجهة إيران، وإرباك المشهد، إلا أنها تحولت إلى أزمة خاسرة لها، وانقلب السحر عليها.

 

وبعد أن جاءت الرياح بما لا تشتهيه السفن السعودية، و"أحرج ولي العهد السعودي حلفائه بلاده التاريخيين في لبنان" حسب قول الخارجية الإيرانية، وكادت أن تخسرهم، اضطرت الرياض إلى السماح له بالعودة إلى دياره، معلقا استقالته حفاظا على ماء الوجه السعودي. هذا التراجع بحد ذاته يعد فشل ذريع للسياسات السعودية.


 هذا ما حصل أيضا في أزمة "الاستفتاء" في كردستان العراق، التي كانت الرياض من الجهات التي ورطت الأكراد في هذا المستنقع حسب قول بعض المراقبين، سعيا منها الضغط على إيران وتركيا معا لإرباك أوضاعهما الداخلية، ثم تخلت عنهم، بعد أن اكتشفت أن الكبير (أمريكا) لأسباب تخصها، ليست بصدد دعم الأستفتاء في هذا التوقيت. لكن الذي حدث أن إيران حوّلت ما اعتبرته تهديدا لأمنها القومي إلى فرصة ومكسب لها لإعادة الأمور في كردستان إلى ما قبل 2003.


وسبق تلك الأزمات، استحداث أزمة أخرى مع قطر بحجة علاقات الأخيرة مع إيران، إلا أنها عمليا دفعت الدوحة بقوة نحو طهران، باعتبارها البوابة الوحيدة المشرعة أمامها بعد إغلاق الحدود وفرض حصار خانق عليها برا وبحرا وجوا.


كما أن السعودية وعلى مدى سنوات مديدة، ساهمت بسياساتها المتأمركة تجاه سوريا في إراقة مزيد من الدماء السورية عبر بيعها الهواء للمعارضين السوريين، ودفعهم إلى قتال غير متكافيء بوعود طائشة، فبعد سنوات من مطالبتها برحيل بشار الأسد، أخيرا نزلت عند رغبة إيران وموقفها الداعي إلى ضرورة بقائه في السلطة.


وأخيرا، تحت ذريعة مواجهة إيران، ترتكب السعودية أكبر خطأ في تاريخها، بتوجها الجاد نحو التطبيع مع "إسرائيل".


لا شك أن المغازلة السعودية الإسرائيلية هذه الأيام، والتي على الأرجح ستتوج بعلاقات علنية رسمية بعد وصول الحاكم الفعلي في السعودية إلى العرش الملكي رسميا، ستصب في مصلحة إيران التي تتبنى منذ انتصار ثورتها عام 1979 سياسة دعم القضية الفلسطينية.

 

فالمتوقع أن تؤدي هذه السياسة السعودية إلى تقارب بين معارضي الكيان الإسرائيلي على امتداد العالمين العربي والإسلامي من أحزاب وجماعات وأشخاص، وبين إيران وحلفائها، على رأسها حزب الله.

 

لذلك ورغم الجرح والشرخ اللذين أحدثتهما الأزمة السورية في جسم الأمة الإسلامية، ليس مستبعدا أن يوّحد هذا الخطأ السعودي الجسيم مجددا، أصحاب مدرسة المقاومة سنة وشيعة، رغم أنه من المبكر أن يحدث ذلك على المدى القريب.


ومن ناحية أخرى، الهرولة الراهنة نحو اسرائيل، تعزز رواية طهران حول جملة ما جرى ويجري في المنطقة منذ 2011 ولاسيما في سوريا، باعتباره مؤامرة كونية لإنهاء المقاومة من جهة، والتطبيع مع إسرائيل من جهة أخرى.


ولعل أول نتائج ذلك، وبعد أن بلت السرائر، خروج حركة حماس عن خط الحياد المألوف منذ تأسيسها في الخلافات بين إيران والسعودية، فبعد استشعارها الخطر الداهم، نتيجة وصول حالة التطبيع إلى فصولها الخطيرة، لم تتردد في رفض تصنيف حزب الله حركة إرهابية في بيان وزراء خارجية الجامعة العربية الصادر في 19 تشرين الآول/ نوفمبر الماضي.


جملة ما سبق ذكره، تضعنا أمام سؤالين ملحين وجوهريين، دافعه الحيرة من التصرفات والسياسات السعودية، والتي تبعد كل البعد عن مصلحتها كبلد ودولة، هما: ما سرّ كل هذا الفشل السعودي، وسر النجاح الإيراني. أقله حتى يومنا هذا، والمستقبل لا يعلمه إلا الله.


في البحث عن الإجابة على السؤال الأول لا بد أن نعود إلى بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن سلّم الملك السعودي من على بارجة أمريكية في قناة السويس، مفاتيح قرار بلاده للإدارة الأمريكية، بعد التعهد بالحفاظ على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، لقاء حمايتها نظام الحكم السعودي.

 

فمنذ ذلك التاريخ إلى اليوم، القرار السعودي متأمرك، يخضع لرغبة صناع القرار الأمريكي. عليه سرّ كل هذا الفشل يعود إلى أن القرار السعودي مخطوف ولايتخذ وفق معايير المصلحة والمفسدة، والربح والخسارة، فأينما توجّه الإدارة الأمريكية، يتجه نحوه هذا القرار.


أما فيما يتصل بالسؤال الثاني، فسرّ نجاح إيران وتعاظم قوته يكمن في أخراج قرارها من بوتقة الغرب، وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1979، هذه هي الحقيقة، حيث قلما نجد دولة في المنطقة، تتخذ قراراتها في عاصمتها، وسواء أعجبتنا قرارات إيران أم لا، وأيا كانت نتائجها الإقليمية، فهي تتخذ في طهران، وفق المصالح التي يراها صناع القرار الإيراني بأعيينهم، وليس بعيون أخرى.


تبعية السعودية للإرادة الأمريكية أوصلتها لحالة يرثى لها، أفقدتها القدرة على تشخيص مصالحها، وباتت توجّها نحو الهاوية، وهنا لا أقصد انهيار الدولة والحكم، وإنما تحويلها إلى دولة ضعيفة مغلوبة على أمرها، بلا رؤية واستراتيجية.


الرياض بعد تحطيمها عناصر القوة في الأمة بتحريكها وتمويلها الثورات المضادة، اليوم ومن خلال التطبيع مع إسرائيل، تطلق رصاصة الرحمة على مكانتها في العالمين العربي والإسلامي، وتجعل من نفسها دولة عادية، مثلها مثل الدول التي لا وزن لها. وبذلك تكون قد أفشلت ما سعت إلى تحقيقه، وهو استبدال إسرائيل كعدو بإيران، وتجعل نفسها في موضع معاد للقضايا العربية والإسلامية.


التصعيد السعودي هذه الأيام ضد إيران، ليس لأجل مواجهة ما تصفه الرياض ليل ونهار بـ "الخطر الإيراني" على المنطقة، إنما يأتي في سياق استراتيجية الإدارة الأمريكية القاضية بجعل "إيران أولا" في مرحلة مابعد داعش. ثم توظف الرياض ذلك شماعة للتغطية على أمرين مهمين للغاية، الأول صرف الأنظار عن حقيقة ما يجري في الداخل السعودي، من تغييرات في بنية الحكم، تمهيدا لوصول محمد بن سلمان إلى العرش الملكي، والثاني، استخدام ذلك حجة وذريعة لعملية التطبيع مع "إسرائيل".


وعلى عكس ما يقوله البعض أن السعودية تلجأ إلى التطبيع مع إسرائيل لتدعيم موقفها في مواجهة إيران، اعتقد أن ذلك ليس صحيحا، بل أن التطبيع هو فاتورة سياسية على الحاكم السعودي الجديد دفعها للولايات المتحدة الأمريكية لقاء موافقتها على إبعاد حليفها المفضل محمد بن نايف وغيره من خصوم محمد بن سلمان، تعبيدا طريق الأخير نحو الجلوس على الكرسي الملكي. فالجميع يعلم أن الكيان الصهيوني لن يدخل حربا ضد أي دولة نيابة عن أحد إلا مصالحها الاستراتيجية. 


لذلك، فإن عملية التطبيع لا صلة لها أساسا بالعلاقة العدائية بين السعودية وإيران، وإنما يرتبط باستحقاقات سعودية داخلية، لكن لا يستبعد أن تكون هناك فاتورة أكثر خطورة من ذلك، على الملك السعودي الفعلي دفعها للولايات المتحدة والوسيط الإسرائيلي، وهي التوجه نحو مواجهة غير محسوبة مع إيران.

 

فليس مستبعدا أن الهدف الأمريكي من دفع الرياض باتجاه السياسات الخاطئة والمغامرات الفاشلة التي سبق ذكرها، هو إشعار السعودية بالفشل والهزيمة، ودفعها نحو خيار المواجهة أملا في تعويض ذلك.


الخلاصة أن السعودية قوة إقليمية لا يستهان بها، فما عندها من أسلحة متطورة مستوردة، ومكانة دينية مرموقة، لا يتوفر عند إيران، أما المشكلة أنها لا تملك إرادتها وقرارها، وإن ملكتهما، فإنها لا تستخدمهما في خدمة مصالح الدولة والأمة، وإنما مصالح العرش ومتطلبات بقائه. لذلك عدو السعودية اليوم ليس، لا إيران، ولا قطر ولا الإسلام السياسي، ولا أي جهة أخرى، سوى نفسها، فهي باتت تستهدف نفسها بنفسها، وتنال من قوتها وموقعها بنفسها.


كما أن الموجة التصعيدية الحالية، لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بما يوصف بتدخلات وتمددات هنا وهنا، وإنما لجعل ذلك شماعة، يتم توظيفها لإنجاح عملية التطبيع مع إسرائيل والتخلص من المسؤولية التاريخية تجاه القضية الفلسطينية.


ثم الحديث أن الرياض تستقوي بالتطبيع في مواجهة إيران ليس موضوعيا إلى حد كبير، والعكس صحيح حيث أنها تستقوي بهذه المواجهة لتسويغ التطبيع، فكما قلنا أنه ثمن يدفعه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان للكيان الصهيوني بعد نجاح وساطته لدى إدارة الرئيس ترامب، لتسويقه على حساب ولي العهد السابق محمد بن نايف الذي كان الخيار الأمريكي حتى نهاية عهد أوباما.


بعد كل ما سبق، لعله يتوجب على إيران اليوم أن تشكر السعودية على أخطائها الفادحة التي توفر لها الوقت والمال والجهد.

 

مع ذلك، وأخيرا، أيا كانت أسباب التصعيد بين إيران والسعودية الراهن، فالمنطقة حبلى بالعديد من المتغيرات الجسيمة، وهي على ما يبدو مقبلة على فصول مأساوية من هذا الصراع الإقليمي المرير، بحيث أصبح منسوب القلق من توجه الأوضاع نحو مواجهة عسكرية تأكل الأخضر واليابس آخذ في الارتفاع، حينئذ لن يكون هناك طرف رابح وآخر خاسر، بل الخسران فالخسران سيكون نصيب الجميع في نهاية المطاف.

 

الخيار الأنجع الغائب الذي من شأنه أن يحول دون وقوع "الكارثة الكبرى"، أن ينزل الكل من أعلى الشجرة، ثم إطلاق حوار على قاعدة "ربح ـ ربح" بعيدا عن المؤثرات الخارجية.

التعليقات (1)
د.اصلاني
الجمعة، 01-12-2017 07:21 ص
مقالة رائعة ممتازة جداً