أن يبقى الخلاف بين الفرقاء الليبيين سياسيا، فذلك أمر يمكن معالجته في يوم من الأيام، لكن أن ينقلب الأمر إلى دعوات تهدف لإقصاء بعض مكونات المجتمع الليبي بسبب التباين في المذهب وفي فهم جوانب من الإسلام، فتلك
فتنة ستجهز على وحدة الشعب وعلى تماسكه التاريخي.
وما حصل مؤخرا دليل جديد على أن بعض الليبيين مصرون على الاستمرار في طريق خاطئة ومسدودة.
بدأ الأمر بمجرد سؤال طرحه أحد المواطنين، يقطن بجبل نفوسة، يتعلق بمدى جواز الصلاة وراء إمام أباضي.
وكان ينتظر من اللجنة العليا للإفتاء التابعة لـ"الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية"، في المنطقة الشرقية أن تفتي بجواز ذلك، أو في حالة وجود إشكال أن تغض الطرف أو أن تجيب السائل إجابة فردية عند الضرورة، غير أن هذه اللجنة اختارت أن تصدر
فتوى عامة وعلنية، فكانت الكارثة.
لقد اعتبرت اللجنة الأباضية "فرقة منحرفة وضالة، وهم من الباطنية الخوارج وعندهم عقائد كفرية.. ولا كرامة" لهم..
هكذا تحولت الفتوى من مجرد الرد على مسألة فقهية إلى إعلان حرب على خمسة بالمائة على الأقل من سكان
ليبيا، حيث يتوزع الإباضون على مدن عديدة من بينها جبل نفوسة وطرابلس ومدينة زوارة الواقعة بالساحل الغربي لليبيا.
ولهذا كان من المنطقي أن يصف بيان عدد من المثقفين والنشطاء الليبيين الفتوى بكونها "تشكل خطرا محققا على السلم الأهلي".
واعتبروا "تصنيف المواطنين الليبيين على أساس مذهبي يحتكر فهم الدين لذاته، مشروع تقسيم طائفي يترتب عليه تقسيم سياسي"، لأن تكفير المذهب الأباضي "خطر يمس الأمن القومي ويقوِّض مبدأ التعايش من خلال تضليله وتبديعه، وتكفيره ضمنا لمذهب جزء أصيل من الكُل الليبي".
بناء عليه، تكون الإشعاعات السامة لهذه الفتوى قد تجاوزت الإطار الجغرافي الليبي لتشمل أيضا أباضية تونس المستقرين بجزيرة جربة، وأباضية الجزائر وكذلك العمانيين، حيث إن المذهب الأباضي هو مذهب أغلبية سكان السلطنة.
إن أصحاب الفتوى، سواء أكانوا على وعي بما يفعلون أم لا، قد انخرطوا في الخطة الجهنمية التي ترمي إلى بلقنة المنطقة وتفتيتها عبر فتيل الطائفية والصراع المذهبي الذي نجحت الإمبراطورية العثمانية رغم أخطائها الكثيرة في أن تسيطر عليه وتمنعه من أن يفجر الإمبراطورية لفترة طويلة.
لن نستعرض في هذا المقال القصير ما يتمتع به الأباضية، وأنا لست من أتباعهم، من مرونة وانفتاح وتسامح وقدرة على الاندماج في محيطهم السني، فتلك قصة أخرى، ولكن على كل الشيوخ والفقهاء في أي مكان من هذا العالم الفسيح أن يدركوا أن من مهامهم الاستراتيجية المحافظة على وحدة شعوبهم وأمنها القومي.
إن السلام الأهلي مقدم على الخلافات العقائدية والفقهية. وحماية السلم الأهلي واجب ومقصد من مقاصد الدين والشريعة بمفهومها العميق والشامل.
لقد كانت الفرق والمذاهب في تاريخ التجربة الإسلامية تجسيدا ميدانيا لقانون الاختلاف والتعدد الذي وضعه الله سنة من سننه في خلقه.
ولهذا السبب، فإن هذه "الفتوى" التي صدرت عن اللجنة العليا للإفتاء في ليبيا في حاجة ملحة وعاجلة لمراجعة مضمونها وأحكامها لكونها مخالفة لأحد مقاصد الإسلام والشريعة، إضافة إلى كونها تفتح الباب على مصراعيه لإضافة فتنة أخرى إلى جانب فتن عديدة اندلعت بين الليبيين، لتحرمهم من بناء دولتهم الديمقراطية والتمتع بثرواتهم، والتهيؤ للدخول في التاريخ مرة أخرى.
الليبيون اليوم في أشد الحاجة لمن يوثق العلائق بينهم بعيدا عن أي شكل من أشكال التمييز الجغرافي أو الجهوي أو المذهبي أو القبلي.
الليبيون يبحثون الآن عن شخصيات معنوية من الحجم الثقيل شبيهة بعمر المختار تتعالى عن خلافاتهم الحالية أو المورثة، وتدفعهم نحو أهداف كبرى يتجمعون حولها للخروج من حالة التفتت والتجزئة والتذرر.
وإذا لم يفهم الفقهاء الليبيون هذه المهمة، ولم يرتق وعيهم إلى فهم جوهرها ومتطلباتها وشروطها، فعليهم أن يدركوا بأن المستقبل لن يغفر لهم أي خطأ من شأنه أن يزيد من تبرير سفك الدماء وتذرير الوعي، وتهيئة الأجواء الداخلية لمزيد التدخل الخارجي في الشأن الليبي.
كونوا أيها الفقهاء سندا لأمتكم، ولا تكونوا نقمة عليها. حافظوا على استقلاليتكم العلمية والروحية، وتجنبوا الإصابة بتلوث الحياة السياسية، لأن ذلك من شأنه أن يحولكم إلى مجرد أدوات تحركها أطماع الباحثين عن السلطة في الداخل والهيمنة على سيادة ليبيا وثوراتها ومستقبلها من القوى الإقليمية والدولية.