قضايا وآراء

من "الإسلام الديمقراطي" إلى "الحركة المحافظة"

1300x600
تنطلق هذه الأفكار المتواضعة من الفرضية الإجرائية التالية -وهي فرضية بحثية موضوعة للنقاش العام ولا تدّعي إلا تدبّر "علّة" مفردة من جملة علل "موضوعية" معقّدة يجب درسها خارج منطق التفسير بأحادية العامل، وخارج هيمنة الرؤية الثقافوية أو الإرادوية -: إنّ الحديث عن انتقال "حركة النهضة" من "الإسلام السياسي" إلى "الإسلام الديمقرطي" لا يجب أن يكون لحظة معرفية نهائية قد توهم بتجاوز "السمعة السيئة" للإسلام السياسي وآثاره السلبية على مسار الانتقال الديمقرطي، بل يجب التعامل مع هذه "المراجعة النقدية" باعتبارها مجرد لحظة انتقالية/وسيطة ستعمق أزمة حركة النهضة في علاقتها بشركائها وخصومها على حد سواء وذلك إذا لم يعقبها تجاوز مبدئي ونهائي لاحتكار سمة "الإسلامية" تمهيدا للانتقال إلى مرحلة "الحركة المحافظة" التي لا تكون فيها المرجعية الإسلامية إلا رافدا من روافد الانتظام الحزبي. وهو ما يعني –من جهة أولى- تحولا كبيرا في مستوى الفلسفة السياسية لحركة النهضة وإمكانا أكبر للانتظام السلس داخل الحقل السياسي التونسي المعلمن والمتوجّس خيفة من الحركات الإسلامية كلها، كما يعني -من جهة ثانية- استهداف قاعدة انتخابية جديدة تجمع بينها سمة المحافظة دون أن تكون متجانسة دينيا بالضرورة، أي دون أن تعتبر "الإسلام" مشروعها السياسي.

إذا كان الانتقال من "الإسلام السياسي" إلى "الإسلام الديمقراطي" قد خضع لاعتبارات براغماتية دولية وإقليمية ليس أقلها وزنا السمعة السيئة التي غلبت على حركات الإسلام السياسي بعد تغوّل الحركات الجهادية التكفيرية، فإنّ الانتقال من "الإسلام الديمقرطي" إلى "الحركة المحافظة" يجب أن يتم لاعتبارات براغماتية داخلية ليس أقلها وزنا طبيعة الحقل السياسي التونسي المعلمن والكلفة الكبيرة التي يجب على التونسيين دفعها في صورة ما استمر الاستقطاب الخطير بين "الإسلاميين" و"العلمانيين". وهو ما يعني ضرورة إبعاد "الإسلام" عن واجهة الانتظام الحزبي والعمل السياسي لكن دون أن يعنيَ ذلك إخراج "الإسلام" من دائرة المجال العام باعتباره مشتركا ثقافيا وأنثروبولوجيا بين كل التونسيين، وهو مشترك لا يحق لأي طرف أن يدّعيَ أنه يمتلك المعنى الصحيح والنهائي له. وأحسب أنّ على حركة النهضة لن تنجح في هذا المسعى ما لم تدفع إلى مركز القرار بنخبتها الليبرالية التي تمارس السياسة بعيدا عن الشرعية "المشيخية" التي لم تنجح إلا في استعادة صراعات الطائفة المنصورة والفرقة الناجية بعيدا عن أي أفق مواطني جامع، كما أنّ على حركة النهضة أن تستلهم ذلك "الابستيمي" الذي كانت تتحرك فيه نخبتها المثقفة قبل الهولوكسولت الذي تفرق النهضويون بعده أيدي سبأ. وهو استلهام لا مهرب منه لتحييد الآثار الكارثية للإسلام الفضائي ونواته الوهابية المتحكمة في الكثير من النهضويين بعد أن استحكمت سياسات تجفيف المنابع ولم يبق للروح إلاّ أن تطلب زادها حتى في مواضع السراب وإن حسبها الظمآن ماء.

كانت فترة بن علي حربا على "الثقافة غير المدجنة" وعلى الحرّية بكل تجلياتها غير الخاضعة لاحتكار الدولة ولرهاناتها وغائياتها القصوى التي تأسست على أسطورة تأسيسية هي "النمط المجتمعي التونسي". ولم تكن "سياسة تجفيف المنابع" والحرب على النهضويين إلاّ المظهر الأوّل لسياسة حكومية "ممنهجة" تهدف إلى ترويض الهوامش الجهوية والثقافية والسياسية والنقابية والإبداعية مهما كانت خلفياتها. لكنّ هذا الأمر لم يكن مفهوما –وربما لم يكن ذا أولوية- عند الكثير من النخب التي انتمت الى التجمع أو خدمت سياساته "الاستئصالية" بدوافع مختلفة ليس هذا موضع تفصيلها أو محاورتها نقديا. ولعل السؤال الذي يُطرح على النهضة بعد ثورة 14 جانفي هو لماذا عجزت عن الارتفاع إلى مستوي اللحظة أو "الأمانة" التي أودعها مئات الآلاف من التونسيين إياها بعد انتخابات المجلس التأسيسي، بل حتى بعد انتخابات 2014. 

لقد دخلت النهضة الحقل السياسي الذي انبثق بعد "الثورة" بكوادرها السابقة في مستوى القيادات الوسطى والعليا -وهم الذين توقّف الزمن الثقافي عند أغلبهم بحكم القمع و التشريد والسجن ورجعوا إلى مركز المجال العام بحكم رمزية نضالية أو دينية لا تتساوق بالضرورة مع أحقية سياسية"براغماتية"- وبقواعدها الجديدة، وهي قواعد "شبه سلفية" أو سلفية معتدلة أو إخوانية صريحة، ترى ضرورة الأخذ بالتدرج في "أسلمة المجتمع"، وهي -في أغلبها- تعادي التدين الشعبي وانتظاماته الصوفية، كما تقرأ المجال العام "الحداثي" وتتعامل معه بمفاهيم فقهية تراثية تنحدر من الأدبيات السلطانية و تحديدا من المدرسة الحنبلية الجديدة في شخص ممثّليها الأبرزَين ابن تيمية وابن القيم ومن بعدهما محمد بن عبد الوهاب وما تفرّع عنه من سلفيات علمية ترتبط بمرحلة الدولة ومنطقها "المهادن" ، أو سلفيات جهادية ترتدّ إلى "مرحلة الدعوة" كما بيّنها عمليا آل الشيخ ومريدوهم في صيرورة بناء الدولة السعودية ومراحلها الثلاث. 

ولكنّ ما عمّق من أزمة النهضة هو طبيعة الخصم الذي كان عليها أن تتعامل معه، ذلك الخصم الذي كان من المفترض أن يحاورها ويحرجها وينتقدها للتأسيس "معًا" للجمهورية الثانية لا للعودة بالملف الإسلامي إلى المقاربة الأمنية ذات المنطق الاستئصالي كما كان الأمر في عهد المخلوع . بعد الثورة توحّد الكثير من "الحداثيين" و"التقدميين" في تحالفات "ما بعد أيديولوجية" أساسها مركزية التناقض مع الإسلاميين وهامشية التناقض مع بنية الاستبداد. رغم اختلافاتهم المرجعية وصراعاتهم التاريخية، اصطف هؤلاء "الحداثيون" في خندق واحد  للدفاع عن "النمط  المجتمعي التونسي" الذي كانوا يرونه مهددا بالإسلاميين لا بورثة البنية التسلطية ونواتها الأمنية-الجهوية ومنطقها الزبوني. لقد كانوا يرون أنفسهم الأولى بذلك الميراث بحكم "المشترك القيمي" اليعقوبي والتوجه الحداثي الذي هو أساس بناء الدولة الوطنية منذ الاستقلال، والذي كان من المفترض أن يعطيهم "شرعية ثقافية" لم تجد ما يناظرها في مستوى "الشرعية الشعبية". ولذلك لم تشجع هذه النخب الحداثية أي حوار عميق وهادئ مع الإسلاميين، كما قاومت أي انفتاح للمجتمع السياسي على المكوّن الإسلامي الذي هو -في تمثّلاتها المترسّبة من زمن بن على من جهة أولى، أو من مسلّمات إيديولوجية من جهة ثانية- غير قابل للاندراج في المشروع الوطني وغير مؤهّل للمشاركة في المرحلة التأسيسية للجمهوية الثانية. ولا يخفى ما في هذا المنطق من "رواسب" سلطوية لا تختلف كثيرا عن أنساق الحجاج التي اعتمدها بن علي إبّان محرقة الإسلاميين بهدف إقصائهم من المجال العام، وهو إقصاء  ومن بعدهم سيتمّ إقصاء كل الوطنيين من الدساترة واليساريين والبعثيين والقوميين الذين "أُكلوا يوم أُكل الثور النهضوي" من حيث لا ينتظرون، وذلك بحكم "تغوّل" الدولة الأمنية واستحالة مواجهتها في الشارع بعد زوال "الخطر الإسلامي"، ذلك الخطر "المتخيّل"أو"المصطنع" في جزء كبير منه.

من الصعب على المراقب المنصف أن ينكر تحرّك  النهضة -منذ الثورة وإلى الآن- ضمن إكراهات داخلية وإقليمية ودولية لا تُحسد عليها ولم تترك لها  خيارات أو بدائل كثيرة ، ولكن من المؤكد –بحكم قاعدتها الانتخابية وامتداداتها الشعبية- أنّ مواقفها وخياراتها التكتيكية والاستراتيجية  تتجاوزها كتنظيم سياسي وسيكون لها نتائج هامة على كل الفاعلين الجماعيين مهما ظنوا أنهم في مأمن من ذلك.  لم تنجح النهضة"إلى الآن"-حتى بعد مرحلة التوافق وحكومة الوحدة الوطنية- في أن تكون جزءا مقبولا من الحقل السياسي "القانوني" المعلمن، وذلك لأنّ أغلب الفاعلين السياسيين-الذين يعتبرون الإسلام السياسي عدوا وجوديا لا شريكا أو حتى محاورا جيدا- قد استغلّوا الخطر التكفيري الإرهابي لشيطنة كل الإسلاميين مهما تباينت أطروحاتهم . فقد اختزل أولئك الفاعلون جميع الإسلاميين ضمن  كتلة رجعية "متجانسة" في بنية تفكيرها العميقة رغم اختلافاتها الظاهرية-، ولم تستطع نتائج الانتخابات السابقة ولا أزمة"الشرعية الشعبية" التي واجهت التيارات الحداثية، أن تدفع بتلك التنظيمات الدستورية واليسارية الى القيام بمراجعات جذرية في أطروحاتها، بل غذّت طبيعتها الصدامية ومنطق الاصطفاف الايديولوجي لديها، مستبدلة السلوك النقدي اللازم لتجاوز أخطاء الماضي بمنطق تبريري أساسه "وهمها الذاتي" باعتبارها ممثّلة لمشروع "مجتمعي" تقدمي" و"حداثي" يتناقض جذريا مع المشروع النهضوي "الرجعي" و"الظلامي"، كما لم تنجح النهضة أيضا في أن تُقدّم خطابا "بديلا" لإسلام الفضائيات ذي التوجه السلفي أو لخطاب "الخلافة" ذي المرجعية التحريرية. 

إنّ "الحزب المدني ذي المرجعية الدينية" هو واقع "قانوني" في المجال العام التونسي، ولكنه لن يتحوّل إلى واقع "ثقافي" أو حتى "سياسي مخصوص" يمكن تمييزه عن الأطروحات اليعقوبية والأطروحات السلفية-التحريرية على حد سواء ما لم يجد محاورين جيدين سواء داخل الدائرة الإسلامية أو داخل الدائرة العلمانية. فالانتقال من "الإسلام السياسي" إلى "الإسلام الديمقراطي" هو مجرد قفزة في فراغ أو مجرد مجاز ينضاف إلى قائمة المجازات والادعاءات الذاتية في صورة بقائه بدون محاورين علمانيين"جيدين" يعملون -من جهة أولى- على ترسيخ المراجعات داخل الدائرة النهضة وتثمينها بدل بخسها حقها وتتفيهها، كما يعملون-من جهة ثانية- على مراجعة خطاباتهم وما يؤسسها من أساطير وترسانة مفهومية لا تنفصل عن  اللائكية الفرنسية المأزومة حتى في مجالها التداولي الأصلي، تلك اللائكية التي جعلت من اللامفكر فيه عند أغلب النخب الحداثية إمكان إدارة العلاقة بين الإسلاميين والعلمانيين خارج إطار التنافي أو الإلغاء المتبادل،  كما كرّست النظرة للإسلاميين باعتبارهم عدوا وجوديا ينبغي استئصاله لا مجرد خصم سياسي ينبغي محاورته والعمل معه، وهي نظرة خطيرة لا يمكن إلا أن تغذّي التطرف في الجهة الإسلامية لأنها تجعل المنتمين إليها يرفضون دولة المواطنة بأريحية كبيرة بحكم غياب أي موضع لهم –اللهم إلا موضع الأضحية- في الدولة الحديثة وفلسفتها السياسية كما تدافع عنهما النخب"العلمانية".