ليست نهاية الطور الأول من الثورات العربية إلا مرحلة أولى في مسيرة التحرر والتحرير التي هي شرط الخروج من زاوية التخلف والموت. حقق هذا الطور هدف الكشف والتعرية بأن رفع الغطاء عن قتامة المشهد العربي مؤسسا بذلك لطور جديد سيشكّل مرحلة الحسم مع المستبد وأعوانه وثقافته ووعيه اليوم أو غدا..
تعود تونس إلى نقطة البدء لتواجه أكبر تحدياتها وهو المتمثّل في نحت جيل فكري وسياسي جديد قادر على تجاوز أطروحات نُخبٍ غير قابلة للإصلاح أو الترميم وصياغة منوال ثقافي وفكري يكون وليد سياقه التاريخي ولحظته الحاسمة وهي الثورة أولا والثورة أخيرا.
اليوم تخرج النخب التونسية الخاسر الأكبر من عشر سنوات من المُنجز الثوري العظيم رغم كل العثرات والانتكاسات فقد تحالف اليسار والقوميون مع الدولة العميقة وبان عجز الإسلاميين وضعفهم، أمّا بقية النخب فما كان همّها من الثورة غير المكاسب المادية أو المناصب السياسية التي حُرمت منها في عهد بن علي..
كل ما يمكن لوكلاء الاحتلال في البلاد العربية فعله هو تسليم البلاد للمستعمر بعد تخريبها كما حدث في العراق وسوريا، وهو الأمر الذي يؤكد أنّ الموجة الثورية الأولى التي أغلقت مؤخرا ستلحقها موجات جديدة لن تكون كسابقاتها ولن ترتكب ما ارتكبته من أخطاء..
لا تزال أمام الفرقاء في تونس فرصة لإنقاذ البلاد وإنقاذ المسار الديمقراطي قبل فوات الأوان لأن الطريق الذي انتهجه الرئيس المغامر طريق مسدود لا انفراجة فيه. عندها ستكون الأزمة الأخيرة التي عرفتها تونس درسا قاسيا للجميع حتى يدركوا خطورة الأمانة التي بين أيديهم..
كيف يُمكن لرئيس أوصله النظام السياسي إلى سدّة السلطة أن يعمل على نسف السُلّم الذي أوصله إلى حيث هو؟ كيف يمكن لرئيس مؤمّن على الوحدة الوطنية أن يزرع بذور الفتنة بين مكونات الشعب؟
إن وصول المساعدات الخليجية الفجائية وتهاطل التلاقيح وتوفر السلع والمواد الأولية فجأة يؤكد أن مخططا خطيرا معدّا مسبقا يستهدف المسار الديمقراطي في تونس لإلحاقها ببقية المشاهد العربية الكارثية..
لا حلّ في تونس إلا بالحوار وتغليب الحكمة وإعادة المؤسسات الدستورية إلى العمل ورسم خارطة طريق تلتزم بها كل الأطراف للخروج من الأزمة ومواصلة ترسيخ المسار الديمقراطي. لن ينتصر فريق على فريق آخر فالنصر الوحيد الممكن هو الانتصار على الأزمة التي تعصف بالبلاد وترسيخ المسار من أجل جيل الغد..
وضَع الوكيل الاستعماري بورقيبة أسس هذا الفساد لكنّ طاعون الفساد عرف انفجاره الأكبر في عهد المستبد بن علي الذي حوّل البلد إلى مزرعة للعصابات العائلية التي تحيط به واجتهد في تدمير المؤسسات ونسف المكاسب الاجتماعية وهو الأمر الذي أوصل البلاد إلى الانفجار الكبير في 2010..
لن تكون أمام المنطقة العربية من مخارج ممكنة بعد إجهاض الربيع العربي الذي جاء ثورة على الفساد وحربا عليه. فإمّا أن تتجدد الموجة الثورية لتصحح المسار وتقضي على الفساد فتمنع السقوط في الهاوية أو أن تقضي دولة الفساد على الأمة من الداخل فتنهار وتسقط في هوة لا خروج منها..
ما الذي يدفع الدولة العربية ـ إن سلّمنا جدلا بوجود الدولة ـ إلى توحش القمع؟ لماذا لا تتحرك المؤسسات الحكومية وغير الحكومية لحماية المواطن؟ لماذا يفشل الخارج دوما في منع الجرائم المتعلقة بالتعذيب أو انتهاكات حقوق الإنسان؟ وما هي النتائج الطبيعية لتوحّش الدولة العربية؟
فلسطين اليوم قضية إسلامية ببعد دولي، فهي تستبطن الصراع العقائدي بين أهل الأرض والمقدسات وبين قطاع الطرق من المستوطنين القادمين من وراء البحار، وهي كذلك قضية عالمية يتحرك لها كل وجدان رافض للظلم مطالب بالحرية لكل شعوب الأرض..
نقف اليوم أمام مرحلة جديدة من مراحل تاريخنا المعاصر وهي المرحلة التي ستعيد تشكيل أولويات الشارع العربي وعلى رأسها ضرورة مواجهة الاستبداد مهما كان الثمن ومهما كانت التضحيات لأنه قد بلغ آخر أطواره ولن يكون قادرا على الصمود والمواجهة بعد انكشاف دوره ووظيفته..
الأرجح في تونس أنّ الانقلاب لا يعمل على المنوال المصري بل يسعى فقط إلى إرباك المشهد وإفشال التجربة التونسية بإسقاطها في الفوضى والعدم والإفلاس. هذا الهدف يمثّل أسمى غايات الغرف الانقلابية في مصر والخليج والضفة المقابلة للمتوسط..
الثورة مسارات ومنعرجات وموجات متعاقبة وانكسارات ونجاحات وهو ما يجعل من ثورات الربيع فاتحة لموجات متعاقبة من التغيرات التي لن تتوقف مهما أوغلت الآلة الانقلابية في التنكيل والبطش. الثورات دروس وعبر وتراكمات لا تتوقف حتى تحقق الشروط التي انطلقت من أجلها مهما حاول الانقلابيون والمتحايلون السطو عليها..
لم تعد المنطقة قادرة على تحمل حالة الصراع والتشرذم والصدام بين الأحزاب والمرجعيات والقوى، بل صارت المجتمعات تبحث عن الحدّ الأدنى من التنسيق والاتفاق بين مختلف الأطراف حول حلول عملية واقعية لأزمات الشعوب..