لا يزال في تونس وفي غيرها من الدول العربية من يعتقد بضرورة منع الكتب الدينية من التداول في الأسواق، ويبررون ذلك بكونه من الوسائل التي من شأنها أن تساعد على محاصرة الفكر المتشدد وتوفير الحماية الضرورية للشباب المقبل على التدين.
لقد سئل مدير معرض الكتاب في تونس حول هذه المسألة بالتحديد فكان جوابه وجيها ومقنعا. قال إن "مبدأ الحرية والتعدد في مصادر المعرفة لا حياد عنه، وإن الكتب التي تمنع هي في الواقع تمنع نفسها بنفسها، لأنها لا تستجيب للمعايير المنصوص عليها في القانون الداخلي للمعرض". أما بخصوص الكتاب الديني فقد أوضح شكري مبخوط أنه "لا يمكن منع الكتب الدينية لأنها ضرورية للثقافة الشاملة للناس. ولكنه أوضح بأنه لا يمكن السماح للمنشورات التحريضية التي ليس لها أي هدف ثقافي".
كان هذا الجواب منتظرا من مثقف وروائي اشتهر مؤخرا بروايته "الطلياني" التي حصدت عديد الجوائز، واستعرض فيها جواب من أزمة اليسار التونسي التي واكبها ورصدها من موقع القريب والناقد.
وللكتاب الديني قصة في تونس، حيث سبق لأجهزة الرئيس السابق بن علي أن شنت حملة شرسة على ما اعتبره بعض مثقفي تلك المرحلة الذين وضعوا أنفسهم في خدمة النظام ومؤسساته الأمنية "مصادر الفكر الظلامي". يومها كان معرض الكتاب المناسبة الأكثر وضوحا لممارسة أبشع أنواع الرقابة على جميع دور النشر العربية بدون استثناء.
وكان يومها شخص يزعم بأنه أعلم خلق الله في اكتشاف الكتب المتطرفة، حتى بلغ به الأمر أن يجرؤ على منع تفاسير للقرآن وكتب للحديث النبوي. وهكذا مرت البلاد بحالة تشبه القحط في المجال الديني. فماذا كانت نتيجة هذه الرؤية الأمنية للظاهرة الدينية والثقافية؟ كانت النتيجة مناقضة تماما لأهداف وأغراض مثقفي السلطان، لأنه بدل أن تؤدي هذه السياسة إلى تراجع التشدد الديني وانحصاره، حصل العكس تماما قبل الثورة وبعدها. لأن ما يتجاهله البعض أن ظاهرة الغلو الديني بدأت تتشكل في تونس خلال فترة التسعينات من القرن الماضي رغم الحصار الأمني الواسع، ورغم الجهود التي كانت تبذل في سبيل اجتثاث الإسلاميين وتنفيذ سياسة "تجفيف المنابع".
لا أحد يمكن أن ينكر وجود خطاب ديني تحريضي يروج للتشدد والتكفير والكراهية والعنف. هذه حقيقة ملموسة يكتوي بها المسلمون يوميا، ويذهب ضحيتها الآلاف من الشباب الذين استهواهم هذا الخطاب وجرهم إلى طرق مسدودة بعد أن حولهم إلى قتلة يلاحقون في كل أرجاء العالم في حين أنهم يعتقدون بكونهم يحسنون صنعا.
لا خلاف حول وجوب مواجهة هذا الخطاب بجدية وعزم، لكن كيف؟
لا نعتقد بأن حجب الكتب الدينية بشكل مطلق من شأنه أن يقضي على التشدد لأن الثقافة الدينية واسعة ومتشعبة وليست ذات لون واحد، وفيها قدر كبير جدا من الاعتدال ومن الأبعاد الروحية والأخلاقية التي تحتاجها المجتمعات الغربية والإسلامية وكذلك الإنسانية. من الخطأ أن يتصور البعض بأن الخطاب الديني واحد، وإنما هو متعدد ومتشعب ويحمل في طياته الثوابت وكثيرا من المتغيرات. لهذا تعتبر أي محاولة لمواجهة الكتب الدينية بإطلاقية شكلا من أشكال الاعتداء على الحرية الدينية، وقد ترتق إلى درجة مواجهة الإسلام كدين وكمعتقدات.
لا يعني هذا السماح بأي خطاب يروج للكراهية والاعتداء على الأفراد والمؤسسات، لكن لابد من التمييز هذا النمط من الكتابات التحريضية وبين الإنتاج الثقافي الديني الذي قد نختلف معه لكن ليس من حق أي كان أن يضع نفسه وصيا على الناس وأن يفرض عليهم آراءه وأذواقه.
المؤكد أن أي نوع الفكر لا يمكن القضاء عليه بأي شكل من الأشكال. والتاريخ يشهد على ذلك. هناك حاجة ضرورية جدا لبناء خطاب إسلامي متماسك وقادر على إقناع الناس بأن الدين رؤية مغايرة تماما لما أصبح رائجا في بعض الأوساط. الخطاب الناضج والمعبر عن هموم الناس واحتياجاتهم هو القادر مع تغيير الواقع المحلي نحو الأفضل على أن يشكل بديلا حقيقيا للغوغائية ولكل خطاب مفخخ مشحون بالرغبة في قتل الأبرياء في كل مكان تحت عناوين وتبريرات متعددة.