قضايا وآراء

هل "المواطنة" أفق ممكن في دولة مسلمة؟

1300x600
ينطلق التساؤل الوارد في العنوان من موقع مناقض لموقع التلفظ الذي يحكم  مقولة"الاستثناء الإسلامي"، تلك المقولة التي أنتجها العقل الاستشراقي وتلقّفها الكثير من تلامذتهم في بلداننا العربية الإسلامية رغم محدوديتها التفسيرية، ورغم تعبيرها عن نزعة التمركز الغربي أكثر من تعبيرها عن الرغبة الحقيقية في فهم الآخر بعيدا عن استراتيجيات الهيمنة. والاستثناء الإسلامي مقولة تتمركز حول مصادرة مفادها أنّ الاسلام في جوهره-وليس في أشكاله التاريخية فحسب- يتعارض مع فلسفة الدولة الحديثة. فليس التناقض بين الإسلام السياسي والحداثة إلا مظهرا من مظاهر تناقض أصلي وغير قابل للتجاوز بين الدين الإسلامي ومقومات الدولة الحديثة وما يؤسسها من فلسفة سياسية ومنظومة حقوقية كونية.

لا شك في أن هذا التفكير الجوهراني واللاتاريخي يحتاج إلى دراسات معمقة لبيان تهافت منطلقاته ونتائجه على حد سواء.  وليس هذا المقال موضوعا لهذا الغرض، وإنما هو موضوع للمساهمة المتواضعة في أن نفكّر"معًا" في واقعنا المعقّد  بعيدا عن أحادية صوت "الداعية" وبعيدا عن الرعب من سوط الحاكم. ولأنني دافعت دائما عن المشروع المواطني الاجتماعي الذي لا يستثني الإسلاميين ولا يعتبرهم جزءا من مشكل التخلف والتبعية في الدولة القُطرية، بل جزءا من الحل لبناء دولة المواطنة التامة، فإنني أعتبر أن المهمة الأساسية للمشتغل بالشأن العام من حقل معرفي معين هي طرح الأسئلة الحقيقية على الجميع وإحراجهم بلا استثناء، مع محاولة تقديم بعض عناصر الإجابة عنها دون أن يتوهّم أنه قد أصبح بديلا للسياسي أو تجليا للعقل المطلق في التاريخ . ولذلك جاء المقال أساسا في شكل تساؤلات. عسى أن يجد القارئ فيها  بعضا ممّا يثير تفكيره، وعسى أن يعذرني فيما اختلفنا فيه أو خيّب أفق انتظاره....فالطرق إلى المطلق الديني –وإلى الحقيقة الاجتماعية النسبية  أيضا- بعدد أنفاس الخلق و إن حصرها البعض في ما يؤمنون به دون غيره:

1 – إذا كان الحديث عن إسلام أو عن إسلاميين لا معنى له ما لم يتم ّ تخصيصه ، فإنّ "الإسلام" هو في أغلب استعمالاته مجرد استعارة كبرى ما لم نعيّن حامله الاجتماعي في الواقع التاريخي. إن هذا المنهج وحده هو الكفيل بإجابتنا عن  طبيعة المشروع الإسلامي الذي نتحدّث عنه؟  فهل نحن نتحدث عن مشروع المعتزلة أم المحدثين قديما؟ أم نتحدث عن مشروع النهضة أم حزب التحرير أم الدعوة والتبليغ أم السلفية بمختلف تلويناتها الحديثة؟ هل نتحدث عن مشروع إسلامي أم في الحقيقة عن مشروع إحياء مذهبي (سني أو شيعي)؟  هل تحمل هذه التيارات الدينية مشروعا واحدا للمجتمعات الحديثة حتى يكون الحديث عن مشروع " إسلامي" حديثا مطابقا لموضوعه وليس مجرّد ضرب من "الانشاء " ؟ وهل توجد للحركات الإسلامية مشاريع مجتمعية حقيقية أم مجرّد مشاريع "أخلاقية "هي في جوهرها رغبة في استعادة "العصور الذهبية" للإسلام، تلك العصور التي ليست عند الباحث الجاد إلاّ ضربا من البناء المخيالي أكثر من كونها تجربة تاريخية حقيقية؟

2- هل يرتقي المشروع الإسلامي -والأصحّ هو الحديث عن مشاريع إسلامية داخل المجال السني أو الشيعي ، أي مشاريع مذهبية- الى مستوى الاستعارة الكبرى التي يدّعي الحديث باسمها أي "الإسلام"؟ إنّ الإسلام يظلّ دالاّ "فارغا" إن لم تتوّسط عملية تلقيه وفهمه كلّ تلك المرجعيات المذهبية العليا من فقهاء وأصوليين و علماء كلام وملوك  وغيرهم. إننا أمام  بناءات فكرية لا يظهر أنّ أصحابها مستعدون -في المستويين النفسي و المعرفي- لأن يتوجهوا في مشروعهم السياسي لغير المؤمنين (أي لغير السّنة المالكية الأشعرية التابعين للتراث الزيتوني بالنسبة للنهضة، و لغير الحنابلة الوهابية التابعين للتراث الحنبلي في العقائد بالنسبة للسلفية، و لغير الاثني عشرية التابعين للحوزات العلمية بالنسبة للمقالات الشيعية التي انتجتها الثورة الايرانية). فهل نتصوّر أنّ هذه الخطابات (بحكم مرجعيتها) تستطيع التوجّه لغير أولئك الذين يشاركونها اختياراتها الفقهية العقدية المذهبية؟ وهل استطاع الفكر "الإسلامي " الحديث والراهن (خاصة منذ ظهور الحركة الوهابية في الفضاء السني، ومنذ الثورة الإسلامية في الفضاء الشيعي) أن يتجاوز عتبة المذهب والفرقة ليخاطب المسلمن جميعا قبل أن نطالبه بمخاطبة غيرهم؟ إنه سؤال تبدو الإجابة عنه واضحة بحيث لا يمكن موافقة "الإسلاميين" في ادعاءاتهم بتجاوز التسييجات والرهانات المذهبية، اللهم إلاّ من باب المكابرة و التلبيس. 

3- إذا كان الفكر "الإسلامي" عاجزا عن توسيع مرجعيتة التراثية لينفتح على المذاهب و التيارات الأخرى، فكيف ننتظر منه أن يتوجّه الى "المواطن" الذي لم يعد يُعرّف نفسه أو يعيش محكوما بالمنظورات الفقهية أو الكلامية التقليدية؟ من الواضح أنّ  المشروع السياسي الإسلامي هو مشروع لم يستطع بعدُ أن يخرج عن الشبكة المفهومية القيمية الناظمة لحياة المجتمعات التقليدية، و ليس قادرا بالتالي على استدماج  الإشكالات والمفاهيم و الرهانات السياقية المعاصرة الاّ باعتارها جزءا "تكميليا" لمشروع تام . إذ  كيف يمكن تحكيم مفاهيم الحلال و الحرام والكفر والايمان و الهداية و الضلال وغيرها لإدارة مجتمع "حديث" لم يعد مطابقا للجماعة الايمانية المتجانسة في المجتمعات التقليدية، مجتمع لا يحمل فيه كل المتصارعين نفس هذه المرجعية الدينية ولا يرونها معبّرة بالضرورة عن المشروع المجتمعي الذي يريدونه على أساس المواطنة ومفاهيم حقوق الانسان بالمعنى الفلسفي الحديث؟ وكيف يمكن لهؤلاء أن يكونوا معنيين بخطابات منبرية-مسجدية لا تُلزمهم فكريا ولا سلوكيا ولا يرون أنها تتجاوز مستوى تنظيم الحياة الشخصية للمؤمنين بها؟

4- لا شك في أنّ الحركات الإسلامية التي قبلت العمل الحزبي ورضيت بقوانين الديموقراطية هي أحزاب "معلمنة" بحكم الواقع وان رفضت الإقرار بذلك -على الأقلّ بالمعنى الذي حدّده المرحوم عبد الوهاب المسيري للعلمانية الجزئية-. فهل تملك هذه الأحزاب الشجاعة الفكرية والايمانية والانتخابية  لتعترف بهذا الواقع أمام قواعدها ؟ إنّ هذا القبول بالعلمانية يجعل الأحزاب الإسلامية  مضطرة إلى إعادة النظر في خطابها باعتباره خطابا "سياسيا"-من جملة خطابات أخرى- ولكنه خطاب ذو مرجعية دينية. وهو ما يعني البحث في السبل التي تجعله يتوجّه الى "المواطن" باعتباره هوية فلسفية وقانونية "تامّة" وليس باعتباره هوية "دينية" ناقصة يسعى الإسلاميون الى إتمامها بخطاب دعويّ.

5-كيف يستطيع الفكر الحداثي العلماني على الطريقة اليعقوبية الفرنسية –التي هي أسوأ النماذج العلمانية وأكثرها تطرفا- أن يترك موقع النضال الايديولوجي والعداء الماهوي للدّين - وليس فقط مجرّد العداء  للإسلام السياسي أو للتعبيرات الدينية "العليا" أو المدينية التي تُجسّد رهابه المعمّم من كل أطروحات الثقافة الاسلامية "العالمة في مقابل تفهّمه و توظيفه للتديّن الشعبي في اشكاله الأكثر ايغالا في العقلية السحرية - "؟  وكيف يمكن لدعاة الحداثة أن يساهموا في تطوير الفكر الديني التقليدي من غير تحكّم أو إسقاط للنماذج التفسيرية الموضوعة في المركز الغربي من جهة أولى ، ومن غير خضوع لإكراهات "الانتظارات الجماعية" المحكومة بالمتخيّل التراثي و المفاهيم الفقهية-الأصولية من جهة ثانية؟ لا شكّ في أن التواضع المعرفي ضروري ، ولا شك أيضا في أن التعايش بين المختلفين جذريا يفترض وضع المسلمات والبداهات والصور النمطية كلها موضع التساؤل ، بل موضع التفاوض الاجتماعي لبناء معرفة حوارية توافقية يلتزم بها الجميع رغم اختلافهم فكرا وسلوكا.
   
ليس ما يخشاه التونسيون والتونسيات-ومعهم الكثير من العرب- هو الإسلام بما هو ديانة أو تجربة روحية أو حتى لما هو منهج للحياة الفردية، وانما هم يخشون تلك الدعوات الدينية التي تحرّم أغلب المسالك الى وجه الحق وتضيّق على الناس واسعا وتحملهم على غير ما يرتضون، تلك الدعوات التي يكثر فيها الموقّعون عن رب العالمين ظاهرا وما وقّعوا في الحقيقة إلا عن حظوظ أنفسهم وحظوظ من يقف وراءهم، كما أنّ ما يخشاه التونسي ليس العلمانية أو الفصل الإجرائي بين الدولة والدين ،بل ما بلغ الى مسامعه من "الفهم الفقهي" لها من جهة أولى، وما عاشه، من جهة ثانية، من ارهاب فكري على عهد  نظام المخلوع وسياسة تجفيف المنابع التي أشرف عليها منتمون الى التيار العلمانوي الفرنسي اليعقوبي المنهج ،الكونتي الفلسفة ،اليساري الإيديولوجيا. وأحسب أنّ على الفاعلين الجماعيين في المجال السياسي و الثقافي أن يتخفّفوا قيلا من سلطة الذاكرة الجريحة ومن إغراءات النبوءات الكاذبة( كالخوف على الهوية والخوف المضاد على مكتسبات الحداثة) ليتمّ التعامل مع الواقع التونسي "الان- وهنا" من غير إقصاء و لا تهميش ومن غير مثاليات تقفز فوق نقاط التباين الجذري التي ينبغي حلها تفاوضيا لا تهميشها أو كبتها وذلك اعتمادا على منطق الحوار والتفهّم المتبادل.