منذ أيام انتهيت من قراءة رواية (ممر الفئران) للدكتور أحمد خالد توفيق، والرواية تصف عالما اختفت فيه الشمس، فتبدلت الحياة وصارت كابوسا.
فالبشر يتعاملون بنقود هي في الحقيقة ورق جرائد، ويأكلون لحوم القطط والكلاب. عالم لا ترى فيه ولا قيمة فيه للجمال ولا القبح. وفي بقعة ما من ذلك العالم يعيش سادة أثرياء فوق جبال الهيمالايا، يتمتعون بنور الشمس، وبكل مباهج الحياة.
الرواية تصف واقعا كارثيا انعكست فيه الأقطاب فصار الخير شرا والشر خيرا، وتعودت فيه النفوس على القبح، أو بالأحرى الظلام، فصار منهجا.
والدكتور أحمد خالد توفيق ناصري (وإن لم يبد ناصريا متحمسا) وهو ما يجعله بطبيعة الحال مخلصا لخط السرد (الرسمي) لأحداث التاريخ في النصف قرن الماضي.
وهي رؤية تجعلك تنظر للاحداث وكأنك تشاهد أحد أعمال الروائي الراحل أسامة أنور عكاشة.
على كل حال، لست أسعى لتقديم رؤية نقدية لأعمال الدكتور أحمد خالد توفيق، غير أن روايته الخيالية هذه بدت لي أقرب للواقع من رؤيته هو شخصيا، التي يعبر عنها في مقالاته.
الجميل في هذه الرواية، هو أن الكاتب يصل بك تدريجيا إلى حقيقة أن النور محرم، وأن الشمس جريمة، وأن الرؤية إثم. وأن من يعيشون فوق قمة الجبل تعمدوا حرمان الناس من الشمس، واحتفظوا بها لأنفسهم.
والحقيقة أن الحياة في
مصر أصبحت أقرب لممر الفئران. فالجنيه يتساقط، ولا يوجد من ينقذه، وأسعار السلع تتعامل مع ظهور المصريين كبناية تسقط على سوق مزدحم دون سابق إنذار.
وأنت في مصر تعيش في نور الشمس، وترى الموجودات من حولك، لكنك لا تستطيع أن تؤكد بضمير مستريح أنك لم تقرب لحم الحمير في حياتك (إلا لو كنت تنتمي إلى واحدة من الفئات المحظوظة).
منذ فترة، قرأت تعليقا لأحد الأمريكيين يصف فيه رحلته إلى مصر، ويتحدث عن توحش الفروق الطبقية، وهو يصف طريقا يفصل بين بيوت تبدو عليها علامات الغنى الواضح وبين منطقة فقيرة، قال عنها في تعليقه أنه حتى النمل يتعفف عن السكن فيها (لا أذكر التعليق على وجه الدقة، ولكنه لم يبتعد كثيرا عن هذا).
في مصر الآن مجتمعان. مجتمع منظومة الحكم العسكرية الذي اتخذ شكلا منظما منذ انقلاب تموز/ يوليو 1952، وعموده الفقري طبقة الضباط أو الاقطاعيين العسكريين الجدد، ومن حولهم الفئات الأخرى المحظوظة معيشيا، التي تمثل روافد للمنظومة العسكري، والتي تحصل على كل شيء.
وكلما ازداد قرب أحدى هذه الفئات من النواة العسكرية لهذا المجتمع، كلما ازدادت حظا.
وهناك المجتمع الآخر المليوني، ويمثل السواد الأعظم من الشعب أو الشعب المصري الشقيق، كما سماه عسكري الانقلاب.
والشعب المصري الشقيق، لم يفعل شيئا طوال الستين عاما الماضية، سوى التضحية من أجل (مصر).
ومصر التي يقصدونها في أدبيات العسكر ليست هي الأرض التي يعيش عليها المصريون. بل هي أحد أشكال "الأخ الأكبر"، فمصر لها شخصية.
ومصر تحتاجك يا رأفت كما في مسلسل رأفت الهجان الكوميدي (الذي اتضح فيما بعد أنه كان عميلا مزدوجا لصالح المخابرات الصهيونية)، ومصر هي أم هذا وذاك، كما يقولون في أغانيهم، ومصر تسأل عن "أولادها" كما يقول الحوار في أحد المشاهد في فيلم "الرصاصة لا تزال في جيبي".
وبعد الانقلاب، تطورت مصر كثيرا، فأصبحت تحتاج إلى النصف جنيه، والفكة، وأصبحت "تميل في خجل"، وأحيانا دون أي خجل على الإطلاق، على أذن الشعب المصري الشقيق، لتقترض منه، وأحيانا تقرر مصر أن ترفع أسعار الوقود.
ولا مانع لدى "مصر" في الاقتراض من الشعب المصري الشقيق، حتى لو كانت خزائنها مفعمة بما يزيد عن 40 مليار دولار، فمصر بعد الانقلاب أصبحت أكثر جرأة، رغم أنها أشلاء دولة.
والحقيقة أنني كواحدة من الشعب المصري الشقيق، أصبحنا نرى أن مصر "زودتها حبتين"، خصوصا وأن الدول التي تحتاج لزيادة أسعار الوقود لا تشترتي حاملتي هليكوبتر بمليارات، والدول التي تحتاج لرفع أسعار الوقود لا تفرط في حقول غاز ضخمة في شرق البحر الأبيض المتوسط للعدو.
أما ذلك الجزء من الشعب المصري الشقيق، الذي كان مخدوعا منذ أربع سنوات، ويأمل في الوصول لمرحلة "قد الدنيا"، فقد بات على يقين أن
الانقلابات العسكرية هي أقصر الطرق إلى المجاعات، وأدرك أن (مصر) التي يستعملونها ليست إلا "قناعا" ترتديه طبقة الإقطاع العسكري، لتبرر نهب ثروات الشعب المصري الشقيق.